
نوسفيراتو الجديد.. مصاص الدماء يعود إلى الرعب الأزرق
في تجربة جريئة وطَمُوحٍ، يستعيد المخرج الأمريكي الشاب روبرت إيجرز الفيلم الألماني الصامت Nosferatu: A Symphony of Horror/ نوسفيراتو.. سيمفونية الرعب في رابع أعماله السينمائية Nosferatu.
Nosferatu: A Symphony of Horror من إخراج ف.س مورناو، وإنتاج عام 1922، وهو من علامات السينما التعبيرية الألمانية، ومن أول أفلام الرعب في تاريخ السينما، ومن المؤكد أن تجربة مشاهدته كانت مرعبة واستثنائية وقت عرضه قبل أكثر من مائة عام.
يسرد الفيلم المقتبس من رواية الرعب الأشهر دراكيولا التي صدرت عام 1897 قصة الكونت أورلوك الغامض/بيل سكاسجارد وتعلقه المَرَضِي بإيلين هوتر/ليلي روز ديب الذي يدفعه للانتقال لمدينتها ومحاولة الإيقاع بزوجها سمسار العقارات الشاب توماس هوتر/نيكولاس هولت.
دراكيولا مصاص الدماء الوسيم من أهم الثيمات المتكررة في أفلام الرعب منذ نشأة السينما، لكن رغم الشهرة الواسعة للكونت أورلوك الغامض في عديد من الأفلام والمسلسلات، فإن عددًا محدودًا من الأفلام اقتبس رواية برام ستوكر الأصلية، أهمها دراكيولا الفيلم الذي أخرجه فرانسيس فورد كوبولا عام 1992.
ورطة إيجرز الإبداعية
بالعودة لـNosferatu نسخة إيجرز، فقد ألزم المخرج صاحب الخبرة المسرحية نفسه قيودًا إضافيةً حين قرر إعادة صناعة Nosferatu الفيلم تحديدًا وليس الشخصية الروائية، بالنظر إلى أن الاقتباس من رواية يعطي المخرج حريةً أكبر لنقل العمل الأدبي المكتوب إلى وسيط مرئي مغاير، أما الالتزام بالاقتباس من وسيط مرئي سابق فوضع المخرج أمام ورطتين إبداعيتين.
الورطة الأولى تشابه الوسيط، فالعمل الأصلي هو فيلم سينمائي، بالتالي له صبغة مرئية خاصة به، فتصبح أول عقبة أمام عملية الاقتباس محاولة الالتزام بتلك الصبغة البصرية الأصلية.
الورطة الثانية أنه رغم أن كلا العملين فيلم سينمائي، لكن هناك مسافة كبيرة بين تقنيات السينما الصامتة والسينما الناطقة، وهذه المسافة اتسعت أكثر بكثير في زمننا الحالي، زمن المؤثرات البصرية المتقدمة والتقنيات الرقمية المعززة بالذكاء الاصطناعي، فالاختلاف بين السينما الصامتة والناطقة أبعد بكثيرٍ من اقتصاره على الصوت، فالسينما الصامتة لها لغة بصرية مختلفة عن نظيرتها الحديثة، كذلك التمثيل فيها يعتمد على قدر كبير من فنون الإيماء، ما يجعله يبدو غريبًا بمقاييس عصرنا.
حافظ المخرج ومدير التصوير على بالتةٍ لونيةٍ قاتمةٍ تعتمد الأزرق والأسود
حاول إيجرز التزام الجو السوداوي العام للفيلم الأصلي، مع وعيه بفرق الزمن والتقنيات لصالح عصرنا، وأضاف إلى السيناريو الذي كتبه بنفسه عمقًا وأضفى عليه لمسة عصرية مقارنة بسيناريو النسخة الصامتة الذي كان أكثر بساطة وتكثيفًا، وبلا حوار بالطبع.
لكن على مستوى الصورة، حاكى Nosferatu الفيلم الأصلي. هل هذا الخيار كان إجباريًا أم قرارًا إبداعيًا للمخرج؟ قبل قرن كان مورناو مجبرًا على استخدام اللون الأزرق للتعبير عن الليل بسبب الاعتماد على التصوير النهاري حتى للمشاهد الليلية، واليوم كان من الممكن أن يختار إيجرز أسلوبًا مختلفًا تمامًا للتصوير الليلي، لكن المخرج ومدير التصوير قررا تبني بالتة لونية قاتمة تعتمد على الأزرق والأسود.
جاءت النتيجة مظلمة بالمقارنة بالاختيارات المعاصرة، هذا رغم استفادة الصورة في Nosferatu الجديد من الإمكانات الحديثة في عوامل الديكور والمؤثرات الخاصة وحركة الكاميرا، مقارنة بالكاميرا الثابتة والمناظر الممسرحة في الفيلم الألماني القديم، بالإضافة للاستعانة بالكمبيوتر لتطوير استخدام الظلال الذي كان من أبرز الحيل البصرية في الفيلم القديم، حيث تعد لقطات ظل الكونت أورلوك المنعكسة على الحوائط من العلامات البارزة التي عاشت من الفيلم عبر السنوات.
ثمن الالتزام
فرض الالتزام بـNosferatu الأصلي ثمنًا إضافيَا دفعه إيجرز، تمثل في أداء الممثلين الذي حُمّل بضغط ميلودرامي فيه الكثير من المبالغة المسرحية والصراخ والعيون المفتوحة على اتساعها، ما يليق بأداء مسرحي في زمن صدور الفيلم الأصلي، وربما الرواية.
ظهر ذلك بوضوح في أداء ليلي روز ديب في دور إلين، وويليام دافو في دور البروفيسور فون فرانز، ويبقى الأغرب هو اللهجة الثقيلة المصطنعة التي تحدث بها بيتر سكاسجارد في دور مصاص الدماء.
بدا وكأن الكونت نوسفيراتو 1922 هو من يتحدث، وليس نوسفيراتو 2024، في اختيار غريب من المخرج لمنطقة الصوت والأداء التمثيلي الذي كان له مطلق الحرية فيهما، فلم يكن هناك مرجع للصوت والحوار من الفيلم الأصلي ليحاول تقليده والالتزام به أصلًا!
هنا يجب أن نضع في اعتبارات المقارنة فيلم دراكيولا 1992، وفيه استفاد المخرج فرانسيس فورد كوبولا من اعتماده على الرواية مصدرًا أصليًا للاقتباس، رغم أنه من الواضح وجود اقتباسات من Nosferatu أيضًا، خصوصًا في استخدام الظل والإضاءة، لكن كوبولا كان أكثر تحررًا في قراراته الفنية، فعلى مستوى الألوان اعتمد الفيلم بالتة ألوان حمراء، وهو اختيار أكثر ملاءمة وقربًا لفيلم تقترن كل تفاصيله بالدم.
سيناريو دراكيولا أيضًا جاء أكثر حيوية وجرأة، وعالج شخصية دراكيولا بشكل أكثر إنسانية وتعاطفًا من المعتاد، وما يجعل شخصية الكونت أورلوك/نوسفيراتو تبدو كارتونية أحادية النمط بالمقارنة. أجاد جاري أولدمان في فيلم كوبولا مع المساحة الأكبر للدور، وأضاف لكنة خاصة واستخدم طبقة صوتية منخفضة لشخصية الكونت الروماني.. لكن دون أن يغرق في المبالغة كما حدث مع سكاسجارد بطل نسخة 2024 من Nosferatu.
مغامرة محمودة
لا نستطيع أن نعتبر اختيار إيجرز إعادة إنتاج فيلم قديم مغامرة غير محسوبة، قد نسلم أنها مغامرة لكنها بالتأكيد محسوبة ومبررة، من ناحية فإعادة إنتاج أفلام سابقة هي عملية معتادة وممتدة عبر تاريخ السينما العالمية.
نجد لدينا عدة إعادات لفيلم مثل كينج كونج، وأعمال كلاسيكية مثل تمرد على السفينة بونتي وكليوباترا، بل هناك تجربة إعادة إنتاج سابقة ناجحة لـNosferatu بالذات حين قدم المخرج الألماني فيرنر هيرتزوج نسخة عام 1979 بعنوان نوسفيراتو مصاص الدماء بطولة كلاوس كينسكي في دور الكونت، وإيزابيل إدجاني وبرونو جانز في دوري الزوجين هاركر.
من ناحية أخرى، ورغم العقبات التي فرضها التزام المخرج ببعض محددات وتفاصيل الفيلم الأصلي، ما استهلك الكثير من طاقته بين الاقتباس والمحاكاة، فإنه نجح في إخراج فيلم معاصر متميز، حاز على التقدير النقدي والنجاح الجماهيري على حد سواء.
حقق الفيلم إيرادات تجاوزت 178 مليون دولار، مقابل ميزانية إنتاجية 50 مليونًا، ليكافأ مخرجه على مغامرته ويحقق له أعلى إيرادات عبر مسيرته إلى الآن، وليثبت في فيلم بعد الآخر أنه واحد من أهم مخرجي السينما الأمريكية المعاصرين، بأفلام ذات انطباع فني خاص ومتفرد.