imdb
مشهد من فيلم Soundtrack to a Coup d'Etat (2024)، إخراج يوهان جريمونبيريز

موسيقى الانقلاب.. والثورة على أعناق الجاز!

منشور السبت 22 فبراير 2025

يُقال إن الكِتاب يُعرف من عنوانه. إلا أن هذا ليس صحيحًا دائمًا، بل إن القليل من الكتب والأفلام هي التي تُعرَف من عناوينها. ضمن هذه القِلّة يأتي فيلم Sound Track to a Coup d’Etat. الترجمة الحرفية لعنوانه "شريط صوت لانقلاب"، وتعربيه هو "موسيقى تصويرية لانقلاب". أما إذا أردنا عنوانًا أكثر أناقةً، فسنذهب مع "موسيقى الانقلاب".

العنوان، كما هو واضح، يجمع مصطلحين يتكوَّن كلٌّ منهما من كلمتين. الأول من عالم السينما والموسيقى، وفيه دمج لكلمتيه في كلمة واحدة كانت تعني قديمًا طبقة أو مسار صوت الفيلم على شريط التسجيل أو العرض، ثم ارتبطت تدريجيًا بمجموعة الموسيقى والأغاني المصاحبة للأفلام أو غيرها من العروض. والمصطلح الثاني قادم من عالم السياسة، مكون من كلمتين فرنسيتين؛ الأولى تعني ضربة أو حركة، والثانية تعني الدولة، ومعًا تعنيان الانقلاب على الحكم.

لعلك تتساءل/ين الآن عن جدوى شرح عنوان الفيلم وأصوله اللغوية، والسبب هو أنني لم أجد مدخلًا وصفيًا يلخِّص مضمون وشكل هذا الفيلم أفضل من عنوانه!

https://www.youtube.com/watch?v=_RwLdIiZk_8

ابتكار التاريخ

هذا فيلم عن السياسة بقدر ما هو عن الموسيقى، وهو "مقال سينمائي تاريخي" بقدر ما هو عن الحاضر. قد يبدو تحية وحنينًا إلى فنون وتقاليد منتصف القرن الماضي، بقدر ما هو عرض بصري متعدد الوسائط على الطريقة الحديثة. وهو فيلم وثائقي، يعتمد على البحث العلمي الموضوعي، بقدر ما هو عمل فني مبتكر يعتمد على الخيال وشخصية صانعه.

وصانع الفيلم إخراجًا ومشاركة في الكتابة هو البلجيكي المخضرم يوهان جريمونبيريز، الذي تميّز منذ فيلمه الأول Dial H-I-S-T-O-R-Y، إنتاج 1997، بالدمج بين التاريخ والسياسة والفيديو آرت. و"موسيقى الانقلاب" يعمل بالطريقة نفسها: طوال 150 دقيقة وآلاف اللقطات الأرشيفية أو المسجلة خصيصًا للفيلم وعشرات المقطوعات الغنائية والموسيقية، يستعيد وقائع صعود واغتيال رئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا في بداية ستينيات القرن الماضي، على خلفية من أشهر أغاني ومقطوعات موسيقى الجاز التي صدرت في تلك الفترة.

وبشكل موازٍ ومتقاطعٍ، يرسم الفيلم لوحة لخريطة العالم السياسية في تلك الفترة، من حروب استقلال إفريقيا عن الاستعمار الأوروبي القديم، وبداية الاستعمار الأمريكي الجديد، وتصاعد الحرب الباردة وسباق التسلح بين الكتلتين الغربية والشرقية، وبينهما كتلة عدم الانحياز التي ضمت الهند ويوغسلافيا ومصر.

وبشكل متوازٍ ومتقاطع، يرسم الفيلم لوحةً لصراع الأمريكيين الأفارقة من أجل المساواة وحركة الحقوق المدنية، وأشهر زعمائها مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس. وهي حركة صحبتها وعبَّرت عنها فنيًا موسيقى الجاز وخاصة من خلال أغانيها الثورية، بنجومٍ بارزين مثل لويس أرمسترونج وديزي جيلسبي ونينا سيمون وديوك إلينجتون وميريام ماكيبا وثيلونيوس مونك وجون كولترين وآبي لينكولن وماكس روش. والأخيران شاركا فعليًا، ضمن ستين متظاهرًا آخر، في التسلل لمبنى الأمم المتحدة ومقاطعة اجتماع مجلس الأمن الذي انعقد عقب اغتيال لومومبا في 17 يناير/كانون الثاني 1961.

شغب في مجلس الأمن

أفيش فيلم Sound Track to a Coup d’Etats (2024)، إخراج جوهان جريمونبيريز

يبدأ الفيلم بهذا الحدث الاستثنائي: عدد من الناشطين، من بينهم مغنية/آبي لينكولن وعازف طبول/ماكس روش، يقتحمون ويعطلون جلسة لمجلس الأمن، ما أثار وقتها زوبعة ولفت الانتباه إلى جريمة الولايات المتحدة المروعة التي ارتكبتها مع حلفائها في الحكومة البلجيكية وسكرتير عام الأمم المتحدة آنذاك داج همرشولد، وقبلهم الخونة الكونغوليون الذين باعوا لومومبا في الكونغو من أجل مصالحهم الدنيئة وتكالبهم على السلطة والمال.

بعد مقدمته الساخنة يعود الفيلم شهورًا إلى الوراء، إلى عام 1960 الذي أعلنت فيه 17 دولة إفريقية استقلاها عن الاحتلال وانضمامها إلى الأمم المتحدة، حتى أطلق عليه عام إفريقيا. وكان من بين هذه الدول الكونغو التي أنهت تحت قيادة لومومبا في 30 يونيو 1960 عقودًا من الاحتلال البلجيكي. وبشجاعة كبيرة يكشف جريمونبيريز عن الوجه الاستعماري الذي قد لا يعلمه الكثيرون عن بلده.

ربما لا يعرف البعض أنَّ حتى بلجيكا، التي لا تكاد تُرى على خريطة أوروبا، كانت لها مستعمرات في إفريقيا، وكان من حظها أن الكونغو واحدة من أكثر البلاد الإفريقية ثراءً بمناجمها، خاصة منجم يونيون مينير أكبر مصدر لليورانيوم في العالم، الذي خرج منه ثلاثة آلاف طن ذهبت إلى الولايات المتحدة لصنع أول قنبلة ذرية في العالم!

خوفًا من ضياع هذه الثروة الهائلة، استماتت بلجيكا للبقاء في الكونغو بأي وسيلة وثمن، وخوفًا من ذهاب اليورانيوم وكنوز إفريقيا الأخرى إلى الاتحاد السوفيتي، استماتت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في منع لومومبا من تحقيق طموحاته بتوحيد إفريقيا وتأسيس الولايات المتحدة الإفريقية، وهي الفترة نفسها التي كان يحاول فيها جمال عبد الناصر إقامة الوحدة العربية، ومثلما حدث مع لومومبا تآمر الاستعمار وذنبه الإسرائيلي لإفشال خطة ناصر.

وقائع المؤامرة

فنان الجاز لويس أرمسترونج يعزف لزوجته أمام الأهرامات، 1961

خلال هذه الفترة، تحولت الأمم المتحدة إلى ساحة للصراع بين الدول الصغيرة الساعية إلى التحرر والدول الاستعمارية القديمة. كانت أزمة العدوان الثلاثي على مصر في 1956 حاضرةً، ويشير إليها الفيلم، كما يشير إلى دور مصر عبد الناصر المؤثر، باعتبارها دولة إفريقية وعضوة في كتلة عدم الانحياز، ويشير إلى موقف عبد الناصر من أزمة لومومبا وتهديده (مع بعض الدول) بالانسحاب من الأمم المتحدة إذا أقرت عدم الاعتراف بالزعيم الإفريقي على رأس بلده.

من ناحية التأريخ السياسي، يوثق الفيلم موضوعه بقدر هائل من المواد المصورة، وببعض الأوراق والتسجيلات الصوتية السرية التي تنشر لأول مرة، وتثبت وقائع المؤامرة ودور كل من بلجيكا والولايات المتحدة ورئيسها روزفلت، وسكرتير عام الأمم المتحدة، في الإطاحة بلومومبا، ثم اغتياله.

إعلان عن حفلات فنان الجاز لويس أرمسترونج في إطار جولته في مصر عام 1961

ومن أخطر ما يرصده الفيلم استخدام المخابرات الأمريكية للفنانين الأفارقة الأصل، وبالتحديد هنا موسيقيي الجاز، للقيام بجولات فنية في إفريقيا (الكونغو ومصر وبلاد أخرى) كغطاءً للتجسس والعمليات القذرة، مثل محاولات اغتيال لومومبا بمعجون أسنان سام، أو مسدس يطلق رصاصة مطاطية تؤثر على عمل القلب! ويدعم الفيلم هذه الحقائق بشهادات من ضباط سابقين في المخابرات شاركوا بأنفسهم أو كانوا شهودًا على الأحداث.

قلب الفيلم

رغم قوة موضوعه ومتانة عرضه، لكن ذلك ليس جوهر فيلم "موسيقى الانقلاب". فهناك عدة أفلام تتناول لومومبا، منها فيلما لومومبا: اغتيال نبي (1990)، ولومومبا (2000) لمخرج الوثائقيات الكبير راؤل بيك، صاحب فيلم أنا لست عبدك/I Am Not Your Negro، عن حياة الأديب والمفكر الثوري الأمريكي الإفريقي جيمس بالدوين.

جوهر "موسيقى الانقلاب" هو علاقة الموسيقى بالسياسة والثورة، وكيف ساهمت موسيقى الجاز والبلوز والسول، إفريقية الأصول، في تأسيس الذاتية والهوية للأمريكيين من أصل إفريقي، وكيف ساهمت في ربطهم بجذورهم الإفريقية، وشكلت وعيهم بالتاريخ المشترك للقارة المنكوبة بالاستعمار على مدى القرون الثلاثة الماضية.

هذا فيلم مُجهِد ليس فقط لطول زمن عرضه بل أيضًا لكل هذه الطبقات التي تحتويها كل ثانية

مع ذلك، فليس هذا تمامًا جوهر "موسيقى الانقلاب"، وإنما تلك الشحنة العاطفية المركبة الناتجة عن المفارقة بين الأحداث السياسية الجافة والقاسية، والأغاني والموسيقى الشجية والممتعة، حتى أكثرها حماسةً وثوريةً.

يجيد جريمونبيريز اختيار المقطوعات التي تعبر عن كل مشهد وعن حركة وتصاعد الدراما، فمن رقصة التشاتشاتشا المبهجة مع مشاهد الاستقلال، إلى إيقاعات الطبول في مشاهد المواجهات العنيفة، إلى الصولو الحزين مع مشاهد حصار لومومبا وأسره، فإننا نشاهد الفيلم بآذاننا، ونسمعه بأعيننا، في تجربة فنية فريدة، وكأن الفيلم نفسه مبني مثل مقطوعة موسيقية طويلة.

هذا التلاحم بين الصورة والصوت يتجاوز الاستخدام التقليدي للموسيقى، إذ توجد طبقات متعددة دومًا، مثل استخدام صوت التعليق التقريري/voice over، واللقطات العامة "البلاغية"، كما حدث في مشاهد الفيل الذي يُنقل على متن سفينة من إفريقيا إلى أوروبا، أو الأطفال الذين يلعبون ببراءة، أو لقطات الأحداث التاريخية والاجتماعية التي قد تكون بعيدةً عن موضوع الفيلم المباشر، ولحظات الصمت التي تطول أحيانًا، بل الاكتفاء بصورة المغني والعازف مع حذف الصوت تمامًا أحيانًا، من بين طبقات عديدة أخرى.

هذا فيلم مجهد، ليس فقط لطول زمن عرضه، بل أيضًا لكل هذه الطبقات التي تحتويها كل ثانية. ولكن حين تصبر عليه قليلًا، وتستسلم لإيقاعه، فغالبًا ما سيترك لديك شحنة قوية وتأثيرًا مُركَّبًا: مزيجًا من الحنق والغضب، ومن المتعة والشجن. وحين ينتقل بك فجأة من الأبيض والأسود التاريخي إلى ألوان الحاضر، ليبين أن ثروات الكونغو وإفريقيا المعدنية لم تزل تُنهب، لا من أجل صنع المزيد من القنابل الذرية، وإنما لاستخدامها في منتجات أبل وتسلا وغيرهما، غالبًا سيشعر المشاهد وكأن وعيه تفتح فجأة، وأصبح يرى العالم بشكلٍ أكثر وضوحًا!