
الدراما المسمومة وصناعة السفاح
يتضمن هذا المقال حرقًا لأحداث الموسم الخامس من مسلسل You
قبل القراءة لديَّ اعتراف صغير؛ لقد قضيت عقودًا من حياتي في الدفاع عن حرية التعبير، والتأكيد على أن المجتمع الصحي السوي لا يؤثر فيه سلبًا عمل فني مبتذل أو خبيث النوايا، وأن الأعمال التي تصور الرعب والعنف والعري والانحرافات بأنواعها، لا يمكنها دفع الناس لممارسة ما تعرضه، ولكنها على العكس؛ قد "تستخرج" شياطين الجانب المظلم لدى المشاهد، وتعيده هادئًا مسالمًا.
لكنِّي ولأول مرة في حياتي، أجد نفسي في موقع المتحفظ، المنزعج، من التأثير السلبي لأفلامِ ومسلسلات العنف التي راجت في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق، بالتزامن مع زيادة العنف والجريمة في المجتمع، خاصة لدى صغار السن الذين يُقلدون عادةً ما يشاهدونه في السينما والدراما وفيديوهات الإنترنت. وأزعجني بشكل خاص، حادث اعتداء طفلين على طفلة وقتلها، بجانب تكرار حالات القتلة المتسلسلين/serial killers.
يحدث هذا بالتزامن مع الاحتفاء الشديد بأعمال روائية وتسجيلية تدور حول سفاحين حقيقيين أو مُتخيَّلين، مثل مسلسل You/أنت (2018-2025) الذي عُرض موسمه الخامس الشهر الماضي على Netflix، ومسلسل The Gardener/البستاني (2025)، وغيرهما من الأعمال التي حققت خلال السنوات الماضية مشاهدات هائلة.
ويذكر القارئ بالطبع مسلسل سفاح الجيزة، الذي أنتجته منصة شاهد بعد شهور قليلة من محاكمة قاتل متسلسل، أطلقت عليه وسائل الاعلام لقب سفاح الجيزة. وفي الطريق، كما علمت، أعمال قادمة حول عدد من السفاحين الذين تُمطرنا بأخبارهم وسائل الاعلام كل يوم!
وأعود إلى السؤال المربك: هل تتسبب أفلام ومسلسلات السفاحين والقتلة في زيادة معدلات الجريمة؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فهل ينطبق ذلك على كل هذه الأعمال، أم فئة بعينها يمكن تحديدها من خلال التحليل والنقد؟
لنأخذ مسلسل You نموذجًا، كونه أحدثها وأكثرها شعبية الآن.
أنت سفاح! أنت رائع!
بدأ بث الموسم الأول من المسلسل على منصة صغيرة تدعى Lifetime، لكن نجاحه الكبير دفع Netflix إلى شراء حقوق عرضه وإنتاج مواسم جديدة منه وصلت إلى أربعة، بُثَّ آخرها، وهو الموسم الأخير، الأسبوع الماضي.
يروي المسلسل قصة جو جولدبرج/بن بادجلي، الشاب الوسيم، الجذاب، الرقيق، والمثقف جدًا، الذي يملك مكتبة تبيع الكتب المستعملة، لكنه يشعر بالوحدة ولا يثق في نفسه. كما أنه عانى طفولة صعبة من العنف الأسري والبحث عن الحب، وهي طفولة تشبه ما يعيشه معظم البائسين من البشر. لكن جو بسبب ذلك، لا يتورع عن اختطاف وتعذيب وقتل الناس، حتى محبوبته نفسها. وحتى عندما يتزوج وينجب في المواسم التالية، يواصل هوايته في تعذيب وقتل البشر.
للعمل، ولكنه ، حيث يبرر لنفسه ما يفعله، مؤكدًا أنه لم يكن يملك سوى القتل خيارًا.
نحن، إذن، أمام عمل روائي لا يكتفي بطله بأن يكون البطل المضاد/anti-hero، لكنه أيضًا الراوي الذي نرى الأحداث بعينيه ونسمع الحكاية بلسانه. ولأن من يلعب دوره ممثل يتمتع بمواصفات النجومية والجاذبية، نراه مُقنعًا في استخدام تقنيات الحكي لتسلية وإمتاع المشاهد؛ وهو يبرر لنفسه ما يفعله، ويؤكد أنه لم يكن يملك خيارًا سوى القتل. هنا يتماهى والتعاطف المشاهد مع البطل، في سلسلة من مشاهد التشويق والجنس والعنف، ومذابح لا تتوقف.
العجيب، أن المسلسل يعتمد على سلسلة روايات كتبتها امرأة، هي الكاتبة كارولين كيبنس، تقول إنها كانت تمر بفترة عاطفية سيئة عندما بدأت تكتب جزأه الأول. وتزعم أنها كانت تسعى لتفكيك النوع الفني الرومانسي، وصنع عمل عن شاب حساس يوقعه حظه العاثر في أيدي نساء وأشخاص سيئين، كما تقول إنها فوجئت بأن بطلها أصبح "سفاحًا". استغلت كيبنس هذه "المفاجأة السعيدة" في كتابة أجزاء أخرى، جعلت منها مليونيرة!
يبدأ الهوس بالسفاحين بدافع الخوف الذي كثيرًا ما يتراجع مُفسحًا المجال لمشاعر الإعجاب والاستثارة
ربما تعكس هذه الروايات خوفَ شباب اليوم من العلاقات العاطفية وقلقهم من إساءة معاملة الطرف الآخر لهم. وربما تُبيِّن كيف يمكن أن يطلق الإحباط العاطفي العنف وجوانب الإنسان المظلمة. لكن نجاحها يعكس أيضًا حالة الهوس الجماعي العالمي بالسفاحين.
في المشهد الأخير من الموسم الخامس ونهاية المسلسل، يتلقى جو رسائل المعجبات به (جمهور المسلسل على ما يفترض). وبصوت الراوي؛ يواصل تبرير نفسه "ألستُ نتاج بيئتي؟ كلنا نتاج بيئاتنا. المقهور يقهر سواه، وهلم جرا. لم يكن لدي أي خيار". وتركز الكاميرا على خطاب إحدى المعجبات يمتلئ بعبارات الغزل والاشتهاء، ويواصل "لماذا أنا مسجون وفي الخارج كل هؤلاء المجنونات اللواتي يكتبن لي عن الأشياء المريضة التي يردن مني أن أفعلها بهن؟" وينظر إلى الكاميرا ليواجه مشاهديه قائلًا: ربما لست أنا المشكلة، بل أنتم!
في الحوارات معهم، سيقول صناع المسلسل إنهم توصلوا إلى هذه النهاية ليواجهوا "المأزق الأخلاقي" الذي سبَّبه المسلسل، بسبب حالة الهوس بالبطل السفاح. في الحقيقة هذا الهوس لا يقتصر على مشاهدي مسلسل You، بل يلازم دومًا سفاحي الشاشة والواقع، وهو هوس له اسم مرض معروف باشتهاء المجرمين/Hybristophilia، وهو يصيب النساء أكثر من الرجال، ليشعرن بالإثارة في حضرة القتلة، وقد يشعرن أيضًا بالأمان والحماية ويستمدن القوة، وربما القدرة على ارتكاب العنف أيضًا.
ولعل أول وأشهر فيلم شهد هذه الظاهرة العجيبة هو Bonnie and Clyde/بوني وكلايد (1967) للمخرج آرثر بين، الذي يروي قصة مجرمَيْن وقاتلَيْن حقيقيين أشاعا الرعب في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي. وربما يمكن عقد بعض المقارنات هنا بالهوس المصري بالقاتلتين ريا وسكينة، خاصة النسخة المسرحية التي قدمها حسين كمال عام 1982، من بطولة شادية وسهير البابلي!
لنستمتع جميعًا بالقتل!
يبدأ هذا الهوس عادة بالخوف. في كتابه لماذا نحب السفاحين؟ الجاذبية العجيبة لأكثر قتلة العالم بربرية، يُعدد سكوت بون، أستاذ علم الإجرام في جامعة درو الأمريكية، أسباب الهوس بالسفاحين، وعلى رأسها الخوف الذي تثيره هذه الأعمال في أوصال المتفرج. في صورته الإيجابية، يجعلهم هذا الخوف أكثر تيقظًا وانتباهًا للشر من حولهم. ولكن بمرور الوقت، كثيرًا ما يتراجع هذا الخوف، مُفسحًا المجال لمشاعر الإثارة التي قد تتحول إلى استثارة وإعجاب.
تصلح قصة ريا وسكينة للتدليل على هذا الأمر أيضًا؛ فنظرة إلى فيلم ريا وسكينة (1952) لصلاح أبو سيف، ومقارنته بالمسرحية بعده بثلاثين عامًا، ومعهما النسخة السينمائية الكوميدية للمخرج أحمد فؤاد عام 1983، يمكنها أن تكون نموذجًا لفهم هذا التحول.
مع ذلك، يمكن اعتبار كل هذه المشاعر ضمن المنطقة الآمنة التي يلعب فيها الفن. في كتابه فن الشعر يتحدث أرسطو عن دور التراجيديا في إثارة الرعب والشفقة، كمشاعر تطهيرية للمتفرجين، بجانب دور الكوميديا في إثارة الضحك، كفعل يُطهِّر المتفرج بطريقة أخرى، غالبًا من الخوف والشفقة. ولعل رد فعل المشاهدين المألوف في أفلام الرعب، الذي يبدأ بالصراخ والفزع اللذين يعقبهما الضحك، أوضح مثال على ذلك.
المشكلة تأتي من التأثيرات السلبية للعنف، والناتجة عن تماهي ضعاف النفس والعقل من الأصغر سنًا غالبًا، مع المجرمين على الشاشة.
ويجدر هنا الاستشهاد بواحد من أنجح مسلسلات السفاحين وأكثرها شعبية وتأثيرا خلال السنوات الأخيرة، حتى يقال إنه صار نموذجًا يحتذى للأعمال التي صدرت بعده، وهو مسلسل Dexter/ديكستر (2006-2013).
على مدار ثمانية مواسم و96 حلقة، نرافق الصبي ديكستر الذي تُقتل أمُّه أمامه ببشاعة، فيتبناه رجل شرطة يلاحظ أنه أصبح مهووسًا بالدماء، فيوجهه للعمل كطبيب شرعي يفحص الجثث. ويستغل ديكستر ولعه بالدم والقتل لكن لفعل "الخير"، على طريقة باتمان وسبايدرمان، ولكن بشكل أكثر عنفًا ودموية، فيقتل القتلة الذين يتمكنون من الإفلات من العدالة.
على أيامنا، كان الأبطال الخارقون يكتفون بتسليم المجرمين إلى الشرطة، أما ديكستر فيقتلهم بوحشية، ربما لأن نظام العدالة الشُرطي والقضائي لم يعد كافيًا. ولكن المسلسل لا يتوقف أبدًا ليسأل كيف يتمكن ديكستر، أو أي إنسان، أصلًا، من إثبات تورط شخص في جريمة فشل القضاء في إدانته بها. المهم أن المشاهدين كانوا يستمتعون بمشاهدة السيد ديكستر، بأداء الممثل الوسيم الحبوب مايكل سي هال، وهو يستمتع بالقتل المتسلسل!
تحول Dexter إلى ظاهرة، وأصبح المسلسل الأنجح في تاريخ منصة Showtime على الإطلاق بعد أن حقق ملايين المشاهدات، ورغم الانتقادات التي لاحقته والاعتراضات التي حاولت منع بثه على التليفزيون العام المجاني، عُرِض في النهاية بعد تعديل تصنيفه العمري.
ومثل الكثير من أفلام ومسلسلات الرعب، من أيام Bonnie and Clyde وبرتقالة ستانلي كوبريك الآلية/Stanley Kubrick's Clockwork Orange (1971)، وNatural Born Killers/قتلة بالفطرة (1994) إخراج أوليفر ستون، ارتبط Dexter بالعديد من الجرائم التي ارتكبها شباب وصبية جانحون في أنحاء متفرقة من العالم؛ إسبانيا والنرويج والسويد، والولايات المتحدة؛ حيث قتل طفلٌ أخاه الأكبر!
في نهاية مسلسل You، حيث تتحول وجهة النظر إلى شخصية نسائية ابتُكِرت لتوازن وجهة نظر القاتل الرجل، يُطرح سؤال عن مستقبل ابن السفاح، لن يواجه في مستقبله مأساة تاريخ والده الدموي، ولكن معضلة أي رجل يود أن يصبح عليه.
هذا السؤال المطروح بقوة الآن على الساحة الثقافية العالمية حول تأثير الثقافة الذكورية؛ المضادة للنسوية وتمكين النساء، في إشاعة العنف والجريمة لدى كثير من الذكور الشباب والصغار، وهي قضية يطرحها المسلسل البريطاني العظيم Adolescence/فترة المراهقة (2025)، المعروض على Netflix حاليًا.