imdb
جون لينون وزوجته يوكو أونو من فيلم واحد لواحد: جون ويوكو (2024)

جون لينون وهو يغني لغزة ويهاجم دونالد ترامب!

منشور السبت 31 مايو 2025

أحيانًا تكون خطط توزيع الأفلام متسرعة أو متأنية أكثر من اللازم، فتضر بالعمل وفرص نجاحه. أعتقد أن هذا ما حدث مع فيلم One to One: John and Yoko/واحد لواحد: جون ويوكو، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان فينيسيا في أغسطس/آب 2024، وراح صناعه يتمهَّلون وينتقون من بين المهرجانات الأخرى. إلى أن بدأ، منذ أسابيع قليلة، توزيعه على دور العرض في الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض البلاد القليلة الأخرى، وفي انتظار بثه على المنصات قريبًا.

لكنَّ هذا التأنِّي لم يكن مُضرًا كليًا، لأن هذا التوقيت بالذات قد يكون الأفضل لإتاحة الفيلم للجمهور العام، تزامنًا مع ما جرى ويجري، في الولايات المتحدة والعالم، من أحداث وأوضاع سياسية واجتماعية مضطربة، تُضاعف من ارتباط مضمون الفيلم بالحاضر. وهو ارتباط كان حاضرًا بالتأكيد في أذهان صناع الفيلم وقت صنعه. ولكن ربما لم يخطر ببالهم أن الواقع سيتحول خلال عدة أشهر إلى نسخة أكثر بشاعة من الماضي الذي رصدوه.

ومع إتاحة الفيلم على نطاق واسع، فقد آن الأوان لأرشحه للقراء باعتباره واحدًا من أفضل الأفلام التي صدرت خلال العام الماضي، وأكثرها تفردًا.

"واحد لواحد" عمل تسجيلي، ولكنه أيضًا إبداعي وخيالي من الطراز الأول. صحيح أنه يستخدم موادَ "أرشيفيةً"، معتمدًا عليها اعتمادًا كاملًا في البناء، ولكنَّ الطريقة التي ينتقي ويرتب بها هذه المواد؛ ذاتية وفنية، وتكاد تكون "روائية" بالكامل.

يتناول فيلم المخرجَيْن الأسكتلندي كيفين ماكدونالد والبريطاني سام رايس- إدواردز، فترة ما بعد انفصال أسطورة الموسيقى في القرن العشرين جون لينون عن فريق البيتلز، وهجرته مع زوجته يوكو أونو، الانجليزية ذات الأصول الأسيوية، إلى الولايات المتحدة أملًا في مجتمع أكثر انفتاحًا وأقل تعصبًا، ليكتشفا أن العنصرية هناك لا تقل، إن لم تزد، عن بريطانيا.

لا يصل One to One إلى نقطة اغتيال لينون في ديسمبر/كانون الأول 1980 على يد متطرف يميني أنهى حياته في المنفى الاختياري الذي هرب إليه في أغسطس 1971 من المتطرفين الإنجليز. بل يركز الفيلم على أول سنة قضاها لينون وأونو في الولايات المتحدة، حيث أقاما في شقة صغيرة استأجراها في نيويورك.

https://www.youtube.com/watch?v=PGI7hx0Rbhw

غابة الخيوط المتوازية

يعتمد الفيلم على بناء العديد من الخطوط المتوازية، منها: لقطات فيلمية شخصية وعامة لحياة جون ويوكو في شقتهما وفي الولايات المتحدة بشكل عام، حيث بنى صناع الفيلم ديكورًا مماثلًا تمامًا للشقة، بتفاصيلها الصغيرة، أعطت مع التسجيلات التي تحمل صوتيهما إحساسًا بأن الحياة دبت فيها من جديد.

كما يعتمد على مقاطع فيلمية أخرى، منها سهرات عائلية وجلسات عمل وبرامج تليفزيونية استضافتهما، أو حفلات موسيقية، وبالتحديد جولة حفلات One to One؛ أضخم فعالية فنية شارك فيها جون لينون بعد انفصاله عن البيتلز، وواحدة من جولتين قام بهما هناك.

كما نسمع في الفيلم تسجيلات صوتية هاتفية وُجدت في شقة لينون وأونو، وتذاع لأول مرة بعد 45 عامًا على وفاة لينون، ونستعيد عشرات الأفلام والبرامج التي أُنتجت عنه وغطت كل شيء في حياته، من بدايات تأسيس البيتلز وحتى حياة أرملته بعد رحيله. هذه المواد التي تؤكد أن التاريخ قابل دائمًا وأبدًا لإعادة الكتابة، طالما أن البحث عن الوثائق التاريخية لا ينتهي أبدا!

بالتوازي مع رصد حياة لينون وزوجته، هناك خط آخر يتقاطع معها ويكمل كل منهما الآخر، وهو الأصدقاء والزملاء الذين كانوا يشاركون لينون أحلامه ومشاريعه ونضاله ضد القمع والعنصرية وحرب الإبادة في فيتنام. ومنهم الأديب والسياسي جون سينكلير، الذي يُسجن بتهمة تعاطي الحشيش، ويؤلف عنه جون لينون أغنية يشدو بها في حفل واحد لواحد، ليُفرج عنه بعد أيام.

https://www.youtube.com/watch?v=mbNQnQCZReY

كذلك نرى مقاطع للشاعر آلن جينسبرج، الذي يلقي بقصيدة عن الاغتسال بعد قضاء الحاجة، يهاجم فيها السياسيين الأمريكيين والبريطانيين، وللمغني والموسيقي وللشاعر بوب ديلان، وللناشط السياسي جيري روبن وغيرهم. ويبرز هذا الخط حركة المثقفين والفنانين المناهضة لنظام نيكسون وللممارسات القمعية الأمريكية، وهو ما سيسفر خلال السنوات التالية عن حركة تمرد ثقافية واجتماعية هائلة.

يواصل الفيلم مد هذا الخط، ليرصد المظاهرات وحركات الاحتجاج العامة خاصة بين صفوف الشباب، ضد حرب فيتنام في الخارج والقمع في الداخل. ويعقد صناعه مقارنة غير مباشرة، بين بداية سبعينيات القرن الماضي وحرب الإبادة الدائرة الآن في فلسطين برعاية أمريكية، والحراك والمظاهرات التي تناهضها.

ويمكن هنا مقارنة تصريحات الصحفي والكاتب البريطاني ديفيد هيرست قبل أيام، التي شبه فيها حرب غزة بحرب فيتنام، وقال إن الولايات المتحدة كسبت كل المعارك هناك، لكنها رغم ذلك خسرت الحرب، وهو ما سيحدث لإسرائيل في غزة. تحديدًا فإن هذه المشاهد التي ترصد المظاهرات والاحتجاجات والانقسام الشديد بين مؤيدي نيكسون ومعارضيه، تحيلنا إلى الحاضر بقوة. ومن المدهش أن الفيلم انتهى وعُرض قبل تفاقم الأوضاع في فلسطين إلى الدرجة التي نشهدها اليوم، وقبل عودة المختل ترامب إلى حكم أمريكا.

ما أشبه اليوم بالبارحة!

يبدأ الفيلم بمشهد يذكِّرنا بالحاضر: الرئيس نيكسون يُقدِّم فرقة غنائية نسائية اسمها Square خلال حفل رسمي في البيت الأبيض، لتفاجئ عضواتها الجميع برفع لافتات مناهضة لحرب فيتنام، بينما إحداهن تلقي كلمة حماسية ضد الرئيس!

من أبرز الخطوط الموازية الأخرى في "واحد لواحد"، استخدامه أرشيف التليفزيون في رسم صورة بانورامية نابضة بالحياة للمجتمع الأمريكي (والعالم) آنذاك، بالانتقال المتلاحق لمقاطع بثتها قنوات مختلفة من الأخبار السياسية وحتى الإعلانات، مرورًا بأحداث مثل اقتحام الشرطة العنيف لسجن أتيكا، المخصص تقريبًا للأمريكيين الأفارقة، لفض اعتصام سجنائه.

يرصد الفيلم أحداثًا سياسية واجتماعية بارزة، مثل انتخاب أول امرأة أمريكية-إفريقية في الكونجرس، والكشف عن مؤسسة فاسدة لرعاية الأطفال المعاقين تشبه سجون العصور الوسطى، وغيرهما.

ولكن لعل أهم عنصر فني في "واحد لواحد" هو البناء المركب الذي يجمع هذا الخليط الكثير العجيب بطريقة سلسة ومتماسكة، والمونتاج المبدع المحسوب بجزء الثانية، والإيقاع اللاهث الذي لا يترك للمشاهد لحظة من الملل أو عدم التركيز على مدار زمن الفيلم الذي يتجاوز 100 دقيقة.

ورغم اعتماد الفيلم على مواد أرشيفية تم نشر أغلبها مسبقًا في أفلام وبرامج أخرى، تتجلى العبقرية هنا في البناء الجديد الذي صاغه صناع الفيلم من هذه المواد بطريقة "الكولاج" أو لوحات الموزاييك البانورامية. ويغلف كل هذا موسيقى وأغاني جون لينون شديدة العذوبة وشديدة الثورية وشديدة المباشرة في آن.

أرشح لكم هذا الفيلم أولًا لأنه ممتع للغاية، وثانيًا، لأنه يوثق لفترة تاريخية هامة من الضروري أن نعرف عنها، وفوق ذلك يقول عن الحاضر أكثر مما تقول معظم الأفلام ومواد التليفزيون المعاصرة!