imdb
مشهد من فيلم غزة مونامور (2020). إخراج: عرب وطرزان ناصر

غزة مونامور.. القضيب المنتصب المكسور

منشور الثلاثاء 30 يوليو 2024

ضمن سلسلة عروض لأفلام فلسطينية، عُرض في مدريد قبل أيام فيلم غزة مونامور (2020)، للأخوين عرب وطرزان ناصر. كان عليَّ تقديم الفيلم والحديث بعد انتهائه. امتلأت السينما بالإسبان، ولم يكن هناك أي عربي أو عربية.

تدور أحداث غزة مونامور، الذي صُوِّر بين البرتغال والأردن، عن صياد كهل مغرم بخياطة أرملة، لها ابنة شابة مطلقة لا تلتزم في ملابسها وبعض أوجه حياتها بالقواعد الدينية المحافظة السائدة في المجتمع الغزاوي. لا يعرف الصياد كيف يلفت نظر المرأة ليطلب الزواج بها. وفي أحد الأيام، يجد في شبكته تمثالًا ضخمًا للإله أبولو، بعضو ذكري منتصب. يخبئه في بيته، لكن ينكسر العضو بسبب سقوط التمثال الثقيل، فيحاول الصياد بيع القضيب منفردًا، لينكشف عندها أمر التمثال فتصادره حكومة حماس.

قصة الفيلم مستوحاة من حادث حقيقي وقع في 2013، حين عثر صياد على تمثال لأبولو، صادرته حكومة حماس. لكن في القصة الحقيقية ما كُسِر كان أحد أصابع الإله، الذي حاول الصياد بيعه، متصورًا أنه من الذهب.

بعد عرض الفيلم، لم يتحدث أيٌّ من الحضور عنه، عدا رجل سأل عن مصيره الحقيقي؛ إن كانت حكومة حماس باعته لجهة ما خارج غزة، أم أنه ما زال مُصادرًا، وما إذا كان عضوه الذكري المنتصب لا يزال مغطى بالقماش. أجبت الرجل بأنني لا أعرف مصير التمثال الأصلي بعد مصادرته، وأن جوجل لم يقدم معلومات واضحة، وإن كنت أرجح أن الحكومة الغزاوية باعته لتمويل خزانتها الفقيرة نتيجة حصار إسرائيلي ودولي وعربي ممتد للقطاع منذ 2007، بعد فوز حماس بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية.

رغم إعجاب بقية الحضور الواضح بالفيلم، فإنهم اهتموا أكثر بالتعبير، فيما يشبه المونولوجات الطويلة، عن الغضب والحزن بسبب ما يحدث في غزة، وأبدوا رغبة في معرفة المزيد عن القضية الفلسطينية وجذورها. ما لاحظته في كل من تحدث يومها، أنهم يريدون أن يقولوا بصوت مرتفع، يسمعه آخرون ولو في قاعة تضم تسعين شخصًا فقط، إن المقاومة ليست إرهابًا. وإنهم مُصرِّون على تسمية الأشياء بأسمائها؛ فهذه ليست حربًا، ليست مذبحة، بل إبادة.


عصا البشاري

يُدرك جمهور الفيلم، مثل ملايين المتضامنين والمنحازين للحق الفلسطيني، أن اعتياد الإبادة هو مفتاح هزيمتنا، وأنه سيكون الإنجاز الوحيد لإسرائيل مضافًا لقتل عشرات الآلاف وتشريد أهل غزة. ويدركون وندرك، وهو الشيء الموجع، أن حياتنا الطبيعية مستمرة قبل الفيلم وبعده، وقبل الخبر الموجز عن غزة في وسائل الإعلام، وبعده.

لم ينفعل أي منهم ببكاء علني، ما ذكَّرني بصديقة لا تتوقف عن نشر صور بجودة عالية لزهور وطيور ومناظر لما يسمى بالطبيعة الصامتة، على فيسبوك وإنستجرام. ورغم أنها تبدو هائمة في هذا الجمال الطبيعي، فقد أخبرتني مرة بأنها تبكي مثلما لم تبكِ من قبل.

نصحتها يومها بالتوقف عن البحث عن صور وفيديوهات غزة. فأخبرتني بأنها توقفت بالفعل، لكن البكاء لم يتوقف، وربما يكون الشيء الوحيد المقاوم لاعتياد الإبادة. أدركت لحظتها هذه الصلة بين بكائها المستمر وطفليها الصغار. فإن رأى أبوان غير فلسطينيين، ولو مرة واحدة، صور أو فيديوهات الأطفال في غزة أثناء هذه المجزرة اليومية الممتدة منذ تسعة شهور، سيريان بعدها غالبًا وجوه أطفالهما بدلًا من وجوه أطفال غزة الذين لا يعرفان أسماءهم. يستبدلون الوجوه ذهنيًا، نتيجة لعملية تماهٍ غير واعية.

فكيف تنصح رجلًا أو امرأةً لديهما أطفال ألَّا يرياهم مكان الأطفال الفلسطينيين المذبوحين يوميًا؟! أن يتجنبا نوعًا من أنواع الألم لا يعرفه سوى من لديهم أطفال؟! إنها نصيحة بفعل المستحيل.

لم أنتبه لغياب الأطفال عن غزة مونامور، الذي شاهدته مرتين، إلا الآن، وأنا أكتب هذا المقال. ربما يظهر طفل يدخل متجرًا ليشتري شيئًا ما. بينما غزة الحقيقية، التي زرتها وصورت فيها، مزدحمة بالأطفال. بل إنها أكثر مكان رأيت فيه هذا الكم من الأطفال. لا نرى في الفيلم سوى نساء يعشن بمفردهن ورجالًا ناضجين، إما من الشعب أو السلطة، مُمثلين رمزيًا في هذا القضيب المنتصب.

لا ندرك ذهنيًا هوية الأطفال في علاقتها بالجنس والجندر، بل نراهم مجردين منهما، مجرد أطفال. حتى الذكور الصغار، وإن مارسوا سلوكيات تُنبئ بما سيكونون عليه حين يكبرون، أو تُفصح عما ينتجه المجتمع الذكوري مبكرًا من سلوكيات وقيم، لا نراهم إلا كأطفال. مثلما نرى في المشهد الأقرب للحلم أو الذكرى البصرية أو الطيف، شبح طفل ذكر يطارد شبح فتاة صغيرة حاملًا عصا الذكورة بين يديه، من فيلم خيري بشارة الطوق والإسورة (1986).

ربما كان مصطفى البشاري الصغير يطارد أخته فهيمة، لكننا لا ندرك فرق الأدوار بينهما، فهما في النهاية طفلان يلعبان. ندرك الفرق من عصا مصطفى البشاري الذكر الناضج القامع، الذي يعاقب ابنة أخته فرحانة متسببًا في مصيرها؛ مقتلها.

بإمكاننا رؤية معادل لعصا مصطفى البشاري في غزة مونامور. ليس فقط في القضيب المنتصب للتمثال، الذي للمفارقة تحول سريعًا لـ"منتصب مكسور"، مفصول عن جسد صاحبه، بل أيضًا نرى معادلًا آخرَ للعصا، قرب نهاية الفيلم، ممثلًا في صاروخ محمل على رافعة ضخمة. صاروخ حمساوي صناعة محلية، يهدد الاحتلال ولو رمزيًا، وسط نظرات إعجاب الحاضرين.

مركزية القضيب المسلح

أطفال غزة ونساؤها المقتولون والمشردون والجائعون والعطشى، هم الضحايا الأبرز لعملية إبادة ممنهجة وعشوائية، ذكورية الطابع. لا تخلو من آلاف الرمزيات المتعلقة بقضيب الذكر؛ صواريخ إسرائيلية لا تبتعد في مخيلة مطلقيها، والمهللين لهم أيًا كانت جنسياتهم، عن هذه الذكورة المتفجرة في خيام الأطفال وبيوتهم.

يختلف كثيرًا هذا النوع من المقاومة المذكرة الحالية عمَّا كان عليه واقع النضال الفلسطيني سابقًا

بل أكاد أتصور أن من يحمل سلاحًا، أو يقصف صاروخًا، يراه معادلًا لعملية القذف عنده كذكر، وتحول قضيبه إلى مركز، علامة تفوُّق وقوة وإخصاب. ويكفي هنا تأمل الإيماءات الجسدية للساسة والقادة العسكريين الإسرائيليين، وفيديوهات التيك توك لأفعال جنودهم في دواليب ملابس النساء الغزاويات في البيوت المهدمة والمهجورة.

من يتأمل جيدًا هذه الفيديوهات، وتعبيرات أجساد الإسرائيليين، سيلاحظ حالة الاحتفاء بالذكورة، بمركزية القضيب، وبالقوة. وإن كانت المفارقة هنا أن الإخصاب يحدث بالقتل، بالدم، في مشهد ما بعد حداثي، يتناقض مع ما يُفترض أنها قيم توصلت لها الإنسانية خلال آلاف السنين لتنزع عن نفسها سمات الهمجية والتوحش.

فعل المقاومة بدوره معادل لممارسة الذكورة، حتى ولو مجدناه وانحزنا إليه، وبالذات في حالة حماس. فالمقاومة من هذا النوع ذكورية الطابع دائمًا. ليس لأن أفرادها يمسكون بالبنادق ويطلقون الصواريخ، بل بحكم مرجعيتها الدينية، ككل حركات التحرر أو المقاومة الشبيهة؛ المعتمدة على التفوق الجسدي العضلي للرجال، فيما تُترك النساء في الصفوف الخلفية، كراعيات، أو موفرات لإمكانيات الدعم للصفوف الأمامية المذكرة والمسلحة.

في الحالة الفلسطينية تحديدًا، يختلف كثيرًا هذا النوع من المقاومة المذكرة الحالية، عمَّا كان عليه واقع النضال الفلسطيني سابقًا، قبل الانتفاضة الثانية عام 2000، عندما لعبت النساء أدوارًا رئيسية وجوهرية في المقاومة، بما فيها المسلحة، يشهد عليها تاريخ معسكرات الفدائيين الفلسطينية في لبنان والأردن. والأدوار التي تصدرت لها النساء الفلسطينيات سياسيًا، شاهدة أيضًا عما أصبح ماضيًا، وهناك نماذج كثيرة، أكتفي منها باسم حنان عشراوي.

لعبت حركتا حماس والجهاد دورًا أساسيًا بداية من الانتفاضة الثانية في أن تصبح عمليات المقاومة المسلحة السرية هي النضال الفلسطيني الأساسي الأبرز، الذي تُفرض عليه سرية تعزله عن مجتمعه الحاضن. فتكون الصورة الأساسية لمقاومة الاحتلال، هو أنه منظم تمامًا، ليس جماهيريًا، بل متمحور حول امتلاك السلاح والقدرة الاستخباراتية، منتقلًا إلى منطقة الذكورة المطلقة، فيصبح الصاروخ والبندقية معادلين رمزيين للقضيب المنتصب، يكونان المركز.

ربما يكون خارج المشهد المسيطر، مشهدٌ أخر يتكوَّن وإن لم نرَهُ، لنضال فلسطيني يتحرر تدريجيًا من رمزية هذا القضيب، قبل أن يُكسر. أو أن يستفيد من انكساره. لكنها مجرد احتمالية ما دمنا لا نراها.

عن الضحك والبكاء

سألتني واحدة من الحضور بعد عرض الفيلم عن شعبية حماس والمقاومة في غزة، وهل تأثرت بعد كل هذه الشهور من الدم. أجبتها بأنني لا أعلم، وفي تصوري لا أحد يعلم، ولا أحد يمكنه التوقع بناء على معلومات ذات مصداقية، وأن كل ما ينشر عن صعود شعبية حماس أو تراجعها هي آراء أو أمنيات. فمع كل هذا الدم اليومي، والهروب المستمر من المذابح المتزامنة، لا يمكن لأحد أن يدعي معرفة الميول السياسية للفلسطينيين في غزة، وحتى في الضفة، ليتحدث عنها وعن تغيّرها بثقة.

لا يجرؤ أحد على سؤال أحد من غزة، في هذه الأجواء، عن رأيه أو توجهاته التنظيمية والسياسية، أو تقييمه لعملية السابع من أكتوبر بعد تسعة شهور من الدم المتواصل. ليس بالإمكان سوى أن تسأل "هل لا يزالون أحياء؟!"، "من منكم سقط؟!". لتظل على جوانب الأعين دمعة بكاء وحسرة، على عكس غزة مونامور الذي ينتهي بالضحك. ضحك من الصعب أن نتخيله في غزة بعد توقف الإبادة، حيث لم يبقَ مكان لم يتحول لمقبرة، وفي المقابر لا يضحك الناس.