يوتيوب
مشهد من فيلم "زهرة" (2009) للمخرج الفلسطيني محمد بكري

السينما التسجيلية الفلسطينية.. محمد بكري وذاكرة المتهمين من فلسطينيي الداخل

منشور الثلاثاء 23 أبريل 2024

سينمائي يحمل كاميرا صغيرة تحولت بين يديه لما يشبه المسدس. يلتقط بها هذا الجانب من الحقيقة الذي يريد حكيه. يعالجه بعد تصويره، أو يطوره، ليعيد إطلاقه من جديد.

تحدثت عن تلك الصورة الذهنية في المقال السابق، في سياق الحديث عن حركة السينما الجديدة البرازيلية في نهايات الخمسينيات، وشعارها "كاميرا في اليد وفكرة في الرأس"، وما شكَّل تماثلًا معها خارج حدود أمريكا اللاتينية في السينما التسجيلية الفلسطينية منذ أواخر الستينيات، دون أن تكون مجرد استلهام أو تقليد لروح موجة سينمائية بعيدة، بل لقاء طبيعي للسينمائيين الفلسطينيين، مع نوع محدد من السينما يحتاجونه كأداة للفعل.

من لم يروا ملصقات الموجة البرازيلية وامتداداتها في حركات السينما الثورية اللاتينية، من السهل أن يتخيلوا صورة السينمائي حامل الكاميرا/المسدس، لتكتسب ملامح مختلفة في ذهن كل منا. ملامح مشكلة من خطوط وألوان وتكوينات جسدية.

لكن في بلداننا، التي انتبهت أنظمتها مبكرًا لخطورة السينما، فحرصت على التضييق عليها عبر الأجهزة الرقابية والأمنية، ستكون هذه الصورة غير مكتملة. ربما تكتمل بما يناسبها عضويًا، ونشعر بأنه النصف الآخر المُكمِّل لها، وهو محاولة السينمائي أن يصل بفيلمه لجمهوره، رغم المنع والتضييق.

هذا النصف الآخر يتمثل رمزيًا في صورة السينمائي الفلسطيني حامل الجنسية الإسرائيلية محمد بكري، يتجول في الشوارع بصحبة ابنه صالح، وكل منهما يحمل عددًا من نسخ فيلم بكري جنين جنين (2002)، ليوزعانه/يبيعانه للعابرين في الشوارع ومفارق الطرق، أو من يتطعلون إليهما من الشرفات، بعد أن منعت السلطات الإسرائيلية عرض الفيلم جماهيريًا.


طريق الجبل

حكيت في المقال السابق عن كيف يخجل أطفال فيلم زمن للأخبار لعزة الحسن من حقيقة أنهم لاجئون في رام الله، لكنّي لم أحكِ عن زهرة.

لم تكن زهرة طفلة في مثل أعمارهم عام 1948. بل شابة في مقتبل العمر، تزوجت قبل سنوات قليلة من ابن عمها حسن. تخرج مع أبيها وطفليها الصغيرين مشيًا على الأقدام، من قريتها "البعنة" في الجليل، حتى جنوب لبنان. لتتحول إلى لاجئة دون أن تنتبه، بعد أن سمعت صرخة الرجال "البلاد سقطت.. البلاد سقطت"، وعرفت أن العصابات الصهيونية اعتقلت زوجها حسن ورفاقه من شباب القرية ورجالها، ليعدموا بعضهم رميًا بالرصاص، أمام الجميع، ويسوقوا الآخرين للحبس.

عبَرت زهرة وعشرات الآلاف من أبناء البلاد الساقطة، الممرات الجبلية سيرًا على الأقدام تحت المطر. شاهدت جارتها جالسة على صخرة في الطريق. كانت الجارة وحيدة، إلا من جنين تحمله داخلها. جلست، أنجبته، أخرجته بيديها، وقطعت بين حجرين الحبل السري. حملت جنينها وأكملت المسير لتلحق بمن سبقوها.

عادت زهرة وأبوها وطفلاها من لبنان إلى قريتهم، بعد أن قضت في مخيم للاجئين الفلسطينيين 40 يومًا. عادوا متسللين سيرًا على الأقدام مثلما رحلوا، بعد أن سمعوا سبَّتهم كلاجئين؛ "ياللي بعتوا بلادكم"... "روح.. يلعن هالوش كوش اللاجئ".

مثلما حاولت عزة الحسن في "زمن للأخبار" أن تُجمِّد الزمن بكاميرتها، وتُشهر ذاكرة جديدة لهؤلاء اللاجئين عبر تسجيل حكاية آنية، كي لا تُزيف في المستقبل مثل حكايات أخرى، يطرق محمد بكري، الممثل الذي لم يكتفِ بعمله كممثل، نفس الطريق مطلع الألفين، بتسجيله لما هو آني، بفيلمه "جنين جنين"، حين دخل المخيم الفلسطيني في الضفة الغربية ليصور بقاياه بعد الاجتياح الإسرائيلي ومذابحه. ليعود بعد هذا الفيلم للذاكرة القديمة، ليروي قصته وقصة خالته زهرة وعائلتهما في فيلمين؛ من يوم ما رحت (2005)، وزهرة (2009).

لا يُخفي محمد بكري دافعه لإعادة بناء الذاكرتين؛ الجماعية والفردية، سينمائيًا. بل يحدده منذ اللحظات الأولى للفيلمين، وفي حالة "زهرة" من قبل أن يبدأ الفيلم. وكأنه يقول لجمهوره لا أريد صُنع فيلم "جميل"، بل أبحث عن الذاكرة لتُحكى، كي لا يزيفوها، ليعرفها جيدًا الآتون من بعدنا. فلا يهدي فيلمه زهرة للخالة/النموذج، بل "إلى أولادي وأولادكم". وكأن الفلسطيني يحاول، عبر الحكي، وعبر السينما، أن يمنع تكرار التاريخ، تكرار النكبة، وتكرار السير في هذا الطريق الجبلي الذي قطعته الخالة زهرة ذهابًا وعودةً.

حتى وإن كرر بكري، بينما يحكي عن خالته وأمه وذاته ومسار عائلته، عبارة "التاريخ بيعيد نفسه". فإنه يكررها واعيًا بأنَّ المذابح المتتالية، والدولة التي يحمل أوراق ثبوتيتها وهي تتوحش أكثر فأكثر، لا يمكن لها أن تُفقده أمله في ألا تنخدع الأجيال الجديدة إن قالوا لها اخرجوا يومين وستعودون. فيحكي لهذه الأجيال ذاكرة من خرجوا وعادوا، ومن لم يُخدعوا.

من بقوا في السهل.. "جوّه"

انتقال محمد بكري من المذبحة الآنية في "جنين جنين"، وصولًا للذاكرة البعيدة للخالة زهرة، يمر بمحطة انتقالية، حين يحكي كمخرج ما لم يستطع ربما حكيه كممثل؛ ملاحقة نفسه كمتهم، صانعًا فيلمًا عن اللحظة التي يتشكل فيها انفصالٌ جديدٌ بينه وبين "الدولة"، ويزداد فيها إدراكه، ومن جديد، لعمق العداء بينهما.

يتحول "زهرة" لأنشودة مَن نجهلهم مِن فلسطينيي الداخل من يُسمّون خطأً بعرب إسرائيل

هذه النقطة الانتقالية في المنتصف بين فيلمين، هي فيلمه "من يوم ما رحت". يبدو كخطاب فيلمي يوجهه لأبيه الروحي الكاتب والمناضل السياسي إميل حبيبي، جالسًا أمام قبره، ليذكره ببعض اللحظات التي عاشوها سويًا، وليحكي له الحاضر. يحكي له عن ملاحقته الآنية بسبب الفيلم السابق "جنين جنين"، وكيف يتحول الضحية لمتهم، وعن اثنين من أبناء عائلة بكري، حُكم عليهما بالسجن بعد أن شاركا في تفجير حافلة ركاب إسرائيلية. ويستعيد مع إميل حبيبي كلمات الأخير نفسه، عن مصير اليهود والعرب الذين لا يمكن فصلهما.

لكن رواية محمد بكري لنا، أو لرفيقه إميل حبيبي عند قبره، لا تتوقف عند ما هو شخصي. بل إن الحكاية تبدأ مما هو جماعي، وتنتهي به. فيحكي له عن انتفاضة الداخل في أكتوبر/تشرين الأول 2000 للتضامن مع انتفاضة غزة والضفة. تلك الانتفاضة التي لم تفرق خلالها الدولة الإسرائيلية بين الفلسطينيين في غزة والضفة، والفلسطينيين الذين يحملون في الداخل أوراقها الثبوتية نفسها. فتتعامل بـ"العدل"؛ لا تميز بينهما في القتل، فكلاهما فلسطيني. فيقول محمد بكري لإميل حبيبي، المكتوب على قبره مثلما أوصى عبارته "باق في حيفا": قطفوا 13 شاب متل غصون الريحان.. من عنا.. من جوّه.

تعبير "جوّه" لا بد أن يستوقف الكثيرين. جوّه وبره، وهذه "البره" المقسمة بدورها لضفة وغزة وشتات.

زهرة كانت "داخل"، تحولت إلى "خارج"، لكنها لم تصبر على ذلك الخارج، واستطاعت أن تعود للداخل. حظيت بما لم ينله في الوقت المناسب عشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين تحولوا عبر السنين، وعبر الهزائم والنكبات المتتالية، إلى ملايين اللاجئين.

لكن لنبقَ مع "الداخل". أتذكر خلال انتفاضة الشيخ جراح 2021، فوجئ الكثير من الشباب والشابات العرب بانتفاضة موازية، ولنفس الأهداف، لأهل الداخل الفلسطيني. لم يكونوا يعرفون بوجودهم. لم يدركوا حتى لحظتها أنَّ هناك "داخلًا"، يتشكَّل من 1.7 مليون فلسطيني وفلسطينية، المتهمين لأنهم صمدوا، والمتهمين لأنهم يحملون أوراقًا ثبوتيةً إسرائيليةً.

ملاحقون من إسرائيل لأنهم نقيض مشروعها العنصري، وعقبة في سبيل النقاء الديني لدولتها، وفاضحون لكذبتها الأكبر بمجرد بقائهم، فالأرض لم تكن خالية مثلما ادعت، بل كانت لشعب. وملاحقون من أغلب الأنظمة العربية التي لا تعترف بهم وتنظر لهم بريبة. فتمنع بعضهم من دخول أراضيها، يعيدونهم من المطارات، بينما تُفتح أبواب الدخول لـ"الإسرائيلي الصهيوني النقي"، ليمارس السياحة والبيزنس التطبيعي.

بين الجبل والسهل

مثلما تحضر غزة في فيلم "زمن للأخبار" عبر حديث أبطاله، الأطفال الأربعة، عن مشهد قتل محمد الدرة في غزة عام 2000، تحضر بدورها عند محمد بكري في فيلمه "زهرة". وكأن غزة الامتداد الدائم للمذبحة. ففي المساء، تجلس الخالة زهرة أمام قناة "الجزيرة" الإخبارية، لتشاهد مذبحة غزة في 2008، وضربها بالقنابل الفسفورية والعنقودية.

تمتزج الحكايتان المنتميتان لزمنين مختلفين؛ زمن غزة والجليل وقت تصوير الفيلم، وزمن الجليل في 1948. لكنَّ الحكاية لا تتوقف هنا، بل يحكي محمد بكري عن الماضي والمستقبل ليمزجهما سويًا. يحكي عن تاريخ أبناء قريته "البعنة"، من رحلوا، وكأنه يوجه الحكاية لمن سيأتون؛ للأطفال الكُثُر في عائلته، أحفاد أبناء زهرة. فتحضر سيرة وبطولات بضعة مناضلين انتموا للحزب الشيوعي، أقاموا تعاونية، وواجهوا الاحتلال. استطاعوا أن يصمدوا في وجه مخطط التهويد والتطهير العرقي لكل الأراضي المحتلة عام 1948. فيتحول الفيلم لأنشودة مَن نجهلهم مِن فلسطينيي الداخل، من يُسمّون خطأً بعرب إسرائيل، الذين يتذكرون المسلم حسن بكري، زوج زهرة وعم المخرج، والمسيحي حنا إبراهيم، اللذين وقفا سويًا لمنع مخطط إسرائيلي آخر، ليس فقط بالأسرلة، لكن بزرع فتنة طائفية بين المسيحيين والمسلمين الباقين.

يصطحب محمد بكري أمه وخالته زهرة للبحث عن بيت قديم يخص العائلة في مدينة عكا. لا يستطيعون تحديد مكانه بعد أن غيّرت إسرائيل معالم المدينة وهدمت الكثير من بيوتها، فيكتفون بزيارة قبر الأب. وفي طريق العودة يرون راعيًا للغنم، تطارد كلابه خنزيرًا بريًا في الجبل، نفس الجبل الذي أنجبت به الجارة وحيدة تحت المطر. تنهش الكلاب الخنزير المذعور، والراعي الشاب لا يتوقف عن ضربه بعصاه الغليظة حتى يقتله. يرميه من فوق الجبل إلى مجرى مائي صغير. يطرده مقتولًا من جبله، من الجبل الذي سكنه دائمًا، دون أن يرتكب أي جريمة.