آلاف محمد الدرة.. صور أليمة لأطفال غزة
ما إن أطلق الرئيس الأمريكي جو بايدن كذبته حول قطع رؤوس أطفال المستوطنين الإسرائيليين في 7 أكتوبر الماضي حتى قامت الدنيا ولم تقعد. تساوق مع الرواية المختلفة الإعلام الغربي بشكل واسع، وجرت على ألسنة المسؤولين في أوروبا جريان الماء العذب في حلوق الظامئين، لتصنع تعبئة عارمة في أوساط الناس، وتتخذ قرارات بمساندة مفتوحة لإسرائيل، لتطلق يدها في أطفال غزة.
لكنَّ هذه الرواية لم تلبث أن ذابت، ليس لثبوت كذبها فقط، بل أيضًا لظهور آلاف الصور لأطفال غزة، الذين استشهد منهم، وقت كتابة هذه السطور، ما يربو على 3700 طفل، كانت كفيلة بتحريك قلوب الملايين حول العالم، فخرجت المظاهرات في الشرق والغرب، رافعة لافتات "كفوا عن قتل الأطفال"، و"إسرائيل قاتلة الأطفال"، و"أنقذوا أطفال غزة"، حتى وصل الأمر الممثل والإعلامي الأمريكي الشهير جاكسون هنكل أن يضع صورًا لأطفال غزة، ويغرِّد غير مرة قائلًا "إسرائيل هي داعش".
تباينت صور أطفال غزة بين مَن تمَّ لفهم في الأكفان البيضاء وتراصوا طابورًا من الألم، ومن ظهروا تقطر من أجسادهم الدماء أو حرقى وقد فارقوا الحياة، وهناك مصابون بجراح وحروق، وهناك من تغيَّرت وجوههم بعد إنقاذهم من تحت أنقاض البيوت المتهدمة. وهناك مشردون يهيمون على وجوههم في الشوارع المفتوحة على النار، بعد أن استشهد كل أهلهم. وهناك من يروون الحكايات الموجعة، وبينهم من يظهر التحدي للاحتلال الإسرائيلي، حاملًا وعد الفلسطينيين الذي يسبح في بحر من الدم.
صارت لدينا آلاف الصور، تُضاف إلى صورة سبق لها أن حركت العالم، تخص واقعة استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة بالرصاص وهو يحتمي بظهر أبيه النحيل في 30 سبتمبر/أيلول 2000، خلال انتفاضة الأقصى. وقد رآها كثيرون حول العالم بمنزلة انتهاك للطفولة بشكل عام، والطفولة العربية بصفة خاصة.
قُتِل الصبي
ظهر الدرة، الأب والابن، بعد وقوعهما وسط تبادل إطلاق النار بين الجنود الإسرائيليين وقوات الأمن الفلسطيني، فكانت الصورة في حد ذاتها كافية للتعبير عن هذه المأساة، التي عمّق منها صراخ الطفل "أصابوني.. أصابوني"، ورد الأب عليه وهو يرى الرصاص يخترق ظهر ابنه "مات الولد مات"، بعد ثوانٍ من قول الابن لأبيه "اطمئن يا أبي أنا بخير لا تخف منهم"، ثم قول الأب بعد سنوات "لقد امتلأ جسمي بالرصاص لأحمي فلذة قلبي ولكنني لم أستطع، كان يحاول طمأنتي ولكنني لم أستطع حمايته".
كان المشهد المروع كفيلًا بانفجار مشاعر غضب الشعب الفلسطيني، فخرج في تظاهرات لم تلبث أن تحولت إلى مواجهات عنيفة مع الجيش الإسرائيلي في مناطق عدة، وصاحبها خروج تظاهرات تطالب بوقف أعمال القتل، في أماكن عدة من العالم، لتهيِّج مشاعر محمود درويش، فيكتب قصيدة للدرة.
محمد، ملاك فقير على قاب قوسين من بندقية صياده البارد الدم من ساعة ترصد الكاميرا حركات الصبي الذي يتوحّد في ظلّه وجهه، كالضحى، واضح قلبه، مثل تفاحة، واضح وأصابعه العشر، كالشمع واضحة والندى فوق سرواله واضح.. كان في وسع صياده أن يفكر في الأمر ثانية، ويقول: سأتركه ريثما يتهجى فلسطينية دون ما خطأ سوف أتركه الآن رهن ضميري وأقتله، في غد، عندما يتمردا |
صار الدرة بهذا أيقونة انتفاضة الأقصى ومُلهمها، وصورتها الإنسانية في مشهد هز الضمائر، فحاولت إسرائيل التبرؤ منه مدعية أن الفلسطينيين يضحون بأطفالهم لتشويه صورة إسرائيل، وهي مسألة كذَّبها رئيس مكتب فرنسا 2 بإسرائيل شارل إندرلان، الذي أخبر المشاهدين أن محمد الدرة ووالده كانا هدف القوات الإسرائيلية من إطلاق النيران.
أما المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة فقدّم شهادة إضافية على الحادث قال فيها:
"رأيت الصبيَّ مصابًا في ساقه، وكان أبوه يستغيث. ثم رأيت الأب أيضًا مصابًا في ذراعه. وكان الأب يطلب سيارة إسعاف لإنقاذه، ولكنني لم أتمكن من رؤية سيارة الإسعاف. لم أكن بعيدًا، ولربما كانت المسافة بيني وبين الأب وابنه، حوالي 15 أو 17 مترًا. ولكن لم يتمكن الأب من إيقاف سيارات الإسعاف بالتلويح. ونظر إليَّ وقال 'ساعدني' فقلت له 'لا أستطيع، لا أستطيع مساعدتك'.
وحتى ذلك الحين، كان ضرب النار ثقيلًا حقًا. فقد كانت السماء تمطر رصاصًا، لأكثر من 45 دقيقة. ثم سمعت 'بووم' أي انفجار مع رؤية الغبار. فنظرت إلى الصبي، وصورته وهو مستلقٍ في حضن أبيه، وكان الأب مصابًا بجروح خطيرة، وكان بالفعل يشعر بدوار. وقلت 'يا إلهي، قُتِل الصبي، قُتِل الصبي'، كنت أصرخ، وقد فقدت صوابي، فبينما أنا أصور، قُتِل الصبي".
قوة الصورة
أغنت هذه الصورة عن مئات آلاف الصفحات التي كان من الممكن أن يدبجها الفلسطينيون في سبيل إقناع العالم بالمأساة التي يتعرضون لها، سواء إبان انتفاضة الأقصى، أو ما سبقها وما أعقبها، وحتى الآن.
فالصورة كانت مؤثرة إلى درجة أن انبرى في التعليق عليها وتفسيرها العديد من الكتاب في جميع أنحاء العالم، وكذلك منظمات حقوق الإنسان، ومنصات التلفزة، ومن أجلها تشكلت لجان تحقيق، وعقدت محاكم، وأدلى شهود عيان بما رأوه.
وقد انشغل كل هؤلاء بتحليل التفاصيل الدقيقة عن الزمن الذي استغرقه القتل، ومكانه، والطريقة التي تصرف بها الأب وابنه، والرحلة التي استغرقتها جثة الطفل منذ استشهاده وحتى وارى الثرى، والأخذ والرد بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، في الدفوع وتبادل الاتهامات، وتحليل الموقف.
اليوم أصبحت صورة الدرة وحكايته آلاف الحكايات والصور
لكن عبقرية هذه الصورة أن كلَّ ما صاحبها من كلام وثرثرة لأغراض متعددة ومتناقضة ذاب في الهواء، مهما كان فيه من بلاغة، لتبقى الصورة وحدها هي المحفورة في الذاكرة، حاملة في بطنها كل المجازات والتصورات والخيالات التي فقدها الكلام.
فما إن يقول أحدهم "محمد الدرة"، حتى تتحرك أذهان جيل كامل عاش تلك المرحلة، وتستدعي من قلب الذاكرة صورة طفل يحتمي بظهر أبيه، وهما يلوذان ببرميل مملوء بالخرسان، لم يعبأ بهما، أو لم يقدر على الصد والرد فيما كان قاصدهما مصرًا على القتل. نسيت كل ذاكرة ما قيل من كلام، أو ضاع أغلبه، أو تناثر وتشتت وتشوه.
صورة الدرة وحكايته صارت الآن آلاف الحكايات والصور، التي تسهم في تخليد الحق الفلسطيني، وتجعل دوائر المقتنعين به، والعاملين له، تتسع لتشمل العالم كله. لكنها للأسف، لم تجعل قلوب المسؤولين في الغرب تنبض بأي حس إنساني، فاستمروا يصرون على أن إسرائيل تدافع عن نفسها، وأن يدها يجب أن تظل مطلقة بلا حساب.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.