موقع حركة حماس
طوفان الأقصى، 7 أكتوبر 2023

طوفان الأقصى وقواعد لعبة ما زالت تتغير

منشور السبت 8 مارس 2025

في السنوات الأخيرة، انطلق الأستاذ حسين عبد الغني في الكتابة بغزارة، ليظهر موهبة لافتة في التحليل السياسي والمقال، بعد أن حطَّ من على كتفيه مشاغل الصحافة التي عمل بها سنوات طويلة كان آخرها مدير مكتب صحيفة الرأي العام الكويتية بالقاهرة، ومشاغل الشاشة من قناة الجزيرة حتى صار مديرًا لمكتبها في القاهرة، إلى قناتي النهار وروسيا اليوم، وكان عمله انطلق أصلًا من التليفزيون المصري.

لم يهجر عبد الغني الصحافة تمامًا، إذ يرأس حاليًا تحرير موقع أصوات أونلاين، ويكتب إلى جانب هذا مقالات في عدة مواقع رصينة، كما أنه ظهر محللًا سياسيًا بارعًا على شاشة القاهرة الإخبارية لعدة شهور من حرب طوفان الأقصى.

جمع عبد الغني مقالاته، وغذَّاها بتحليلاته السياسية، وأصدرها الشهر الماضي في كتاب بعنوان "طوفان الأقصى.. مَن غيّر قواعد اللعبة؟" عن دار الفلق للنشر والتوزيع وأهداني نسخة منه، فراق لي طرحه أفكارًا مهمة بأسلوب سلس، وإعلان انحيازه الوطني متوسلًا بالتصور الذي انتهى إليه بعض المختصين في العلوم الإنسانية أو الاجتماعية من أنه لا يمكن تجنب الانحياز فيها تمامًا، وأن الموضوعية هي أن يعلن الباحث موقفه أو انتماءه الأيديولوجي في البداية، حتى لا يضلل القارئ.

وانحياز حسين عبد الغني معروف، وهو أنه قومي عربي يقدر تجربة جمال عبد الناصر في السعي للاستقلال والتنمية الذاتية والعدالة الاجتماعية ومساعدة حركات التحرر في العالم، وفي الوقت نفسه هو يؤمن بالحرية وكل ما في الديمقراطية من سياقات وقيم وثقافة وإجراءات، ويتمتع بمرونة ذهنية تجعله منفتحًا على أي نقد أو مراجعة.

تحديات سيولة الحرب

الكتاب ليس مقطوع الصلة بسياقه، إذ تنشط أيام الحروب التحليلات العسكرية والسياسية والتقديرات الاقتصادية والتصورات الاجتماعية المعنية بأثر المعارك على البشر، وكذلك مسار استراتيجيات الصراعات العسكرية وتأثيرها على جغرافية الدول. ومع تدفق الأحداث من غزة وجبهات المقاومة المساندة لها، تلهث الأقلام.

وما قدمه عبد الغني إسهام مهم لفهم هذه الأحداث في إطار منهجية متماسكة، أو وفق إطار تفسيري أشمل يضع الجزء في سياق الكل، ويرى الحدث ضمن التصور الأساسي والجذري، الذي يجعله في خاتمة المطاف ليس مجرد تصرف عابر إنما هو نابع من مرجعية، وذاهب إلى غاية.

هناك صعوبة واجهت عبد الغني دون شك تتعلق بطول الطريق إلى مصادر المعلومات

ولا يمكن هنا أن تقوم مرجعية أو ينشأ إطار تفسيري لا يضع "الإنسان" الفلسطيني في الاعتبار، بل يجعله النقطة المركزية التي يبدأ منها فهم ما يجري، وتحال إليها الجسارة والصمود اللذان أذهلا العالم كله، ويتم في ركابها الوقوف على أي تغيير يطرأ على العالم العربي سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا جراء تفاعله مع القضية الفلسطينية.

ولكن في الوقت نفسه واجه الكتاب تحديًا كونه يتصدى لدراسة ظاهرة ما زالت سارية، وهذا يختلف عن تناول حدث انقضى، مثلما يختلف التعامل مع الظواهر في زمن الحرب حيث تبرز معلومات وتُخفى أخرى وفق مقتضيات الحرب النفسية والتقديرات العسكرية للأطراف، عنه في أيام السلم حيث تنجلي المعلومات التي كانت محجوبة.

ولأن الكتاب جَمْع مقالات كُتبت في ظل أحداث تتابعت بلا هوادة، تلهث خلفها الألسن والأقلام وتتعدد الرؤى منجذبة نحو اتجاهات وانحيازات لا يمكن أن ننكر وجود العاطفة فيها، فقد واجه ما يواجهه أي كاتب وهو يتناول حربًا جارية، تتصاعد أحداثها وتتراجع. تلوح في الأفق نهايتها مع جولات تفاوض عسيرة، ثم نكتشف أننا لا نزال نعيش أول فصولها الدامية، لا سيما في ظل "لعبة كسب الوقت" التي انتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي، وإصرار المقاومة، في المقابل، على ألَّا تقدم على تنازل يجعلها تخسر بالسياسة ما ربحته بالحرب.

وهناك صعوبة ثانية واجهته دون شك، تتعلق بطول الطريق إلى مصادر المعلومات ووعورته، ففي ظل الحصار والتعتيم الإعلامي، خاصة من الطرف الإسرائيلي، يصعب الحصول على معلومات دقيقة، ومع تعذر  إنهاء أي أبحاث اجتماعية تجريبية أو إجراء مقابلات متعمقة أو دراسة حالة، يسهل الوقوع في فخ الانتقائية، الذي لا ينجم عن تحيز الباحث بالضرورة، إنما عن حجم التعرض لوسائل إعلام معينة، أو تباين مسافة الوصول إلى معلومات بعينها. ويتم هذا بالطبع في ظل تحيزات إعلامية وسياسية، تتحكم في صناعة السرديات، وتجعل كثيرًا من الحقائق محجوبًا خلف ستائر الأيديولوجيا.

ماذا يفعل الباحث؟

آثار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يناير 2024

هذا الوضع يتطلب من الباحث أو الكاتب أو المحلل السياسي امتلاك مهارة التوفيق بين مختلف هذه الاقترابات، بما يُمكّنه من تحليل التغيرات الثقافية الناجمة عن الحرب بقدر مناسب من الدقة والشمول، في ظل تعقيد منهجي، يزيد مع غياب أي إطار نظري محدد، وهي مسألة تعاني منها الدراسات الثقافية بوجه عام.

ولتلافي العيوب التي نقع فيها كباحثين، فإن على الباحث أن يتلمس إجراءات عدة، منها المتابعة الدقيقة لما يحدث على الأرض وما يواكبه من تصريحات ومساجلات وتحليلات. وأن يراعي أنه لن يحصل على المعلومات الحقيقية بسهولة لأن الحروب تولد الغموض كجزء من تكتيكاتها العسكرية، فيسهل الكذب لخداع العدو، ولا تعبر التصريحات المتدفقة بالضرورة عن حقيقة المواقف وجوهر النيات.

وعليه أيضًا إدراك المستبعد والمهمل في التحليلات اليومية، وتسليط الضوء عليه، أو دفعه إلى السطح، بحيث يكون هو محور النظر أو الفحص العلمي المتأني، الذي يضع ما يقال ويُكتب موضع المساءلة، ويحيله إلى المدخل الأساسي للدراسة، الذي يأخذ ما تتطلبه "الدراسات الثقافية" من تصورات ومقاربات، على وجه واسع وعميق. وأخيرًا فهم العناصر التي تشكل كل حدث، والتي لا يمكن قصرها على ما تفرضه الحرب والسياسة، إنما كذلك الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية.

ولعل كتاب عبد الغني، الذي استفاد فيها من مضمون مائة مقال كتبها في الصحف وتحضير بحثي لخمسين محاضرة ومقابلة تليفزيونية أجراها خلال عامي 2023 و2024، راعى الكثير من هذه النقاط، لكنه راعى أكثر أن يعبر عن انحيازات كاتبه، التي تأتي في ثنايا السطور واضحة جليَّة.

ولهذا اختار عبد الغني أن يضع على الغلاف الخلفي للكتاب عبارة دالة في هذا المضمار، قال فيها "هذا الكتاب ليس محايدًا، فربما تجد فيه تحليلًا موضوعيًا لا ينكر الحقائق، ولا يبيع الأوهام، لكنك قطعًا ستجد فيه رأيًا منحازا لخيار المقاومة، ونهج التحرر من الهيمنة، وهو جرس إنذار يحذر من أنه إذا استمر العرب في الانصياع لأعدائهم، وإذا تخلت تنظيمات المقاومة عن سلاحها فإن القدس وغور الأردن والجولان ستضيع للأبد، كما أن سيناريو العرب بترحيل الفلسطينيين قسرًا من غزة والضفة الغربية، وتحويل لبنان إلى حديقة خلفية ونزهة عسكرية لإسرائيل في أورا نيوم الكبرى ستكون كابوسًا معاشًا".

في الختام أقول إن الكتاب أظهر قدرات حسين عبد الغني في التحليل السياسي التي توارت بعض الوقت خلف مهامه كمذيع أو صحفي، إذ استعاد هنا حصيلة قراءاته وخبرته العملية وقبلهما تخصصه الأصلي باعتباره خريجًا للعلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، حيث تتلمذ فيها على يد أساتذة كبار، علموه امتلاك أدوات التحليل السياسي منذ وقت مبكر.