
فن التحايل في "شرق 12"
قد يشكل فيلم شرق 12 للمخرجة هالة القوصي وبطولة منحة البطراوي وأحمد كمال وعمر رزيق وفايزة شامة وأسامة أبو العطا، المعروض حاليًا بسينما زاوية، تحديًا للمشاهد في أول 10 دقائق، لأنه لا يتبع السردية المعهودة للأفلام التقليدية.
ينتمي الفيلم إلى مدرسة الفانتازيا، ويستخدم الكوميديا السوداء ليطرح قضيةً فلسفيةً حول نزوع الإنسان في ريعان شبابه إلى الحرية، ثم ترويضه ليشعر بالأمان في سجنه بعد تجاوزه مرحلة الشباب ومع طول مدة القمع، واستخدامه الفن بكل أشكاله ليطلق سراح روحه خارج جسده المسجون.
تعمَّد الفيلم الخروج من حيز الزمان والمكان، ليقترب من الفلسفة الإنسانية دون تقيُّد بموقع ما أو ظرف تاريخي بعينه. ويعود لاستخدام التصوير بخام السينما الذي هجر صناع السينما استخدامه منذ سنوات. بشكل شخصي، وبعد سنوات من مشاهدة أفلام التصوير الرقمي، وقع خام السينما على عينيَّ وقلبي وقوع الماء على التربة الجافة.
كمشاهِدة تقليدية، شغْلت عقلي في أول 10 دقائق من الفيلم بمحاولة فهم المكان، هل هو ملجأ؟ هل هو سجن؟ هل هو قرية؟ لكن انسياب الأحداث وتألق الشخصيات الحية التي يقدمها الفيلم جعلاني أترك عقلي لأحيا مع أبطال الفيلم تجربتهم الفريدة.
تدور الأحداث المصوَّرة بالأبيض والأسود في مستعمرة مجهولة، ولا تظهر فيها أيٌّ من مظاهر الحياة الحديثة؛ لا موبايلات ذكية أو رسائل نصية لجأت لها كاتبة الفيلم هالة القوصي كحلٍّ كسول لتسيير الأحداث. تعيش في المستعمرة مجموعةٌ بشريةٌ تعاني الفقر والقهر، لكنها لا تخلو من الصفات البشرية الحية؛ خليط من الشر والاستغلال المتبادل مع الطيبة واللطف وكرم الأخلاق في بعض الأحيان.
https://youtu.be/EyXabPZTogg?si=qZ1oS1w_O76PB7piيحكم هذه المستعمرة بهلوان جسَّده الفنان أحمد كمال، يقدم عروضًا يفرض على الجمهور فيها أن يضحك عنوةً وأن يصفّق قسرًا. ورغم مأساوية عروض "الفزيون"؛ المسرح الذي يقدم عليه البهلوان فقراته، حلم كل مواطن في هذه المستعمرة بالمشاركة فيها، ومن بينهم عبده/عمر رزيق، ذلك الشاب اليافع، الفنان، الذي يقدم موسيقى بوسائل بدائية لكنها خلاقة ومبدعة، ويحظى برعاية ومحبة خاصة من سيدة البازار/منحة البطرواي، نستشعر فيهما بعدًا روحيًا ميتافيزيقيًا وكأنها العرابة وهو "المختار".
يسجِّل عمر أصوات الشارع وأصوات عروض البهلوان وتعليماته وتحذيراته، على شريط كاسيت في جهاز تسجيل قديم ومتهالك، ثم يستخدم المادة المسجلة خلفيةً لإيقاعاته المبتكرة التي يعزفها على آلات موسيقية صنعها من علب الصفيح، وبقايا الأدوات المنزلية (الروبابيكيا)، حتى أنه استبدل نعلي حمام بعصا الدرامز.
يداعب الفيلمُ الطفلَ الداخلي لدى المشاهد، فلا يخاطبه بلهجة مستثقفة متعالية، وإنما قدم له الكوميديا، والسرد، والموسيقى، والرقص، والمتعة التي ينشدها الجمهور من مشاهدة السينما بشكل عام.
قد يوحي الحس التجريبي في الفيلم، الذي يغيب عنه نمط السرد المعتاد، بغياب الحبكة، وهذا غير صحيح، فالملل لا يتسرب إلى المشاهد أبدًا؛ لأن الصراع دامٍ، ويمكن مشاهدة جرائم قتل وجثث ملقاة في فناء المستعمرة، لكنه رغم ذلك صراع ناعم تتخلله القصص والموسيقى والألعاب والضحك.
بدا لي أن المخرجة وجَّهت ممثليها بألَّا يمثلوا فجاء الأداء طبيعيًا وكأنهم يتحركون داخل فيلم تسجيلي
رسمت الشخصيات بعناية واختصار، فلم يسهب الفيلم في سرد مبررات البهلوان ليجتر منك التعاطف ويدعي الموضوعية، إلا أنك تشعر بأزمته الوجودية وضعفه وإنسانيته في لقطات سريعة تجعلك لا تقوى على كراهيته. سيدة البازار المتواطئة مع القمع ليست إلا شخصًا حنونًا. وننة/فايزة شامة التي يعتبرها المجتمع بغيًا ليست إلا فتاةً مغتصبةً. عبده الفنان، النبيل، الذي يسخر من القهر، يتوق في النهاية إلى اعتراف البهلوان ويلهث خلف الفزيون حتى يجد نفسه أمام لحظة اختيار.
المثير حقًا في الفيلم هو خلق شخصية متفردة ومتميزة للمجموع. تشكلت المجاميع من فسيفساء إنسان، لكل فرد منهم خاصية، لتخرج لنا شخصية متكاملة بكل تناقضاتها وشرها وخيرها في صورة شاملة، وكأن المجموع هو أحد شخصيات الفيلم.
ليست هناك صعوبةٌ في فهم الفيلم إذا ما تركت نفسك لتعيش مع شخصياته في عوالمها غير التقليدية. أما صورته؛ فتراوحت بين اللوحات السينمائية والاسكتشات المسرحية والاستعراضات الراقصة التي تريح عين المشاهد. كما اختلف أداء الممثلين عما تعودنا عليه، إذ بدا لي أن المخرجة وجَّهت ممثليها بألَّا يمثلوا، فجاء الأداء طبيعيًا وكأنهم يتحركون داخل فيلم تسجيلي، ليبدع كل ممثل في دوره بلا أي نقيصة.
تشربت الكاتبة الثقافة المصرية وهضمتها وأحالت إليها دون أي تلويح مباشر. فأنت تشم رائحة الثقافة المصرية الشعبية والرسمية في كل مشهد، لكنك لا تجد إشارةً مباشرةً لبيت شعر أو أغنية مشهورة، فتشعر بأن الأغاني مستوحاة من شعراء العامية المصرية، وتشعر أن المشاهد المسرحية مستوحاة من مسرح الستينيات، وأن التابلوهات السينمائية مستوحاةٌ من مجموع أفلام السينما المصرية، وأن قصص سيدة البازار مستوحاة من السير الشعبية، في ضفيرة أسيلة، سلسلة، غزلت بعناية.
فيلم شرق 12 تجربة سينمائية مهمة، يمكن أن نضعها تحت عنوان "فن التحايل". التحايل على المحظورات، والممنوعات، والاستقطابات، والتوترات الاجتماعية، ليقدم لك فلسفةً إنسانيةً عالميةً، تنبت من جذور ثقافتها لتشرق على الوعي الإنساني العام بدون حدود.