
السيد رامبو.. أنا كلبي وكلبي أنا
يستهل المخرج خالد منصور فيلمه البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو بمشهدٍ عنيفٍ لضبعٍ بوجهٍ دامٍ ليدخلنا في المزاج العام للفيلم، ثم يعود بنا إلى العالم المحدود للبطل حسن/عصام عمر الذي يتكون من الأم ألطاف/سما إبراهيم، وحيوانه الأليف الكلب رامبو. تتكرر على طول الفيلم مشاهدُ القسوة والجحود في مقابل الهشاشة والضعف اللتين يحتمي بهما البطل لمواجهة الحياة الباردة الفظة التي يحياها.
يختار المخرج استهلالًا آخر يورطنا من خلاله في عالم حسن أثناء إعداده طعام الإفطار، تُعلّق والدته على الطعم بأنه "دِلع" ينقصه الملح، بينما يأكل حسن ورامبو باستمتاع. نعرف أن عيد ميلاده اقترب، تقترح عليه الأم الخروج احتفالًا لكنه يفضل أن تُعد له كيكة، وأن يشربا الشاي باللبن. بسيطة هي رغبات حسن طوال الفيلم، ورغم ذلك لا يطولها!
رمزية الجوع
تعكس مشاهد تناول الطعام الرغبات الشخصية لأبطال الأفلام؛ في فيلم خرج ولم يعد من إخراج محمد خان، يفقد عطية/يحيى الفخراني شهيتَه ولا يُعلن جوعه صراحةً سوى مرة واحدة بعدما تأكد من وقوعه في الحب؛ هذا الجوع الذي لم يكن يدركه اكتشفه في رحلته.
هناك تماس بين حسن وعطية في جوعهما، مثلما في مشهد عودة حسن إلى المنزل بعد ليلة طويلة حاول فيها إخفاء رامبو، حينها أمسك بحلّة أرز وبدأ يأكل متعجلًا، لتدخل أمه وتفهم منه خطته لحل الأزمة التي تورط فيها، فهي قد تتنازل لرامبو عن حصتها في الطعام، لكنها لا تستطيع التضحية من أجله بشقتها ومسكنها الوحيد! فتشتبك مع حسن وتصرخ فيه متعجبة مما يفعله، ليرد عليها "جعان يا ماما جعان!".
الجوع هنا حقيقي ومجازي أيضًا للحياة التي يفتقد مذاقها؛ تعرض الأم على ابنها أن تسخِّن له الأرز فيرفض ويخبرها أنه سيأكله باردًا، كما اعتاد هو من الحياة التي يكتفي في مواجهته لها بشرب الماء لمساعدته على البلع.
لا يبدو الطعام شهيًا إلا في مشاهد قليلة، مع ذلك لم يترك المخرج لحسن فرصة لمضغ الطعام على مهل. فهو مضطر للأكل في قهر واستسلام، شهيته مفقودة وحياته دِلعة، مثل البيض الذي يصنعه.
وبعكس عطية في خرج ولم يعد، فإن جوع حسن وطلبه للأكل مفروضان عليه، تعبيره المنفلت كان نتيجة إلحاح أمه، وإدراكه القهر الواقع عليه من جسده أيضًا.
يدافع حسن عن رامبو بكل قوته ويتخيله صديقًا وفيًا يمنعه من الانزلاق إلى الجنون
يقول عالم النفس الفرنسي جاك لاكان في كتابه Écrits/كتابات إن "جهل الإنسان المستمر برغباته ليس جهلًا بما يطلبه، بل جهل بمصدر رغبته"، و"رغبة الإنسان هي رغبة الآخر"، أي أننا نفترض أن رغبتنا تكمن فيما يرغب فيه الآخر ويفتقر إليه.
قد يكون الآخر هنا هو والدة البطل، أو كارم/أحمد بهاء/بوب مالك العقار المتغطرس، أو رامبو الذي يفتقر إلى الأمان لكنه لا يفتقر للشجاعة، وهو ما دلل عليه بأن بال على سيارة كارم الذي أهان حسن وهو يضغط عليه لإخلاء الشقة التي يسكنها مع والدته ليضمها إلى ورشته، دون أن يرد الأخير على الإهانة.
أنا كلبي وكلبي أنا
في مشهد آخر يجمع حسن برامبو في كشك خاص بنقطة حراسة في سياق عمله فرد أمن، يوّجه البطل كلامه إلى صديقه المتخيل، ونفهم أنه أسقط عليه الذكرى السعيدة الوحيدة له مع والده، حين منحه شعور الإثارة بأن سمح له بمشاهدة أحد أجزاء سلسلة أفلام رامبو الشهيرة، من بطولة النجم سلفستر ستالون، وهذا هو سبب تسميته له رامبو.
لم نر حسن شخصًا فاعلًا مدافعًا عن حقه في شقته، لكننا نراه يدافع بكل ما يملك من قوة عن أغلى شيء يخصه متمثلًا في رامبو الذي يتعامل معه باعتباره صديقًا وفيًا يمنعه من الانزلاق نحو الجنون بفعل القسوة التي تعامله بها المدينة.
رامبو امتدادٌ لحسن ووجوده ورغباته، وهذا ما يعكسه المخرج بإشارات عدة، أبرزها إمساك حسن بالمرآة لنرى انعكاس وجه رامبو عليها، وأيضًا حين يخطف لحظة سعيدة للاحتفال بعيد ميلاده فإن كلبه هو من يطفئ الشمعة.
يختبر حسن مرارة الفقد مرتين؛ مرة في أبيه الذي طفش، ومرة في تخليه عن أبوته الضمنية من أجل حياة أفضل لرامبو، فهل يدفع هذا للتعاطف مع الأب الذي قد يكون اضطر للتخلي عن أسرته، كما فعل حسن مع رامبو في المرة الثانية التي يواجه فيها الفقد.
في الفيلم إشارة عابرة إلى أن رامبو أكمل عامه الخامس، ومن خلال التسجيلات التي استعادها حسن من الماضي نعرف أن الأب توقف عن الاحتفال بعيد ميلاد ابنه في السنة الخامسة من عمره، هناك تشابه واضح في الفراق.
يسأل حسن عمه عن شقيقه الغائب دون أن يستخدم مفردة "الأب" التي لا يستطع النطق بها، كأنه يخشى الاعتراف بوجود أبٍ له في الماضي. هذا السؤال يأتي في ذيل رغباته عبر التفاتة يائسة وهو في طريقه لمغادرة الحارة إلى الأبد بينما يرد على عمّه الذي طلب منه تقديم رامبو لكارم ليذبحه ردًا لكرامته التي جرحها الكلب، ساخرًا من استماتة حسن في الدفاع عنه "هو يعني من بقيّة أهلك!".
هذه هي طريقة حسن في التعاطي مع الحياة، يطلب الأشياء بلا رجاء مثلما طلب من والدته في بداية الفيلم الرحيل عن الحارة اتقاءً لشر كارم مالك العقار!
كعكة غير مكتملة
حين تريد الحياة مصالحة حسن فإنها تقدم له كعكة ناقصة في عيد ميلاده، مأكولًا منها جزءٌ فيرفضها ثائرًا، وحين تمنحه الرغبة في الحب، فلا تعطيه حبًا مشبعًا، وهو ما تمثل في علاقته بصديقته أسماء/ركين سعد، إذ ركَّز المخرج على هدفه فلم يخض في العلاقة بأكثر مما تحتمله.
يلجأ حسن إلى أسماء لتساعده، ثم يكتشف أنها خُطبت. خدعنا المخرج، فاعتقدنا أنه سيعوضه بتمشية معها وهما يأكلان الآيسكريم! أغوانا وجدنا الثلاثي حسن وأسماء ورامبو يهبطون إلى عالم سفلي دموي وعنيف في مكان مخصص لمصارعة الكلاب، عالم وحشي يليق بالقصة.
ليست نهاية وردية
التنفيسة الوحيدة التي منحها المخرج لحسن هي احتفاله مع رامبو والرقص على أغنية لحكيم، لكن المشهد ينتهى بقطعٍ حادٍ. الفرحة لا تكتمل ويبقى منها صدى صوت، كأن هذا الفرح القصير كان تخيلًا في رأس حسن!
وبعدما سرقت منه المدينة أغلى ما يملك أدرك حسن مصدر رغبته ولماذا كان يتجاهل كارم ويشيح بنظره عنه في كل مواجهة. جُرِحَ كارم لأن حسن لم يتوسل منه الرحمة، ولذلك انتزع منه بالقوة الاعتراف بسيطرته على حياته، لكن حسن يؤكد لنا في النهاية أنه مثله مثل رامبو/سلفستر ستالون الذي يذكُر كيف وصفه والده حين كانا يجلسان سويًا يشاهدان فيلمه "كان غشيم والناس فاكرينه طري".
حتى في مشهد النهاية يعطي حسن والدته صورةً يظهر فيها أبٌ محروقُ الوجه عقابًا له، وبجواره حسن وأمه جالسين على الموتوسيكل الذي تركه الأب لابنه، مع الحقيقة الوجودية القاسية التي بعثها له من الماضي وفيها يغني محمد منير "كل شيء بينسرق مني".
ربما قصد المخرج في النهاية إغواءنا بنهاية سعيدة، ولكنه يؤكد على فلسفته أنه يصنع فيلمًا واقعيًا، وليس فيلمًا تقليديًا بنهاية تداعب الأمل.