يوم ما، وأنت لا تزال أسنانك اللبنية تطقطق في فمك، نظرتَ للمرآة للمرة الأولى، ورأيت نفسك. لا تستطيع تذكر هذه المرة، لكن تلك اللحظة البعيدة، التي أدركتَ فيها أن "الأنا الأخرى" التي سكنت المرآة هي "أنت" رسخت في وعيك، وكوّنت لديك "ذاتًا" وصورة معينة عن نفسك، وكيف تراها عيون الناس من حولك.
لا أتذكر أيضًا تلك اللحظة، لكني رأيت نفسي داخل شاشة سينما، وكنت تجاوزت الثلاثين، وقررت أن أذهب بعدها إلى طبيبتي النفسية وأخبرها أنني، أخيرًا، عرفت من أنا، والسبب الرئيسي وراء ذلك الاكتشاف الذي قد يقضي المرء عمره كله يبحث عنه، هو فيلم سينمائي.
قارن عالم الاجتماع والناقد السينمائي الفرنسي كريستيان ميتز بين حالة المشاهد أمام شاشة السينما وحالة الطفل أمام المرآة عندما يرى نفسه للمرة الأولى. ووجد أن هناك تشابهًا كبيرًا. موضحًا أن المشاهد أمام الشاشة يكون غائبًا، على عكس الطفل أمام المرآة، الذي يكون حاضرًا. فالمُشاهد لا يستطيع التوحد مع نفسه، لكنه يتوحد مع الموضوعات التي توجد على الشاشة، ويجد فيها ذاته، وبهذا المعنى لا تكون الشاشة مرآة، يكون المشاهد غائبًا عن الشاشة؛ لكنه حاضرًا في قاعة المشاهدة بكل حواسه. وهكذا تتماثل شاشة السينما مع المرآة في أنها تجمع بين الحضور والغياب، بين التوحد مع الآخر الذي هو أنا أيضًا(1).
هذه الوصفة ليست موجودة في السينما المصرية الحالية للأسف، رغم محاولة مخرجين مثل داود عبد السيد وخيري بشارة وغيرهم ممن حاولوا الموازنة بين السينما التجارية، والسينما التي تطرح الأسئلة، وإن استعرنا من لغة المسرح سنقول الموازنة بين الفرجة وبين الفكر. السينما المستقلة المصرية وحدها، في رأيي، من استطاعت تحقيق هذه الوصفة بنجاح في الأوان الأخير.
تجارب لن تقدمها سوى السينما المستقلة
قرر المخرج الألماني الشهير فريتز لانج، ذات مرة، أنه سيصور مشهدًا من وجهة نظر خنفساء(2). فكرة، تبدو غريبة ومثيرة للأسئلة.
كيف ترى الخنفساء العالم، كيف ترانا؟ ماذا لو أردنا تتبع مسار أفعى قررت أن تأخذ حياة أم وهي نائمة جوار ابنتها الرضيعة؟ سؤال خطر ببالي وأنا في الحادية عشرة، حين سمعنا صراخًا من أحد بيوت الجيران.
تسللت من الباب الخلفي للبيت، وقفت وسط الناس، رأيت امرأة متعرقة، وسَلَبة من تيل تحزّم قدمها الملدوغة. وقعت عيني على الأفعى المقتولة، تسمرت مكاني محدقة فيها إلى أن دفعني رجل شديد قائلًا: اهربي من هنا، ولا تنظري أبدًا في عيني أفعى مقتولة، سيأتون من أجلك.
ارتعبت، وركضت إلى البيت، وتساءلت، لماذا اختارت الأفعى الأم؟ كيف نجت الابنة؟ هل تتذكر الأفعى من ينظر في عينيها وهي مقتولة؟ أم أن هناك من يأتي ليرى قاتلها، أو ليرى عيون آخر الناظرين في عينيها؟ كيف أنجو منها؟
هنا، نقطة تحسب لصالح التجربة، لأننا لا نحاول أنسنة الكائنات التي تشاركنا البيئة نفسها. ولأننا نحاول رصد سلوكها وفهم ما يدور داخل عقولها، ضمن إطار سينمائي مضفّر مع عناصر البيئة المحيطة. لكن، إن تحدثنا عن حيونة الإنسان أو تحوله لمسخ، فهناك تجربة سينمائية مصرية حوّلت زوجًا يحتفل بعيد ميلاد ابنه إلى دجاجة. ونجح المخرج المصري عمر الزهيري في فيلمه ريش في تصوير كادرات من عين الرجل الدجاجة، أو بمعنى أدق، من عيني دجاجة.
تخيلوا معي، إن نظرت المرأة التي تحوّل زوجها إلى دجاجة في المرآة، ماذا سترى؟ هل ستتعرف على "أناها الحقيقية"؟ في البدء، سترى امرأة هشّة، أصيلة، تنظر إلى الدجاجة، وتتمنى من أعماق قلبها أن تسترجع الزوج الذي تكرهه، والتي لا تستطيع أن تنظر في عينيه، أو إلى قلبه.
لكنها لو دققت جيدًا، ستجد امرأة أخرى، مهمومة بذاتها، بتعبير ميشيل فوكو. تخوض المعارك مع الأيام، مع الحكومة، مع الناس، تجمّع أجزاءها المفقودة، تتعرف على نفسها، وما إن تسترجع هذا الرجل، أو ظلّه، في نهاية الفيلم، تقتله، وتقتل الدجاجة.
تجربة سينمائية أخرى مميزة في فيلم ستاشر، للمخرج المصري سامح علاء، حينما قرر، وبنضج شديد، أن "يلبس" بطله شخصية امرأة، وليست أي امرأة، امرأة منتقبة، بكل ما يحمله هذا اللباس من معان وإيحاءات وربما مخاطر أيضًا.
وإن لعبنا اللعبة نفسها، ونظر بطلنا إلى مرآته، لن يجد "أناه الأخرى" أو نفسه التي يعرفها؟ سيجد محلها امرأة، لكنه لن يتوقف عند هذا الحد، سيتماهى معها في رحلتها، التي هي رحلته؛ حتى يرى وجه حبيبته المنتحرة للمرة الأخيرة، خوفًا من أن ينسى وجهها. وفي نهاية هذه الرحلة، يصل إلى خلاصه وخلاصها، إلى الصراخ.
النظر في المرآة بداية الرحلة
السينما المستقلة هي مرآة السينما المصرية التي يجب أن نطيل النظر إليها، نتعرف على ملامحنا، ومنها نتعرف على ملامح الآخر ونتعامل معه.
هذه السينما التي تلاحق خيطًا من دخان، ورغم نخبويتها، تزداد خطواتها رسوخًا كل يوم، منشغلة بهموم ما بعد حداثية. ترسخ للتجربة الفردية ورحلة الإنسان أو صراعه مع "أناه" ومع من حوله. والأمر المثير للاهتمام هنا أنها أصبحت متنفسًا، وحيدًا، سواء لكتاب السيناريو أو المخرجين لإنتاج مشاريعهم الفنية التي لن تهتم بها السينما التجارية. ومع ذلك، يعزف الجمهور عن متابعتها.
إن إيمان صناع السينما التجارية بوجود نموذج مثالي عما سيعجب الناس، وهو النموذج الكوميدي، حتى إن ادعوا أنهم يلجأون لمنهج النقد الساخر للمجتمع، هو إيمان متطرف. تخيل معي أنك نظرت في مرآتك، وأطلت النظر، ونمى لديك شعور جارف في إشباع رغبتك في تغيير نفسك. ماذا سيفعل شخص يعيش مرحلة تغيير جذري في أفكاره إن لم يجد البيئة المناسبة لاحتوائه، أو أنه يتعرض للقمع النفسي أو الجسدي، أو بمعنى أصح، لا يمتلك حتى رفاهية التفكير أو التعبير عن أفكاره بحرية؟ بالطبع سينحرف عن هذا المسار.
لا أهاجم بالطبع السينما الساخرة، لكن أراها، مثل أي حركة جماهيرية، ظاهرة مَرضية. وأن الجماهير العريضة التي تستمتع بها وتنتظرها هي في الحقيقة جماهير محبَطة، لم تنظر يومًا لمرآة، أو أطالت النظر إليها، لكنها لم تبدأ رحلتها في الوصول لأنفسها. أو أنها فشلت فانحرفت عن وجهتها.
في النهاية، استطاعت السينما المستقلة أن تحمل آمال عشرات الفنانين الطامحين في تنفيذ أفكار ليست مألوفة، إلى عقل المشاهد المصري، بخطوات واثقة وفارقة، واستطاعت أن تحصد جوائز كبيرة، لسنوات طويلة جلسنا أمام التلفاز، نسأل أنفسنا، هل سنرى فيلمًا مصريًا يحصد مثلها.
ربما تستطيع السينما المستقلة تقديم نماذج تُعري الإنسان أمام نفسه، وتطرح أسئلة وجودية من شأنها أن تساعده على فهم "أناه الأخرى" وفهم العالم من حوله. وأعتقد أن شعبًا كشعب مصر، يحمل ثلاثة أهرامات فوق ظهره، وأبي هوْل بأنف مكسور، يجر عشرات الخيبات، نكسة وانتصار وثورة مغتصبة، هذا الشعب "الفقري" ليس من المستغرب أن يعزف عن هذه النوعية من الأفلام، لأنه لا يريد أن يتعرى أو أن يبكي، حتى أمام نفسه.
(1)فيلان دومينيك (1998) الكادراج السينمائي، ترجمة شحات صادق. القاهرة، أكاديمية الفنون، وحدة الإصدارات، 67،68.
(2)عصر الصورة، السلبيات والإيجابيات، الدكتور شاكر عبدالحميد، عالم المعرفة إصدار 311، يناير 2005، 273