عبر طيف واسع من التوصيفات يتذبذب بين قطبي الملاك والشيطان، اختلفت صورة المرأة العاملة بالجنس التجاري حسب رؤية مَن يرسم تلك الصورة ووفقًا للثقافة السائدة وتحوّلات الوعي واللغة والرؤية.
رسَم الفن والأدب نماذج مختلفة؛ من الفتاة التي غُرر بها في سينما الأربعينيات، إلى المرأة المتوحشة التي تلتهم الشبَّان في أفلام السبعينيات، ثم "المومس" الفاضلة في بعض الأعمال الأدبية.
تلك الصورة حاول فيلم قيمة ساعة، الذي أنتج سنة 2021، أن يجسدها، برؤية وإخراج منال خالد، مع مشاركة الكاتبين الصحفيين محمد العريان وعُمر سعيد في البحث وإعداد المادة. ثم أعاد الكاتبان استخدام الساعات المُسجَّلة، خلال إعداد الفيلم، التي لم تُستَغل بالكامل، كمادة خام لإنتاج كتابهما المُشترك تلات ستات، الصادر في يناير/كانون الثاني الماضي، عن دار المرايا للنشر والتوزيع، وهي نفس جهة إنتاج الفيلم.
نسخ متعددة من حكاية واحدة
يروي الفيلم، شأنه شأن الكتاب، حكاية ثلاث مصريات مِن بين العاملات في الجِنس التجاري، من أعمار مختلفة وظروف متباينة، لكنَّ الخط العام لمشوارهن هو نفسه تقريبًا، مجرد تنويع على سيناريو ثابت، نفس حكاية العوز والقهر والألم والمهانة وبذل أشد الأفعال حميمية مقابل ما يكفل لهنَّ الحد الأدنى من أسباب الحياة.
وهي ذات الحكاية المتكررة والدائمة ما دامَ الفقرُ والاستغلال والهيمنة الذكورية وسائر الظروف المنتجة لها؛ حكاية تتخذ أكثر من وجه ومن صورة مع اختلاف الوسيط الأدبي أو الفني وبالطبع مع اختلاف رؤية منتج العمل.
هناك دائمًا شك في أنَّ ثمّة سيرة نقية أي سِيرة لا يخالطها الهوى أو الغرض
ظهرت النساء في الفيلم بأصواتهن فقط أو من غير إظهار وجوههن بوضوح، مع الاستعانة بممثلات في بعض اللقطات التعبيرية والأداء الجسدي، في نوع فني يُصنّف Docudrama؛ وثائقي/درامي، أي أنه عمل يقوم على وقائع حقيقية وإن خرجَ بلمسة ورؤية فنّية.
قد يكون هذا مهربًا مِن القيود الرقابية المفروضة صراحةً أو ضمنًا على هذا النوع من الأعمال الفنية في بلاد كثيرة، إذ لم يُعرض الفيلم عرضًا عامًا في مصر حتّى الآن، برغم عرضه في بعض المهرجانات، حيث نال تنويهًا خاصًا في مهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي 2022.
ولعلَّ هذا التصنيف البينيّ كذلك أقرب ما يكون لنوع الكتاب الصادر حديثًا "تلات ستات"، الذي قرر كاتباه وضع مسألة التصنيف جانبًا، وإن مالا لاعتباره ينتمي للسيرة بمفهومها الواسع.
لكنّ هناك دائمًا شكًا في أنَّ ثمّة سيرة نقية؛ أي سِيرة لا يخالطها الهوى أو الغرض؛ فكل سيرة يبتغي كاتبها من ورائها إظهار صورة بعينها لنفسه أو لمن يكتب عنه السيرة.
لم يخرج الكتاب في شكل السيرة التقليدية، بل جاء أقرب إلى ثلاثة نصوص أدبية أو حكايات مكتوبة بلغة هي مزيج من الفصحى والعامية المصرية، حكايات مُعتمدة على تسجيلات للنساء، كانت أوفر وأضخم من أن يستوعبها الفيلم الذي لم تتجاوز مدته الساعة الواحدة، وخرجت فيه حكاياتهنّ مختصرة للغاية، على الأقل، مقارنةً بنُسَخها في الكتاب.
كان الكتاب نُسخة ثانية، أو ثالثة من نفس القصة، لو احتسبنا التقريرَ الصحفي الذي سبق الفيلم والذي أعدّه عمر سعيد ونشره في "مدى مصر" منذ ما يقرب من عشر سنوات.
وربما تكون المواد المسجَّلة هي النسخة الأتم والأطول من هذه النسخ المتعددة، غير أنها مجرد نسخة أخرى، نسخة مختزلة من حياة طويلة عريضة وحافلة بالتجارب. وهي مشكلة كل محاولة لقبض تجربة إنسانٍ حي وصياغتها في قالب فني أو أدبي.
هنا يظهر دور الكاتبيَن اللذين تحمَّلا مَهمة شاقة ومركّبة، منذ التقرير الصحفي، ثم لقاءات الفيلم، الذي انفردت فيه المخرجة بالرؤية مستبعدةً طرحهما الأوّلي، وهو ربما ما دفعهما إلى استلهام تلك التسجيلات في صياغة الحكايات الثلاث ونشرها في كتاب.
حرص الكاتبان على عدم التدخل قدر الإمكان في الحكاية الشفوية المروية إلَّا على سبيل استكمال الصورة المشهدية وإضافة مصداقية بالتفاصيل، فكأنَّ كاتب الحكاية "يتنازل"، بتعبير أحدهما في ندوة عن الكتاب، إراديًا عن صوته لصالح صوت المرأة.
وهكذا ظلَّ مذاق النص أقرب ما يكون إلى روح الرواية الشفهية، خصوصًا من حيث لغته التي خرجت بمزيج خاص غاية في السلاسة والبساطة، يمكن لأي شخص يفك الخط أن يقرأه ويتفاعل معه ويتأثر به.
إن التعرف على تجربة النساء الثلاث يتم عبر مصفاة وعيهن ورؤيتهنَّ لكل ما قد تحمله هذه الرؤية من تشوّشات
ربما يختفي صوت مدوّن الحكاية باعتباره وعيًا وأفكارًا وأحكامًا، لصالح أن تبقى صاحبة الحكاية هي الآمرة الناهية على حكايتها، غير أنَّ الحياد التام مستحيل، والكاتب ليس كيانًا شفّافًا، إذ يظهر في الصياغة والتشكيل، فهو العَدَسة والمصفاة، هو اختيار المفردة والتركيب، وهو بِناء الحكاية التي بدأت غالبًا من نقطة ساخنة مشوّقة، إلى آخر الاختيارات الفنية المقصودة والواعية. ما يجعل من كل حكاية مساحة تفاوض بين أصوات عديدة، قد نميّز منها صوتين على الأقل.
كل ما تتعرض له النساء العاملات في الجنس التجاري مِن مخاطر وأضرار ومتاعب ومهانة جسدية ونفسية عميقة يتم الإشارة إليه عَرضًا وبكلمات وتعبيرات مباشرة، كما وردَ في مقدمة الكتاب، باعتبارهن نساء استثنائيات "يكافحن على مدار الساعة للعيش، مع الوضع في الاعتبار أن انتماءهن إلى الشريحة الأدنى دخلًا يعني دائمًا ازدياد المخاطر. اعتداء من زبون، التقاط مرض جنسي، استغلال القوادين أو حتى عنفهم، واستبداد المنظومة القانونية التي تحوّل (الاتجار بالبشر) لـ(فسق وفجور)، فتتحوّل العاملة من مجني عليها إلى جانية، ويحوّل الزبون إلى شاهد على (الإجرام)".
غير أنَّ ما يميّز العمل الفني أو الأدبي عن هذا الخطاب المباشر والصريح والضروري تمامًا هو التجسيد والتلوين؛ أي محاولة تحويل المصدر أو الصوت المتحدّث إلى إنسان له حياة وحكاية وتفاصيل، وهو رهان أساسي من رهانات الفن، غرضه المبدئي حصد التعاطف الإنساني العميق.
يدفعنا الفن إلى أن نتخيّل أنفسنا مكان الآخرين، مُذوّبين الفروق الظاهرية الواهية، واصلين إلى الجوهر المشترك بين جميع البشر على مستوى المشاعر والانفعالات والنوازع. وفي هذا التحويل لا بدَّ أن يتدخّل الفنان، بحرفته وأدواته واختياراته الفنية والتقنية، تمامًا كما اختارت مخرجة فيلم "قيمة ساعة" أن تستعين بمجازات بصرية مكافئة لكل حكاية من حكايات النساء الثلاث، الحصان مثلًا في حكاية سمرا، أو الدجاجة المذبوحة واللحوم المعروضة للبيع وتحت سكين الجزار في لحظات أخرى من الفيلم.
وأيضًا كما اختار الكاتبان في "تلات ستات" أن يلجآ أحيانًا إلى الصور البلاغية التي يصعب أن تصدر عن صاحبات الحكاية، مثل مجاز المخاض وألمه، والولادة الجديدة، وهو مجاز متكرر في حكاية سمرا، ومثل تشبيه "وجهه جامد، كزاهِد"، أو "وجهه في الأرض وحوله ظلام كأنه في بقعة ضوء على مسرح".
أمامَ تبدُّد الحاضِر سريعًا لا يتبقى من تلك التجربة الحيَّة المباشرة إلَّا الوثيقة في صورة نص أو صورة أو صوت. وباستثناء الوثيقة الجامدة التي تعجزُ عن نقل خصوصية التجربة إنسانيًا ونفسيًا، لا يتبقى لنا من حياتنا إلَّا روايتنا الخاصة لها، أو ما ينجو من فِخاخ الذاكرة وألاعيب الذات غير المنزَّهة عن التجميل والمبالغات العاطفية وكافة أشكال الانحيازات.
فرصة للتأمل
لذلك كله، فالتعرف على تجربة المتحدثات الثلاث في الكتاب، يتم عبر مصفاة وعيهن وذاكرتهن، أي عبر رواياتهنَّ ورؤيتهنَّ لأنفسهنَّ والتجربة التي عاشتها كل منهنَّ، بكل ما قد تحمله هذه الرؤية من تشوّشات بفِعل الذاكرة أو الانحيازات الذاتية أو محاولة تقديم صورة بعينها، وهو ما وردَ في إشارةٍ مُقتضبة في مقدمة الكتاب، فضلًا عن تأثر وعيهن بأحكام المجتمع والدين والأخلاق، إلى آخِر الأطر النفسية والذهنية التي لا يسلم منها إنسان مهما بلغت مغامرته وحريته.
كأنَّ ثمّة نصًا آخَر مخفيًا أو ضِمنيًا أو ربما لم يحن الوقت بَعد لأن يظهر
إننا إذًا نستمد معرفتنا بهنَّ عبرَ شَبكات معرفية وإدراكية ضخمة ومعقدة لكنها فاعلة رغم كل شيء، وعبرَ جميع شروط تجربة السرد نفسها، التي تشارك فيها عناصر أخرى عديدة، من بينها فريق عمل وظروف إنتاج الفيلم ثم الكتاب.
كأنَّ ثمّة نصًا آخَر مخفيًا أو ضِمنيًا، أو ربما لم يحن الوقت بَعد لأن يظهر، هو نص رحلة إنتاج العمل، الفيلم أولًا بالطبع لأنه مصدر التسجيلات، ثم الكتاب، نص العلاقة الإنسانية شديدة التعقيد التي كان على الكاتبين أن يشكّلاها مع النساء، وهنّ أكثر من ثلاث.
رحلة كان يسعنا فيها أن نسمع صوت المؤلّف جنبًا إلى جنب صوت الراوية التي قد يبقى كلامها، كما هو تقريبًا، بلا ذواق وبلا محسنات بديعية، تطل بين الحين والآخر، فتذكّرنا بوجود المؤلّف، الذي اختار أن ينسحب ويتنازل، لكنه لا يستطيع أن يتخلص من أسلوبه ومزاجه في الصياغة، فقد يُخرس المرء وعيه لكنّ أسلوبه سيغلبه ويفرض وجوده برغم كل النيات الطيبة.
الإطار الذي نختاره لتقديم قصة إنسانية ما ليس شيئًا اعتباطيًا، بل قرار واعٍ وإن بدا غير ذلك، ومهما حاولنا أن نتبرأ من التسلُّط وإصدار الأحكام فثمّة سُلطة نمارسها من ناحية الشروط الحاكمة للتجربة، لا سيما إن كانت شائكة وحرجة مثل مسألة العمل بالجنس التجاري.
ولعلَّ كتاب تلات ستات يتيح فرصة لا تتكرر كثيرًا لتأمّل المسافة التي نتخذها من مادتنا الأساسية عند صناعة عمل أو نص مبني عليها، خصوصًا إن كانت مادة حيّة تتنفس وتنطق وتصوغ ألمها على طريقتها شديدة الخصوصية؛ فرصة لتأمّل هذه المسافة التي يتحوّل فيها المَصْدر إلى كائن حي، والجسد إلى نَص.