يتجاوز ولع الصديق حاج أحمد، المعروف بـ"الزيواني" بالصحراء مشروعه الأدبي إلى سيرته الحياتية، فالروائي الذي جاب صحارى النيجر ومالي والسودان، فضلًا عن وطنه الجزائر، لم يكتف بأن تتخذها أعماله مسرحًا لأحداثها أو تستلهم موروثها المحلي في قضايا المجتمع الإفريقي وهجرات شعبه، وإنما صار يدّرس عنها أيضًا في الجامعة.
منذ صدور روايته الأولى مملكة الزيوان عام 2013، وحتى عمله الأحدث منّا..قيامة شتات الصحراء، والصحراء الكبرى بإفريقيا هي البطل الرئيس الذي يستوعب أحداث نصوص حاج أحمد كلها، ليقترن اسمه بأسماء الروائيين العرب الذين انشغلوا بالهم الإبداعي نفسه مثل عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني.
ولعل نشأته في ولاية أدرار وسط صحراء الجزائر تفسر ذلك الشغف، الذي كلله بالعمل مديرًا لمختبر سرديات الصحراء في جامعة أدرار بالجزائر. يقول في حواره للمنصة "الكاتب في الأخير يكتب ذاته في الوعي واللا وعي، ومهما حاول أن يتجرّد من ذاته، فإن هناك فتاتًا في ذاكرته، يسرده بلا وعي، فسرديات الصحراء في الرواية الجزائرية والعربية لا تزال فتية، نظرًا لشساعتها وامتدادها".
في عام 2004، خرج الزيواني في رحلة بدأت من الجزائر ومرت بالسودان والنيجر ومالي، ليستكشف أكثر تاريخ تلك الدول التي ارتبط وجودها الجغرافي بما تملك من كثبان رملية، ويتعرف بصورة أعمق على قضايا المجتمع الإفريقي ويقرأ تاريخه، ومن ثم يتمكن من إعادة كتابة ما أغفلته الإبداعات العربية التي لم تسلط ما يكفي من الضوء على تلك الرقعة غير الصغيرة من الوطن العربي "الجوار الإفريقي لا يزال متروكًا على الهامش، وينتظر منا استثماره في الرواية العربية بغرض إثرائها وتوسيع دائرة الرؤية فيها".
ما أغفلته الرواية
في رواية منّا..قيامة شتات الصحراء، التي تنافس ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام، يحاول حاج أحمد التعبير عن المأساة التي عاشتها قبائل العرب والطوارق، التي سميت بالأزواد في إقليم شمال مالي، بعد حادثة الجفاف التي ضربت أرضهم في العام 1973 "الرواية صوت من لا صوت لهم، كما يقال.. فهي لا تقدّم الإجابات وإنما تطرح الأسئلة، وتخلخل السائد والمنمّط، لذلك أعتقد أن منّا، طرحت العديد من الأسئلة وعلى المتلقي التعامل معها وفق تلقيه وتراكمه المعرفي والقرائي".
تعد رواية منّا مغامرة أدبية، ليس لأنها تتعرض لقضية لم يتناولها الأدب العربي كثيرًا فحسب، بل لأنها تطرح رؤى تاريخية وجغرافية لدول مالي والجزائر والنيجر وتشاد وليبيا، التي مر عليها الطوارق في رحلتهم عبر الصحراء الكبرى. ولأنها تشتبك مع السياسة وتنتقد الأنظمة العربية، خاصة نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، الذي استخدم طوارق مالي في خدمة مصالحه، مستغلًا شتاتهم وهجرتهم من أراضيه، وأشركهم معه في حروبه في لبنان وتشاد، بعدما أعطاهم وعود كاذبة بمساعدتهم لتأسيس دولتهم الـ"أزوادية" بشمال مالي.
يقول الزيواني عن روايته إنها "تحاول أن تنتصر للجانب الإنساني، وكل من يسير عكس ذلك، فالأدب يحاول أن يعريه ويكشفه. القذافي استغلّ الطوارق ووظفهم في حروب بالوكالة، وهذا أمر قد حدث، وإن كان البعض حاول التستر على هذا، لذلك فالرواية انتصرت للجانب الإنساني وما قاساه الطوارق وعانوه من تلك الأكاذيب".
بين الواقع والمتخيل
رغم تلك الألفة مع الصحراء وأغوارها لم يكن سهلًا على الزيواني صياغة روايته الأحدث بما تحويه من تفاصيل تمزج التاريخ بالمتخيل عن شعب مالي وقبائلهم وعاداتهم، فالرواية التي ظلت تختمر في وجدانه لأكثر من عقدين من الزمن تطلبت منه كثيرًا من البحث والمجهود لكتابتها، بداية من سفره إلى مالي، ولقاء أهلها وسماع مروياتهم عن الجفاف الذي ضرب أرضهم، مرورًا بقراءة الكثير من المصادر التاريخية للإلمام بكافة الأحداث.
"لا يمكنك أن تتخيّل حدثا تاريخيًا، دونما تكوين بنك وأرشيف معلوماتي كبير، فضلا عن زياراتي المتكررة لشمال مالي، ومجالستي للشيوخ والعجائز الذين عاشوا الحدث، كل ذلك شكّل مصادر أفادتني في تخييل ذلك النص".
ورغم أن تلك الرغبة الأدبية تستهدف بالأساس تقديم وثيقة تاريخية موازية لفترة مهمة في تاريخ طوارق مالي، فإن الزيواني لم يخش الوقوع في فخ الأسلوب التقريري "على كل كاتب للرواية أن يحافظ على شروط تجنيس عمله ضمن الرواية فقط، وما عدا ذلك فهو حرّ فيه، ولا أحد يمكن تقييده بمسطرة معينة، المهم أن يلتزم بشروط تجنيس العمل الروائي".
لذلك جاءت لغة الصديق حاج أحمد مطعمة ما بين اللغة العربية ومفردات محلية للهجة الطوارق، ما ساهم في تنوع لهجات شخصيات الرواية كمحاولة تقريب المسافة بين الثقافة العربية والطارقية "تأثيثي للنص بهذه الثقافة الطارقية اعتبره ثراء للعربية، بحكم أن هذه اللغة الطارقية، هي مجاورة للعربية"، غير أن تخوفه من عدم فهم القارئ العربي للغة الحوار دفعه إلى كتابة هوامش لشرح تلك المفردات "يجب الاعتراف إن هناك كسل قرائي، لذلك كل الكلمات الطارقية، وضعتُ لها شرحا في ثنايا السرد".
تقودنا الرسالة التي يحملها صاحب مملكة الزيوان على عاتقه من تركيز كتاباته عن الهامش الإفريقي ورصد التحولات الكبرى التي تطرأ على تلك المجتمعات، إلى التساؤل إن كان الروائي مسؤولًا عن التأريخ للحظات الفارقة في حياة الشعوب؟
يجيب الحاج أحمد "المؤرخ شخص صارم، يتعامل مع الوثيقة، لذلك فإن هذا التحفّظ يجعله يترك عديد القضايا الهامة والمهمة، بينما الروائي يهتمّ بالأشياء البسيطة المتروكة على الرصيف، فينفخ فيها الروح، ليجعل منها عالما متخيّلا ضاجًا بالأحداث والحركة. لذلك فالرواية التاريخية، مكمّلة للعمل التاريخي المحض. إذ وبالرغم من التخييل في العمل التاريخي، إلا أن الروائي يبقى ملتزما بما يسمى بالمنطق السردي المرتبط بالتحديد الزمني والمكاني للحدث المتخيّل".
التراث كنقطة انطلاق
توظيف الزيواني للتراث في كتاباته هو الضلع الثالث المتمم لمثلثه الإبداعي، الذي يعتمد الصحراء وقضاياها ضلعيه الآخرين، فهو لا يفصل بين المجتمع الإفريقي وموروثه الشعبي، إذ يقوم بتأثيث الحكاية باستثمار ذلك الموروث وتفنيده وإعادة صياغته وإنتاجه.
وهو كما سبق وأن قال عنه الروائي أمين الزاوي، في تقديمه رواية كماراد خلال إحدى اللقاءات العامة "نموذج للروائي الذي يتّخذ من عتبة البيت نقطة انطلاق"، ما يعكس مدى اعتقاده بأن التراث يعبر عن بيئة المجتمع وسياقه الثقافي، الذي يرى فيه الزيواني "أمر بغاية الأهمية، لكونه يقدّم الهامش، فالصحراء وما تحتويه من ثقافات، تحتاج منا إلى إعادة قراءة هذا التراث، بدل الانبهار وتصدير ثقافات هجينة وبعيدة عن ذواتنا وحيواتنا".
في رواية منّا.. قيامة شتات الصحراء، يتطرق الزيواني لعادات وتقاليد قبائل الطوارق، ويمتد إلى رصد أنواع الطعام والملابس والأغاني والرقص في روايته الثانية كاماراد، وتأخذنا مملكة الزيواني إلى أجواء ألف ليلة وليلة، بخاصة فصلها الأول الذي يذهب فيه إلى العالم السفلي وأسراره. غير أن غايته ليست استعادة الشائق من التراث فحسب، بل نقطة انطلاق لقراءة جديدة يثير من خلالها أفكار مغايرة، وكأنه يحاول الاشتباك مع الموروث لخلق أفكار أكثر حداثة.
يشبه هذا اشتباكه مع موروثات ومعتقدات أهالي أدرار في روايته ممكلة الزيوان، التي يعدها "رواية الهوية والذات والمنشأ. لذلك جاءت قريبة مني، فقد اتكأت على عكاز السيرة في عديد المواقف، كما أني حاولت استرضاء ذاتي أولا في الكتابة، كما حاولت أن أتمثّل المجتمع الذي نشأت فيه، وبالمقابل حاولت أن أخلخل بعض القضايا المسكوت عنها، كحرمان الأنثى من الميراث، بحكم ذكورية هذا المجتمع".
يعتقد الزيواني أن وصول روايته إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر منحها التفاتًا إعلاميًا ووجه إليها عيون القراء، ومن ثم إلى ما تناقشه من قضايا تتعلق بالواقع الإفريقي العربي. ما يلفت في الأمر أن الإعلان عن الفائز بتلك الجائزة يواكب مرور السودان بأزمة إنسانية وسياسية صعبة، ذلك البلد الذي شهد بداية ما خاضه الزيواني من رحلة في الصحراء الإفريقية عام 2004، التي قد تمثل الأحداث فيها نقطة إشارة وإلهام أو مسرحًا لأحداث أعمال جديدة للروائي الجزائري المولع بالكثبان الرملية وثقافاتها.