يشبه الروائي والقاص أزهر جرجيس هموم وطنه العراق، وربما لذلك يسيطر على أعماله سؤالا الهوية والانتماء، وتصطبغ كلها بثيمات الموت والحنين والسخرية.
أبطال جرجيس مضطهدون ومطاردون مثله تمامًا، فكمال توما بطل روايته الأحدث حجر السعادة، التي وصلت لقائمة البوكر القصيرة، تطارده الميليشيات العراقية ويتعرض إلى محاولة اغتيال، مثلما مع أزهر نفسه في عام 2005، بعد إصداره كتابه الأول، الإرهاب.. الجحيم الدنيوي، الذي يسخر فيه من الميليشيات العراقية التي سعت لاحقًا إلى اغتياله، فاضطر للهرب إلى النرويج، التي هرب إليها أيضًا سعيد ينسين بطل روايته النوم في حقل الكرز. يؤكد أزهر جرجيس للمنصة "نعم.. أنا وكمال وسعيد متشابهون في معاناتهم من الاضطهاد السياسي والمجتمعي، وربما أغلب العراقيين كذلك".
هذا المشترك مع أبطاله أضفى الصدق والعمق على لغة أزهر، غير أن الروائي العراقي لا يرى في ذلك التشابه دعوة للقارئ للتلصص، إن جاز التعبير، على حياته، لأنه لم يكن يكتب عن نفسه بالأساس "في كثير من الأحيان يؤثّر الكاتب في شخصيات أبطاله بوعي، وأحيانًا دون وعي، فيتوهّم القارئ بأنه يروي عن نفسه. وفي أحيان أخرى يدس نتفًا من حياته فيهم ليختلط الأمر على المتلقي، وهذه لعبة روائية مكشوفة".
لذلك يقف التشابه مع أبطاله عند حدود المشترك كأبناء وطن عانى من التخريب "حياتهم برمّتها مختلفة عني، فالأول جعل من حجر صغير وجده في بستان الجن منقذًا لعذاباته، بينما أنبذ أنا الخرافة ولا أعترف بها، والثاني يبحث عن صورة لأبيه الذي فقده قبل أن يولد مثلًا، بينما لا يزال أبي على قيد الحياة ويتمتع بصحة جيدة".
سجل وطني
لا ينفصل مشروع كاتب صانع الحلوى عن تجارب رفاقه من الروائيين العراقيين، فالرغبة في تسجيل ما حل بالوطن من صراع وشتات، تُعد ملمحًا أساسيًا في الرواية العراقية المعاصرة، وسمة تميز أغلب كتابات الأدباء العراقيين، كأنهم يتسابقون مع الزمن لتوثيق صورة لبلدهم، كيف كان وماذا أصبح.
يقول أزهر "الكتابة عن الوطن المجروح ليست ترفًا، بل مشروع غايته القول هكذا كنا وهكذا أمسينا، والأسباب مطروحة على الورق، فلنقرأ ونعتبر. ما زال أدب أمريكا اللاتينية زاخرًا بقصص الحرب والديكتاتورية والظلم، علمًا بأنهم غادروا تلك الحقبة منذ زمن بعيد، فلماذا يكون حديثنا عما جرى على العراق غريبًا ومستهجنًا؟".
في الوقت نفسه يعترض جرجيس على الافتراض الذي يرى أن معالجة موضوعات الهوية والطائفية واستبداد السلطة وانتقاد رجال الدين في أعماله يمثل إدانة لأبناء الوطن "من ينتمي للوطن لا يشارك في تدميره، وما جرى يعود إلى مفهوم الانتماء وكيف يتعاطى البعض الكثير مع الهويّة. هناك من شارك في تدمير العراق، وثمة من يعتقد بأن الإثنيات الفرعية أولى من المواطنة، وحول هؤلاء تدور القصص"؛ محملًا الإعلام الذي "سوّق لمرويّة مفادها أن العراقيين، كل العراقيين، ساهموا في تدمير بلادهم، وهذا من الزيف بمكان، ولو عدنا إلى الوراء وتصفحنا التاريخ لوجدناه دسمًا بالمواقف المشرّفة".
التنكيل بالحياة
تدفع الرغبة في تسجيل ما حاق بالوطن بالموت كسمة أساسية تتكرر في أعماله، مجازًا وحقيقة، بداية بالموت المجاني في مجموعته القصصية صانع الحلوى، مرورًا بمقبرة جماعية في رواية النوم في حقل الكرز، ووصولًا إلى الموت الذي يلاحق كمال في حجر السعادة؛ يقول أزهر "ينبغي ألا ننسى بأننا نروي عن بلاد لا تتوقف فيها ماكينة الموت ولا تستريح". مؤكدًا أن فلسفة الموت واحدة ولا يمكن تنويعها، "فهو الحقيقة الوحيدة الثابتة في عالم الموجودات".
هذه العوالم السوداوية التي يطأها الكاتب العراقي تصاحبها في المقابل سخرية تميز لغته السردية، وكأنها وسيلته السلمية التي يعترض بها على الواقع وينتقد بها الأنظمة الحكومية، والتي تبدأ حتى من اختياره أسماء أبطاله المناقضة لواقعهم الفعلي، فسعيد في النوم في حقل الكرز لم يحظ بالسعادة أبدًا، وكمال في حجر السعادة لم يكن له من اسمه نصيب يومًا، "أنا ميّال للسخرية بطبعي، وأجد فيها أداةً للتنكيل بالحياة. لقد تسللت هذه السخرية إلى نصوصي وألبستها ثوب الفكاهة المرّة، لذا سيجد القارئ أن أصعب المواقف وأكثرها جديّة داخل النص قد تتحوّل في النهاية إلى مورد للضحك الأسود، على أن هذه السخرية ليست مقصودة بنفسها قدر كونها عرضًا للكتابة عن بلاد الفنتازيا العجيبة".
رغم ذلك، ووسط هذا العالم الكئيب، يقدم أزهر جرجيس الفن كباب للنجاة، فنجد أبطاله يمارسونه بشكل أو بآخر، فيكتب سعيد الرواية، بينما يحترف كمال التصوير، وكأنه أراد التأكيد أن الفن هو شعاع النور الذي يبدد الظلام "نعم.. لم يكن استخدامي للفن في النصوص بريئًا أو خاليًا من القصدية كحد أدنى.. فالفن سلاح جيد لمواجهة الحياة، وبه تغلبت الشعوب على قهرها".
الفن يقول كل شيء
تغلَّب كمال، بطل حجر السعادة، الرواية التي تنافس على جائزة البوكر هذا العام، على ألمه بحبه للتصوير، تلك الأمنية التي نمت بداخله منذ صغره فصنع كاميرا فوتوغرافية من الورق رافقته إلى أن صار مصورًا محترفًا يشارك في تدوين تاريخ بلده بالتقاط صور كثير من الوقائع التي تجرى على أرضه، يقول "ليس ثمة ما هو تلقائي في الكتابة. وما يسميه ميلان كونديرا بـ 'هبات اللاوعي' لا يحدث دائمًا، بل ولا علاقة له بالأداة التي تُفرش بها أحداث الرواية. كاميرا كمال، منذ أن كانت كاميرا من ورق، هي أداته في التوثيق ورسم ملامح الحكاية التي كان بطلها".
وعلى العكس من كمال، الذي اعتبر نفسه محظوظًا لمشاركته في توثيق تاريخ العراق، فإن جرجيس لا يُعد نفسه كذلك، ويعترض على تصنيف حجر السعادة كرواية تاريخية، "الرواية فعل جمالي غايته إمتاع القارئ بالدرجة الأساس، وهي إذ ذاك لا يمكن عدّها وثيقة تاريخية. أما كمال، فقد ساهم في تدوين اللحظة التاريخية من خلال الصورة، كونه مصورًا فوتوغرافيًا جوّالًا. نعم، في "أدب الشهادة" قد يساهم الروائي في كتابة شيء من التاريخ، لكن الأمر يبقى ضمن حيثيات الكتابة الروائية وما تسمح به".
مع ذلك لم تكن الرواية مجرد شاهد على الواقع فحسب، بل يمكن عدّها محاولة لكشف الزيف وتحريك الوعي المجتمعي، ودعوة للتمرد على كل ما هو خرافي بإدانتها للسلطة الدينية والسياسية والأنظمة المستبدة، ونبذ الخرافة. ولكن هل يمكن اعتبارها وسيلة لتنفيس غضب الكاتب تجاه عالمه؟ يجيب جرجيس "لا أتفق. الرواية مشروع كتابي ينبغي أن يكون مبنيًا على موقف إنساني تجاه السلطة والمجتمع، بما يكتنفانه من زيف وخرافة واستبداد".
كذلك لا يوافق أزهر على أن اللجوء إلى الخرافات قد يكون معينًا على استمرار الحياة أحيانًا، بخاصة في لحظات الضعف كما حدث مع كمال، الذي واصل حياته اعتمادًا على حجر صغير وجده في بستان الجن، وأطلق عليه "حجر السعادة"؛ "كمال واحد من ضحايا المجتمع بخرافاته، الأمر الذي حدا به ليكون شخصًا مهزوزًا يسهل الاحتيال عليه وخداعه. لقد عالجت الرواية، حسب ظني، هذا التفصيل، وهذا ما تسهل معرفته عند النظر إلى مآلات البطل التي لم تكن محمودة لولا التنبّه في نهاية المطاف".
جدير بالقراءة
جرجيس واحد من أدباء المهجر الذين غادروا بلادهم طواعية أو اضطرارًا، ولم يستطيعوا التماهي مع العالم الجديد الذي انتقلوا إليه. وجدوا صعوبة في الكتابة عنه فلجأوا إلى ذاكرتهم عن عالمهم القديم، أو إلى البحث عما يجمع العالمين في التاريخ، لكنه يعتقد أن الأمر "ليس متعلقًا بالمهجر، بل بالحياة في المجمل، فالأديب، حسب ظني، يجد صعوبة في التماهي مع الحياة برمتها. هنالك غربة روحية وعزلة يعيشها بغض النظر عن المكان، وما 'المجتمعات الجديدة' التي يضطر للجوء إليها إلا أمكنة تحوي الجسد فحسب".
يبرهن مشروع جرجيس على أهميته بصدقه ولغته المتفردة، وهو على قلة إنتاجه الأدبي المتمثل في مجموعة قصصية، وروايتان، استطاع أن يصل بـ النوم في حقل الكرز إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية/ البوكر في العام 2020، وأن ينافس بروايته حجر السعادة على الجائزة ذاتها ضمن قائمتها القصيرة هذا العام، ويعتقد أن أهمية الجوائز تكمن في كونها تسلط الضوء على الكتب، "هي على الأقل تعني أن هنالك كتابًا جديرًا بالقراءة، وهذا يكفي لتحقيق الغاية من الكتابة".