في كتابه الكاتب وعالمه، يشبّه تشارلس مورجان، ما يسمه "عصابات الفن" بـ"عصابات السياسة" التي تستهدف تشويه "الشخصية الإنسانية وتفككها وتستعبدها، إلى أن تدفع الناس للاعتقاد بأنهم ليس لهم وجود حقيقي إلا كوحدات في كتلة". وفي عالمنا العربي ثمة أثر لتلك العصابات الفنية، تتبدى فيما صار يطلق عليه سخرية بـ"شرطة الأدب" التي دائمًا ما تسعى إلى تفكيك الكاتب/الكاتبة والتعامل معه على أنه وحدة في كتلة، ما يحاصر الكتابة وينمطها في منطقة بعينها.
هل نستطيع استخدام وصف مورجان لفهم آلية التعاطي النقدي مع المشروع الأدبي للروائية ميرال الطحاوي الذي حُصر لسنوات في مناطق الهوية البدوية والنسوية وكتابة الاغتراب؟
القراءة النقدية لروايتها الأحدث أيام الشمس المشرقة، المرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية هذا العام، لم تغادر واحدة من تلك المناطق الثلاث؛ أغلب شخصيات العمل يمتلكون أحلامًا لا تناسب قدراتهم، ويحاولون الهروب من ماضيهم، بعد هجرتهم إلى مدينة الشمس المشرقة.
رغم ذلك ليست الرواية عن الهجرة أو الغربة، صحيح أنها تتضمن تلك الهواجس لكنها تتجاوزهما إلى مفهومهما الوجودي لا الجغرافي.
ميرال الطحاوي نفسها ترفض القراءة التي تضع النص في سياق محدد سلفًا منذ صفحاته الأولى، وتقول للمنصة "الرغبة في تصنيف النص واختصاره في قضية من القضايا التي يطرحها ضمنيًا هي قراءة أحادية وفيها الكثير من الاختزال، وقد تعرضت لذلك طوال مسيرتي في الكتابة فمثلًا تعامل البعض مع الخباء أنها عن البدو، وأنا لا أظن أنها كانت عن ما هو أكثر من الفضاء الصحراوي الذي دارت فيه أحداثها، فعلى الرغم من أن روايتي الأخيرة، أيام الشمس المشرقة، تعبر ضمنيًا عن الغربة والشتات والهجرة بكل أشكالها القسرية والاختيارية، لكنها رواية مصائر في المقام الأول".
تتداخل عوالم الروائية المصرية المولودة في الشرقية عام 1968، مع ما اختبرته في حياتها الشخصية، بداية من ميلادها لقبيلة بدوية استقرت مع دخول العرب مصر على تخوم الدلتا، ثم دراستها اللغة العربية وانتقالها إلى القاهرة على الرغم من إرادة أسرتها، ثم حصولها على الدكتوراه والتحاقها بهيئة التدريس بجامعة القاهرة، قبل أن تنتقل في عام 2007 إلى ولاية أريزونا التي تعمل حاليًا أستاذًا بجامعتها.
ولعل ذلك التداخل، رغم المحطات الكثيرة التي تتضمنها سيرتها الذاتية، هو ما يبرر تلك القراءات النقدية، وربما لذلك أيضًا لا تنزعج ميرال منها، بيد أنها قد ترى فيها بعض الظلم "مثلًا في أيام الشمس المشرقة كان مشهد النهاية هو الذي يتعلق بالهجرة غير الشرعية، وكيف تلقي الأمهات بأطفالهن على الشاطئ، ويتخيلن أنه شاطئ النجاة من الفقر والعوز، لكن الرواية مهمومة بما هو أكبر".
تثق صاحبة الباذنجانة الزرقاء في أن ثمة قارئ دائمًا "ما سينظر إلى النص بشكل موضوعي بعيدًا عن التنميط والاختزال، بالنسبة لي ككاتبة أحاول أن أكتب بشكل متحرر من كل التوقعات، أكتب عن خبراتي وتطور رؤيتي للوجود، وعلاقتي بالنشر علاقة متأنية".
نشرت الطحاوي ثمانية كتب بين القصة والنقد والرواية، وهو رقم يبدو قليلًا بالنظر إلى تجربتها مع النشر التي بدأت في عام 1995 بصدور مجموعتها القصصية ريم البراري المستحيلة، لكنها توضح للمنصة "أعكف على مشروعي حتى يكتمل، ولا تراودني فكرة الحضور في الوسط الثقافي التي تدفع البعض للتعجل في النشر، لأن الغاية من كتابة عمل جديد ليس النشر والتواجد في سوق الكتابة، بل أطمح دائما للوصول لشكل فني أعمق وأكثر تطورًا من الناحية الفنية والجمالية لما أريد كتابته".
تقول ميرال أنها تنتظر من خلال كتابتها، "كسب قارئ جديد لم يقرأ لي من قبل، أو ناقد لم يكتب عني، إذا ظهرت تلك المؤشرات، أسعد لأنها تعطي لي دلالة على تطور ما أكتب". وتؤكد أنها تخلصت من رغبة الحضور "التي يفرضها عليك القراء أو ظروف النشر، إذا لو لم أملك فكرة جديدة أريد كتابتها، لن أكتب".
بين الحس النسائي والأنثوي
أبطال أيام الشمس المشرقة أغلبهم من النساء، رغم ذلك لا ينفردن وحدهن ببطولته، فثمة أبطال ذكور: سليم النجار، أحمد الوكيل، والفقيه، وإن كتب البعض أن العمل موجه إلى النساء فقط.
مؤخرًا، ظهرت محاولات نقدية تقرأ الأدب من حيث الصراع الجندري، وتفترض جنسانية في لغته، وهي قراءات ربما انعكست على الأدباء أنفسهم الذين صار بعضهم يستهدف الحضور الأدبي وحصد الجوائز اتكاءً على تلك النقاط التي صارت تحتل حيز اهتمام غير قليل خصوصًا من لجان الجوائز العربية والعالمية.
في عام 2011 وصلت رواية بروكلين هايتس للطحاوي، والتي تدور في عالم أم مستقلة وابنها وما يواجهانه من مصاعب الهجرة إلى أمريكا، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، التي وصلت إليها أيضًا هذا العام بروايتها التي تناقش الواقع الأكاديمي القاسي للنساء في مصر وخارجها.
رغم ذلك تنفي صاحبة نقرات الظباء، قصدية الكتابة عن المرأة المعذبة في الشرق الأوسط رغبة في لفت الأنظار، "أكتب عن النساء لأن كل خبراتي تنتمي لهذا العالم، لكن الرواية في الحقيقة لا تنشغل بهموم النساء، بل تنشغل بهموم وجودية أكبر من مشاكل الجندر، تناقش التقسيم العرقي والطبقي والعدالة والإنسانية، وخيبات الأمل في القيم الليبرالية التي استعبدت كلا من الرجال والنساء".
وهي كذلك لا تستهدف الجوائز التي تراها كـ"ظاهرة تنافسية هدفها هو خلق سوق أدبي للكتابة، لكنني لم أكتب في حياتي بغرض الوصول إلى جائزة، رغم حصولي مبكرًا على الكثير منها، الجوائز لا تصنع كتابًا بل تعيد تقديمهم للقراء".
وتدلل على عدم تهافتها وراء الجوائز بـ "فترات الصمت الطويلة بين كل عمل أدبي وآخر"، فبعد حصول بروكلين هايتس على جائزة نجيب محفوظ وترشحها فيما بعد إلى القائمة القصيرة للبوكر 2011، "لم يحرضني ذلك على النشر ومطاردة الجوائز التي ظهرت في العالم العربي وصارت محط اهتمام الكتاب، بل ظللت لسنوات أفكر كيف سأتجاوز هذا المأزق، وكيف أستطيع أن أكتب نصًا جديدًا ومختلفًا دون الوقوع في شرك التكرار".
ورغم أن فترة الصمت تلك زادت عن عشر سنوات، حتى خرج كتابها النقدي بنت شيخ العربان في عام 2022، الذي يرصد نشأة القبائل البدوية في الدلتا والصعيد مع دخول العرب مصر وتطور مجتمعاتهم لاحقًا، تؤكد ميرال "لم أنزعج من سؤال الآخرين، أين ذهبت ميرال الطحاوي، لما تركت الحياة الثقافية".
بين التراث والنصوص الكلاسيكية والقراءة
في أيام الشمس المشرقة تذهب نجوى، إحدى البطلات، إلى المدينة التي يحمل النص اسمها كي تُكمل دراساتها العليا هناك، وتلتقي بـ هانا ميللر، أستاذتها ومشرفتها، وتكون اللغة محل جدال بينهما، حتى تنصحها أستاذتها بترجمة أجزاء من كتاب المسالك والممالك، وهو كتاب تراثي يمكن تصنيفه ضمن ما صار يعرف حديثًا بأدب الرحلات.
هذه المواجهة مع التراث الأدبي العربي تعبر عن موجة تسيطر على العديد من الأعمال المنشورة مؤخرًا، فيعارض يوسف رخا المتنبي في كتابه الأحدث ولكن قلبي، وكذلك ثمة تناص بين العالم الحاضر والقرن الثاني الهجري عند منصورة عز الدين في روايتها بساتين البصرة، وبين ألف ليلة وليلة والسفر عند عزت القمحاوي في غرفة المسافرين، وغيرها من النصوص. كل هؤلاء تعاملوا مع التراث بعين تعيد قراءته، فيما تستعيده ميرال في روايتها الأحدث كمحاولة لتخطي أزمة بطلاتها مع اللغة الغريبة عليهن.
يتعلق عمل الكاتبة بالتدريس بالتراث العربي وهو ما وطدّ علاقتها باللغة العربية، "قرأتُ مبكرًا الشعر الجاهلي وكلاسيكيات الأدب العربي. التراث يؤثر على وعي الكاتب. ثم فرضت عليّ تجربة الغربة التعامل مع ثقافة ولغة جديدة، وأربكني ذلك في البداية، لكنني حاولت أن أخلق من تلك الازدواجية مراجعة لمفهوم البلاغة، هل هو الموجود في التراث أم أن هناك صورًا جديدة لمفهوم البلاغة قد تتكئ على الاختصار، والبساطة، والمفارقة؟ أعتقد أن التعدد اللغوي كان مفيدًا في تجربتي. في روايتي الأخيرة، استطعت أخيرًا التحرر من اللغة الشاعرية والحس الرومانسي، وصرت أقدر على التعامل مع اللغة بحيادية وبساطة".
ربما احتاجت ميرال الطحاوي ثمانية كتب/محاولات سابقة لتتحرر من لغة سيطرت عليها، لكنها رغم ذلك المشوار الطويل مع الأدب الذي يقترب من إتمام ثلاثين سنة، ما زالت تواقة للتجريب والتحرر من أسر اللغة والعوالم السردية.
وربما لذلك السبب وحده يجب أن يُنظر إلى أدبها دون أحكام مسبقة أو رغبة في التنميط "ستظل قضايا الحروب والهجرات والاضطهاد العرقي موضوعات كبرى يكتب عنها الجميع، لكن لكل كاتب رؤية وطرح مختلف. أعتقد أن التحدي الذي يواجه الكاتب، هو كيف يخلق عالمه الخاص، وكيف ينسج فنيًا مفردات ذلك العالم، لذا لا أنزعج من الأسئلة التي غالبا ما أواجهها، لماذا خرجت من عالم البدو وإلى متى ستكتبين عن الهجرة والشتات، ومتى تتوقفين عن الكتابة الذاتية، بل أعتبر ذلك مجرد قراءة استباقية لمشروعي ككاتبة".