أودُّ أن أستفتح عام 2024 بمقال عن ظاهرة أدبية. يتحدث بها البعض في جلسات اطمئنان مغلقة، وتثقل صدور آخرين يخشون الكلام، عن رواج "أدب المقاولات"، خصوصًا الروايات. هذه صناعة لها منتجون، وسماسرة، وجمهور ينتظر الجديد. ويحتشد، طواعيةً أو تخطيطًا، للهتاف وتبادل الإطراء.
تصنيف المقاولات ليس إساءة للأفلام، فهو من المصطلحات التي شاعت في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. تلك موجة طال عمرها، وارتبطت بها أسماء لامعة في الإخراج والتمثيل، ثم اختفى أعلامها، واستطاع البعض غسل تاريخه بأفلام معقولة، عبر تأسيس شركات إنتاج تتمتع بشيء من الشياكة، وتختلف عن منتجين من تجار الخردة ومحترفي غسيل الأموال مجهولة المصدر.
تختلف المستويات، تتجاور وتتقاطع، ثم يذهب كلٌ في طريق، ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها. وفي العالم كله أعمال قليلة تتجاوز لغتَـها وزمانَها وثقافتَها، وتخاطب الإنسان في أمكنة أخرى، وأزمنة تالية. وفي مصر صنعت أفلام "خفيفة" بالتزامن مع أفلام يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ. تيار جماهيري، وتيار فني يشارك في مهرجانات دولية، ويحظى باحترام نقدي وجماهيري.
المسافات واضحة، والمقامات محفوظة. شادي عبد السلام مخرج الفيلم الطويل الواحد المومياء لا يجتمع مع ناصر حسين، مخرج الـ48 فيلمًا، في جملة مفيدة، ولا لجنة تحكيم، ولا مسابقة قد يفوز فيها فيلم للأخير، بمعايير محكّمي "روايات المقاولات".
نحر الضمير الثقافي
الفصل صريح بين الفني والسوقي اللازم لتزييت الآلات. الضمير النقدي يرفض مساواة الباقي بالعابر. العابرون لم تنقصهم فضيلة التواضع، فلا ينافسون على جائزة، ولا يطمحون إلى المشاركة في مهرجان، ولا يحلمون بعضوية لجان التحكيم، ولا ينتظرون إشادة ناقد. لا يراهنون إلا على ذوق جماهيري يلتقطون تردُّدَ موجته؛ فيسارعون إلى الاستجابة، ولو أصابهم شيء من الغرور لاحتكموا إلى أرباح تحققها أفلامهم للمنتجين. شبّاك التذاكر خير عزاء.
أرض الإبداع واسعة ومن يخُض التجربة يقبل ديمقراطية التلقي والجمهور متنوع كلٌّ يبحث عما يرضيه
وفي الأدب أيضًا أُرسيت تقاليد حفظت المقامات، لم يظهر إسماعيل ولي الدين في برنامج ليتباهى بأنَّ رواياته توزع أكثر من أعمال بهاء طاهر وعبد الحكيم قاسم، وأنها في صيغتها السينمائية أنجح من أفلام نجيب محفوظ.
نجحت محاولات نحر الضمير الثقافي. بدأها أنور السادات، الكاره للقراءة والثقافة، بوصف المثقفين بالأفندية الأراذل. عادل إمام التقط الخيط، وفي عهد حسني مبارك حمل رسائل من الوالي. كان يردد أنَّ أفلامه أكبر من النقاد والمهرجانات والجوائز، حتى تصالح مع "الوالي"، فحصد الجوائز والتكريمات. وحرص كتّاب أفلامه على افتعال مشاهد تستخف بالفن التشكيلي، وتسخر من الفنانين.
وفي فيلم السفارة في العمارة اجترأ على أمل دنقل، واستهزأ بواحدة من أشهر قصائده "لا تصالح"، التي كتبها عام 1976، بعد اتفاقية فكّ الاشتباك الثانية مع العدو الصهيوني، ولا تزال تُستدعى جماهيريًا ونقديًا. ويخطئ الكثيرون، فيظنون أنه كتبها بعد زيارة السادات للقدس، في نوفمبر/تشرين الثاني 1977.
بمدِّ الخيط على استقامته، يكون طبيعيًا أن يفتي الممثل أحمد السقا محدود الموهبة، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أثناء تكريمه في مهرجان الجونة السينمائي، بأن السينما المصرية، منذ عام 1967، "خُلقها ضيق"، وظلت في حالة سريرية، حتى أحياها فيلم إسماعيلية رايح جاي المتواضع فنيًا وإنتاجيًا، عام 1997.
أرض الإبداع واسعة. ومن يخُض التجربة يقبل ديمقراطية التلقي. والجمهور متنوع، كلٌّ يبحث عما يرضيه. البعض يكتفي بأعمال بسيطة، أحادية البعد، تخفف هموم المعيشة. والبعض ينصرف عن أعمال مسطحة إلى أخرى أكثر تركيبًا واحترامًا لعقله، يتلقاها بإدراك واعٍ ويحاورها، ويتفكر في كيفية بناء المشهد وتركيب الجملة، ويعيد المشاهدة والقراءة فيكتشف قدرة العمل على البوح بالجديد في كل مرة.
النوع الأخير من الإبداع لا يُضلل الجمهور ولا يدلّله، ثروة مضافة إلى الرصيد الحضاري الوطني. المبدعون الحقيقيون تنمو مواهبهم، وتتطور بأناة، في مشهد ثقافي يتمتع بضمير ينتقد ويوجه. إبداع هؤلاء أغرى، بالتقليد، أطباء وقضاة وضباطًا متقاعدين وصحفيين ومحققي تراث ومترجمين وساقطي قيد.
جوزيه ساراماجو استثناء نادر يؤكد صعوبة بدء الكاتب في سن التقاعد. هنا يفعلونها، متسلحين بالثقة وبالبجاحة، ومن دون رصيد أدبي ولا موهبة إلا القدرة على التسويق. في السينما حفظ المحدودون أقدار الموهوبين، باستثناء دعابات سخر بها البعض من أفلام يوسف شاهين زاعمين أنها مُشفّرة. لكنَّ أيًّا منهم لم يدَّعِ مطاولة الكبار احتكامًا إلى شباك التذاكر، ولا أعلن عن تنظيم دورات للراغبين في تعلم كتابة السيناريو والإخراج.
وفي الأدب، قطع البعض أشواطًا من شطط مدعوم بفساد ثقافي يتمثل في منح جوائز رسمية وأهلية لكتابة متوسطة، فيباهي الفائز بجائزته وسط جمهوره المحدود، فتزداد شعبيته، فيتم اختياره للتحكيم في المسابقات، ويُعمِّد متوسطين جددًا.
كلام كالكلام
قبل معرض للكتاب في بلد عربي، اتصل بي صديق يطلب رقم هاتف شاعر قذفه برنامج تليفزيوني خليجي. لم أشك في تحول الذوق الأدبي لصديقي الذي قال "الجمهور يريده" في برامج للمنوعات. ثقافة سماعية لجمهور لا يقرأ. ولو قرأوا شعره لرددوا وصف طه حسين لقصائد شاعر شهير بأنها كلام كالكلام.
لم أعثر لهذا الشاعر النجم على ديوان مطبوع، ولا دراسة لناقد. ظاهرة صوتية تليفزيونية أقل حظًّا بكثير مما جناه فاروق جويدة، وكانت دواوينه أكثر توزيعًا من أعمال صلاح عبد الصبور وأدونيس وعفيفي مطر وجيل السبعينيات. وغضب بعض شعراء السبعينيات من رجاء النقاش لكتابته مقالًا عن جويدة.
النقاش كان مجاملًا طيب القلب، استوعب الهجوم على مقاله، وأعاد نشره في كتابه ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء (1992). ومع المجاملة، دعا جويدة إلى "الاقتصاد الأدبي"، بالتخلي عن الاستسلام لتداعي الألفاظ والاسترسال الذي يحرمه من "التكثيف وإتاحة الفرصة لخيال القارئ... ولو حذف الشاعر بعض أجزاء قصائده التي تشرح وتفسر وتلح على التفاصيل، لكان ذلك تعميقًا لقوة تأثيره الفني".
خطورة روايات المقاولات في اعتياد القراء واعتبارها "الكتابة" ثم استنكارهم الكتابة الحقيقية إذا صادفتهم
نحن الآن في مرحلة ما بعد حذف أجزاء من قصيدة، وفصول من رواية. ويمكنني تقسيم أدب المقاولات إلى تيارين؛ أولهما كتّاب روايات، ولا أقول "روائيون"، لا علاقة لهم بالوسط الثقافي، ولا يعرفهم النقاد، ولا تنشر أسماؤهم في الصحف، ولا يهتمون بذلك.
والتيار الثاني على الأعراف، ليسوا من الكتاب السرّيين، ولا ينتمون إلى متن الضمير الأدبي، ويُعترف بهم على الهوامش، ويعانون أزمة التحقق، ويجيدون قنص جوائز يحكّمها أمثالهم ممن يتّسمون بالتهذيب اللزج، والتأنق في الثياب والأسلوب السليم المتبع للمعايير المدرسية. لا أخطاء ولا نتوءات. أدب نظيف، خالٍ من قلّة الأدب ومن نبض الحياة.
تُغري هؤلاء مناطق آمنة في التاريخ وأعلامه من القادة والمتصوفة والعلماء. أدبهم يُطمئِن الجماهير، ولا يُقلِق المتعطشين إلى يقين المرهقين من تعقد الحياة، الذين يسعون إلى منطقة ظلال التماسًا لراحة. هذا الأدب السكوني يضمن لجمهوره السلام النفسي والتناغم الكوني.
يتماس الفريقان، السرّيون وكتاب البرستيج، في احتمائهم بمجموعات القراءة في السوشيال ميديا، وصداقتهم لهتّيفة يحلو لهم تصوير مكتباتهم، والإعلان عن قراءة مائة وعشرين كتابًا في السنة، وتضم القوائم خليطًا لا ينسجم مع ذوق واحد، فيقرأون لفوكنر وماركيز، وروايات "سرّيين" يضمهم التيار الأول.
أما كتاب التيار الثاني فأعمالهم تحتمل، وفيها نفَس قلم المحرر الأدبي، الذي يمكن اعتباره المؤلف الحقيقي المجهول. وتشق هذه الأعمال طريقها إلى الدرس الأكاديمي، في رسائل يشرف عليها أمثالهم من ساقطي القيد، حائزي "الأستاذية" في جامعات الظل. وهم ليسوا أقل شأنًا من رجل أعمال كويتي أغواه الشعر، وأغوى النقاد، وتكالبت على شعره عدة رسائل أكاديمية في جامعات مصرية.
تلك رسائل، وبعضها عن كتّاب مصريين سرّيين ونصف سرّيين، تظل وثائق إدانة، فضيحة لباحثين يخشون طبعها للتداول العمومي، عورة لا تحجبها أوشحة المشرفين والمناقشين، مهما تكن قاعات المناقشة سترًا وأرفف مكتبات الكليات غطاءً.
هذه رسائل تنال من هيبة الأستاذ، وتنتقص مكانة وثّقها أحمد أمين، بعد خلاف مع وزير المعارف، بقوله "أنا أكبر من عميد، وأقل من أستاذ". للشاعر الكويتي أشباه مصريون، سرّيون يتمتعون بأشياء أخرى غير الثراء المادي، تمنح كتاباتهم مكانة تأخرت على نجيب محفوظ حتى تجاوز سن الستين، وكانت أول رسالة دكتوراه عن أعماله للباحثة سيزا قاسم، وصدرت في كتاب بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ.
خطورة روايات المقاولات في اعتياد القراء، واعتبارها "الكتابة"، ثم استنكارهم الكتابة الحقيقية إذا صادفتهم. في فيلم الكيف (1985) يصنع كيميائي الحشيش من مواد عطارة، وتروج البضاعة في السوق، ويراهن التاجر على أنَّ التعوَّد سيجعل المستهلك يرفض الحشيش الأصلي. وفي صناعة النشر المهددَّة، تحفز الكتابة الخفيفة الناشرين على المغامرة بنشر الكتابة الباقية.
هكذا كانت الكتابة العابرة، وهكذا يمكن أن تظل، مع مراعاة ضبط المسافة، وعدم الخلط والتعمية، في الحياة الثقافية والجامعية، فعدة شغل الناقد الحرفي لا تفرق بين محفوظ وأحمد مراد وسلالة الكتاب السرّيين وروائيي البرستيج. انحراف لم يمسّ شرف السينما.. نقدًا وتحكيمًا وجوائز. ممنوع وجود صناع أفلام المقاولات.