موقع مؤسسة العويس الثقافية
محمد إبراهيم أبو سنة بريشة الفنان محمد فهمي – العراق

محمد إبراهيم أبو سنة.. الإقامة في "المنطقة الآمنة"

منشور الثلاثاء 12 نوفمبر 2024

لازمت مفردة "الحلم"، ومشتقاتُها، الشاعر الراحل محمد إبراهيم أبو سنة في كامل ديوانه الممتد لأكثر من 60 عامًا من الكتابة. بالكاد تخلو قصيدة لصاحب موسيقى الأحلام من اشتقاق من الجذر اللغوي "حَ لَ مَ"، فإن غاب "الحُلم" مفردًا، حضرت "الأحلام" جمعًا، وإن غاب الاثنان تواتر فعل "يحلم" إلى آخر مشتقاته.

الأحلام عند أبو سنة هي من تصدح بـ"الموسيقى"، كما أن "زهور الأحلام يباغتها الشوق"، وهو ينتظر علَّ حلمًا يركب الآن جوادًا، بل تتشابه مواطن الأحلام فينادي في نصٍ حبيبتَه "لتتركي يدك الجميلة في خيالي حلمًا تراوده الأماني"، ويصف حفيده أيضًا بأنه حلم تحيط به الأمنيات.

مريض بالرومانسية

يصلح هذا المعجم "الحلمي" مدخلًا لمطالعة تجربة أبو سنة المتشبثة بهذا البراح في مواجهة عالم يتخضب فيه الصباحُ بالدم، على قول الشاعر "الحالم" المريض بالرومانسية، حسب وصف لويس عوض له.

الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة

رحل محمد إبراهيم أبو سنة في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني عن عمر يناهز الـ87 عامًا، وعن رحلة مع الشعر امتدت من الستينيات إلى العقدين الأولين من مطالع القرن الجديد، أصدر خلالها عددًا كبيرًا من الدواوين، بدأها عام 1965 بديوان قلبي وغازلة الثوب الأزرق، ثم توالت أعماله، ومنها البحر موعدنا، وموسيقى الأحلام، والصراخ في الآبار القديمة، ومرايا النهار البعيد، وتعالي إلى نزهة في الربيع، هذا إلى جانب عدد من المسرحيات الشعرية وكتبٍ جمع فيها مقالاته.

وإن تعددت أسماء شعراء جيل الستينيات الشعري، فإن أبو سنة كان رابع ثلاثة مثّلوا الأعمدة الأساسية لهذا الجيل الذي تناول مشعل "التجديد" في شكل القصيدة العربية عبر نقلتها من وحدة البيت إلى فضاء التفعيلات، بعد جيل الخمسينيات الرائد برأسيه في مصر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي

منطقة الظلال الآمنة

وبينما نحا محمد عفيفي مطر نحو أساطيره والتزم الجموح اللغوي والتركيبي حتى نُصّب أبًا للحداثة وأستاذًا للأجيال التالية في مصر، وانسجم أمل دنقل مع لقب شاعر الرفض العربي الأول، اختار كل من فاروق شوشة وأبو سنة منطقة الظلال والأحلام الهادئة والآمنة؛ اختارا أن يكونا امتدادًا لجيل الخمسينيات، صاحب الثورة الشعرية، لكن دون أن يتورطا في ثورته ودون أن تنالهما السهام التي نالت جيل الريادة، سواء جراء الخروج عن الشكل وهجوم المحافظين، على رأسهم العملاق عباس محمود العقاد، أو جراء الاقتراب من نار السلطة والاكتواء بها كما حدث لصلاح عبد الصبور. 

لم يثر أبو سنة ثورته الخاصة وإنما ثار ثورة مجتمع شعراء عصره

أبو سنة بالذات، وإن سار على الدرب في شكل التجديد التفعيلي ومعالجاته، فإنه لم يخرج تمامًا من ثوب الشاعر الرومانسي أو الرومانتيكي الذي يبغي السلام بعيدًا عن صراعات السياسة الملتبسة، وعن جنوح التحديث ومغامرته.

يمكن أن نقول إن شاعر البحر موعدنا لم يثر ثورته الخاصة، وإنما ثار ثورة مجتمع شعراء عصره، فحافظ على تحديث الشكل ولم يغب عنه النسق الكتابي السابق، السائد في قصيدة الرومانسية المصرية عبر روادها من جيل شعراء أبوللو، إبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل، وإن اختلف بالطبع شكل التناول وطريقة التعامل مع الطبيعة وأنساقها.

فأبو سنة، كما يقول الناقد رضا عطية لـ المنصة "عمل على تحقيق توازن جمالي في أسلوب القصيدة وطريقته في الشعر، ففيه من الرومانسية روح عذبة ونظرة وجودية لا تخلو من حزن وفيه من الأسلوب الشعري الكلاسيكي العناية بالموسيقى بشكل باذخ لا سيما القوافي، وفيه من الأسلوب الشعري الجديد استعمال قالب التفعيلة والاهتمام بقضايا الإنسان المعاصر".

رومانسية الواقعي 

لكن جيل الستينيات الشعري الهادر، الذي واكب حلم عبد الناصر وزخم عهده، وانتهى بالنكسة، وحمل عبء الهزيمة وما لحقها، لم يترك لشعرائه مساحةً للانفراد بأحلامهم وعزلتهم، ففرض عليهم التعامل مع الواقع، كلّ على طريقته؛ فإنْ اشتبك أمل دنقل في رحلته الشعرية القصيرة اشتباكًا مباشرًا وجاءت "لا تصالح" رغم رمزيتها جلية واضحة، اختار أبو سنة أن يتعامل بـ"رومانسية مع الواقعية"، كما يقول الناقد والأكاديمي أحمد الصغير لـ المنصة

احتمى أبو سنة بروحه الحالمة، وانتظر حتى يحين الوقت الذي تصدح فيه "الموسيقى بالأحلام"، بما يفرضه ذلك على الشعر من فروضٍ، على رأسها فروض التزام المعجم الذي رسّخ وجوده شعراء الرومانسية وكذا موسيقاهم الشادية، كما يظهر في قصيدته "موسيقى الأحلام":

يا شيخي ومتى ألقاك

تلقاني في جسد الأحلام

نقب عني في جسد الأحلام

لكن لا تنس الموسيقى

الموسيقى روح الشعر

وروح الصدق المقدام

دعني يا ولدي أغفو لحظاتٍ وأنام

موعدنا القادم حين تقوم

وتصدح بالموسيقى الأحلام

التمس أبو سنة أيضًا الدورَ الرسوليَّ للشاعر، واختار الاستناد في هذا لميراث عبد الصبور، وإن جاءت قصيدة شاعر جيل الستينيات أكثر أمانًا يتقمص فيها الشاعر دور داعية السلام والمحبة في مواجهة إنسان متوحش ومغتر في زمن قاس ودموي، يقول في قصيدة أغاني الماء

يا هذا الإنسان المستوحش

لا ينجيكَ من الوهم

سوى حضن وفاءْ

يا هذا الإنسان المغترُّ

بما تحويه خزائنهُ

كل خزائن هذي الدنيا

إلا ما يحمله القلبُ خواءْ

لا ينجيكَ سوى كفِّ أخيكَ

ولا يدفئ بردك إلا الشوقُ 

في مواجهة العصر الهادر، لجأ أبو سنة لموازناته مرة أخرى، فهذه المرة لا يغيب عن زمنه بما يفرضه من فروض الواقعية ولا يتخلى أيضًا عن روحه الحالمة، لتأتي "قصيدته مزيجًا بين الواقعية البسيطة وبين الرومانسية الحالمة بغدٍ أفضل"، كما يرى الناقد والأكاديمي أحمد الصغير.

يصف الصغير، أبو سنة، بأنه "شاعر حالم بالحب والأمل والعدل والصدق وسمو الأخلاق والبهجة، تتجلى لديه أصوات الرومانسي بشكل لافت"، معتبرًا أن شاعر "مرايا النهار البعيد" من شعراء جيل الستينيات الذين أفرطوا في الرومانسية الشعرية، حيث صارت الحياة لديهم مزيجًا من العطاء الرومانسي الشفيف، فيربط بين الشاعر الرومانسي، والشاعر الواقعي، على حد قوله لـ المنصة.

روح الشاعر الرائي

يستشهد الصغير بإهداء أبو سنة ديوانه "البحر موعدنا" إلى قريته الودي، "التي أنبتني، والتي عشت أحلم بسعادتها، وسط عالم يشيع فيه العدل، وينتصر في قلبه الحب، ويتألق في روحه الجمال"، ويرى الإهداء عتبة شعرية للدخول في عالم أبو سنة فيكشف عن روح الشاعر الرائي والحالم الرومانسي العاشق للعدل والجمال والحب.

ولأن للطبيعة حضورها الطاغي لدى الشاعر الرومانسي، فإن أبو سنة يلوذ بها في مقاومته الواقع المستوحش، إذ يستنهض "روح الرومانسية من خلال استنطاق الطبيعة والأشجار، وكأنه يخاطب أشجار الذات النابتة في قلبه العاشق، ثم يعلن عن مواجهة الواقع عبر إلقاء أنفسنا في التيار الصاخب الجارح، لنعبر من اليأس إلى المجهول"، حسب الصغير الذي يستشهد بقصيدة "أسئلة الأشجار":

سألتني في الليل الأشجار

أن نلقي أنفسنا في التيار

أن نتجه إلى النهر القادم

من أعماق اليأس إلى أقصى المجهول

نحمله في ذاكرة محكمة الإغلاق.

منطقة الأحلام والظلال الهادئة التي احتمى بها أبو سنة طوال تجربته، وإن حمته من العواصف الهوجاء للسياسة والتجديد، وكان حصادها كل التكريمات الممكنة من الدولة وجوائزها من أصغر جائزة حتى جائزة النيل التي حصل عليها العام الماضي، فإنها لم تحمه من شعور الاغتراب، وهو ما تناوله الشاعر والناقد محمد السيد إسماعيل في دراسته لفكرة الاغتراب في شعر أبو سنة ضمن كتابه الحداثة الشعرية في مصر فـ"إذا كان غياب العلاقات الإنسانية بين البشر أول عامل من عوامل اغتراب الشاعر، فإن إحساس الشاعر بهامشية دوره في مجتمع لم يعد يصغي لصوت الشعر، وإحساسه بتجاهل المجموع له يعد عاملًا قويًا من عوامل اغترابه"، ليظل أبو سنة محافظًا على صلته الوثيقة بالطبيعة بوصفها المهرب والملجأ والملاذ: 

تعالي إلى نزهة … / في الربيـع / لنقطـف بعـض الأغاني / التي أوشكـت / أن تضيـع / ونطلـق في الأفـق… / … ضوء الفراشات … / فوق مرايا الجداول / عبر الفضاء الوسيع / نحلق مثل الطيور / التي ألهمتها الحدائق / هذا الجنون البديع.