تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
المحلل النفسي جاك حسون

جاك حسون.. سيرة يهودي مصري

منشور السبت 24 مايو 2025

"قد يكون اليهودي من مصر مجرد خيال أو حتى ملحمة شعرية، تشكلت من الشتات الذي شهدته إحدى الأقليات، كان هذا اليهودي في مسقط رأسه متعدد الهويات... وهو إذ كان تارة يؤكد على أصوله الوطنية، وتارة على استمتاعه بنظام الحماية، فهو أيًا كان الحال يجد نفسه على الدوام أحد أفراد أقلية من الأقليات".(1)

واحد من أفراد هذه الأقلية المحلل النفسي الشهير جاك حسون (1936-1999)، ومن أجلها كتب العديد من الكتب والروايات منها تاريخ يهود النيل، ليبحث في مكونات الهوية المتعددة لهذه الأقلية قبل خروجها من مصر بداية من عام 1948.

وُلد حسون في الإسكندرية عام 1936 لعائلة يهودية كانت تتحدث اللغتين العربية والفرنسية بطلاقة. تلقى تعليمه في مدرسة الاتحاد اليهودي، ثم نُفي إلى فرنسا عام 1954 بسبب نشاطه الشيوعي وانضمامه للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني/حدتو وهي المنظمة الشيوعية غير الشرعية، التي أسسها اليهودي المصري هنري كورييل عام 1944. وهناك تابع دراسته وأصبح أحد تلامذة المحلل النفسي الشهير جاك لاكان (1901-1981)، حتى وفاته عام 1999.

في باريس سينضم حسون إلى ما يسمى "جماعة روما"، التي كانت عبارة عن 20 إلى 30 عضوًا من "حدتو" يعيشون في باريس، وسميت بهذا الاسم باعتبارهم مصريين في المنفى. كان أهم ما يميزهم أنهم تلقوا تعليمًا في بيئة ثقافية فرنسية علمانية تتسم بالعقلانية وتؤمن بالقيم الديمقراطية. 

"كانت هذه الجماعة تعمل كفرع لحدتو في مصر، وكان نشاطهم الذي بدأ من مصر يشمل كفاحهم من أجل الاستقلال الوطني، وضد الحركات الاستعمارية الجديدة، ورفضهم الحلول الصهيونية لمحنة يهود الشتات".(2)

كانوا لا يرون أنفسهم أجانب، وكما قال جيل بيرو كاتب سيرة هنري كورييل زعيم هذه الحركة "لقد قام المنفى بتمصيره".(3)

صورة اليهودي المصري

احتفظُ لحسون بواقعة شخصية. دائمًا ما كنت أتوقف أمام حكايته مع إبراهيم أصلان الذي جاء كرسيه بجواره في باريس على مائدة عشاء ترحيبًا بوفد من الأدباء المصريين، وبعد تبادل الأنخاب والحديث الحميم عرفه بنفسه بأنه جاك حسون يهودي مصري، وحدثه عن حبه الشديد لمصر، وعن عائلته التي تعود إلى قرية خلوة الغلبان في المنصورة، وطفولته التي قضاها هناك. عندها أُسقط في قلب أصلان وشعر بالوجل، كما كتب في مجموعته القصصية خلوة الغلبان، وتجنب الحديث معه لكونه يهوديًا.

ألح حسون على أصلان والأدباء أن يلبوا دعوته لهم على العشاء في أي وقت بعد انتهاء جولتهم في المدن الفرنسية، وقبل مغادرتهم إلى مصر.

يوجه حسون توصية للمؤرخين لاستجلاء الصورة الأكثر وضوحًا ذات المكون العربي لشخصية اليهودي المصري

لم يلبِّ أصلان الدعوة، بالرغم من أن الرجل ظل ساهرًا في انتظاره مع العشاء المجهز لهم. وندم على ذلك بعدها بخمس سنوات حين وصله خبر وفاة حسون متأثرًا بسرطان الدماغ.

شعرت بخجل بأثر رجعي نيابة عن أصلان، وتمنيت لو كان لبى الدعوة ليمنحه جزءًا من هويته المتعددة بوصفه أحد يهود النيل. كان يقول عن نفسه "أنا يهودي لأني مصري، وأنا مصري لأني يهودي".(4)

هذه الهوية المتعددة لهذه الأقلية في عصر الملك فؤاد، لم تكن متطابقة تمامًا مع الهوية المصرية، وأيضًا ليست نقيضة لها، لا يزال بها شيء مبهم كما يقول حسون " كانت في بدايتها أقلية وطنية أجنبية، ثم تحولوا إلى أقلية دينية يتم تشبيهها بالأقليات الأجنبية، بعد انفتاح مصر وعقد العلاقات مع المجتمعات الأوروبية، ولكن كلما انحسر هذا البعد العربي، أصبحت صورة هذا اليهودي المصري مبهمة، ومن ثم يتحتم على كاتب التاريخ أن يبذل جهودًا مضاعفة حتى يميز ملامح وجه أبطال تاريخ ولَّى".(5) 

يوجه حسون لكُتّاب التاريخ، ولنفسه بوصفه أحد مؤرخيه، التوصية لاستجلاء الصورة الأكثر وضوحًا، ذات المكون العربي لشخصية هذا اليهودي المصري. وهو ما اهتم به في كتبه عن مصر ويهود مصر، وزياراته لها، استجلاء أو تحديدًا لعمق هذا المكون العربي الذي يمنح هذا اليهودي، ويمنحه بالتبعية، المذاق الخاص واستقرار الهوية، ولهذا "شارك في تأسيس جمعية حماية التراث الثقافي ليهود مصر 1979 التي اشتملت القائمة المحركة لها العديد من الشيوعيين السابقين الذين عملوا مع هنري كورييل وجماعة روما".(6)

تمازج وليس اندماجًا

غلاف كتاب مذكرات ألبير آريه

هذه الهوية اليهودية نشأت نتيجة تجاذب بين قوميتين، كما يقول حسون "أن القومية اليهودية التي لا تختلف كثيرًا عن القومية العربية وتعيد النظر في اندماج اليهود العرب في أوطانهم وفي البلد المضيف"، ويضيف "إن العلاقة بين اليهود والمصريين تمازج ولم تكن اندماجًا". وتستند زبيدة محمد عطا في كتابها عن يهود مصر  على ظهور تيارين عند تقسيم فلسطين أحدهما عربي إسلامي في مواجهة تيار آخر يدين بالولاء لإسرائيل".(7)  

ربما كان اللجوء للشيوعية، طريقتهم لرأب الصدع بين القوميتين لبعض اليهود المثقفين الذين كانوا يعيشون في مصر، أو ربما للتوفيق بين الانتماءين المتناقضين كما يذكر حسون "أظن أن السياسة، وبتعبير آخر، القدرة على أن تظل شيوعيًا، ثم أن تصبح تقريبًا تروتسكيًا قد سمحت لي بأن أقوم بحل كل هذا نظرًا لأن المذهب الدولي القائم على التعاون قد أجاز لي عمل تزاوج ما بين تلك المتناقضات".(8)

وربما لم يواجه حسون هذه الأزمة بوضوح أثناء حياته في مصر، ولكن هذا الإحساس بالتناقض أو الازدواج، لا شك طارده خلال مسار حياته في باريس، التي كانت تعتبر المنفى النهائي بالنسبة له، وأنه لا عودة للحياة في مصر، بعد الحروب التي جرت بين مصر وإسرائيل.

يكتب عن هذه اللحظة التي حاول فيها إعادة تشكيل ذاكرته وعلاقاته "كان يجب علي أن أعيد لنفسي تشكيل فئة اليهود المصريين، وأن أقوم بخلق روابط مع الآخرين، وأن أنهي هذه القصة المتعلقة باليهودي المصري كي أرى في النهاية كل الجوانب المختلفة لهويتي وقد توافقت فيما بينها". (9)

وربما من تجليات إعادة تشكيل الذاكرة نصه السردي شديد الدقة والحميمية "أحداث الحياة اليومية" الذي ضمنه كتاب "تاريخ يهود النيل"، الذي حمل مثل هذا الانحياز الشخصي لحياته وحياة اليهود في مصر، بدون رغبة لامتلاك أو استئثار بتاريخ آخر لا يملكه.

هل هناك ازدواجية؟

يتساءل حسون في هذا النص عما إذا كانت هناك ازدواجية حقًا في انتماء اليهودي المصري العادي لقوميتين متعارضتين، ولكن سريعًا ما ينفي ذلك، "فاليهودي مهما كان انتماؤه الاجتماعي أشبه بالمتسول عبد الله اليهودي: أي الجلابية والسترة والطربوش والحذاء". (10)

كان عبد الله اليهودي، أحد أبطال نصه، هو أحد متسولي شارع التتويج (محمد كُريم حاليًا) في حي الأنفوشي بالإسكندرية، وكان ينتمي ليهود مصر القرائين، "الذين يتحدثون اللغة العربية، ولم يشعروا بأي تمييز ضدهم، كان التوجه الثقافي العربي جعلهم أكثر اندماجًا في مصر عن اليهود الآخرين". (11)

لم يصنع يهود مصر أي لغة خاصة بهم على عكس المغاربة أو سكان أوروبا الشرقية أو الأسبان البلقانيين

تمثل صورة عبد الله مزيجًا معقدًا من التجذر والاختلاف في آنٍ، وتعكس تفاعله المتشابك مع الواقع المصري. "يعاني من رمد في عينيه، ويلبس الطربوش، وله لحية مشعثة، ويرتل مثل المسلمين الله الله، وقد تلطخ جلبابه ببقع جميع الوجبات. إلا أن هناك شيئًا دقيقًا يميزه بشكل خاص، فهو يرتدي سترة على جلباب، ويلبس في قدمه حذاءً قديمًا خاليًا منذ زمن من أي رباط. إنه لا يسير حافي القدمين على غرار إخوانه المتسولين المسلمين". (12)

فهذا اليهودي، وغيره من النماذج، كان يعيش بلا تمييز واضح له عن غيره من المصريين، قبل 1948 "لم يكن اليهودي المصري مهاجرًا، لم يكن يهوديًا يعيش في مصر، لقد أصبح مؤخرًا فقط يهوديًا من مصر، بعد أن واجه الدولة، ومفهوم الدولة، والدولة المصرية، ودولة إسرائيل، والدول الأوروبية؛ أي أصبح يهوديًا على وشك السفر، أو الذهاب إلى المنفى". (13)

كانت الكتلة الغالبة، ومن بينهم عبد الله، تتحدث اللغة العربية. يكتب حسون "لم يصنع يهود مصر أي لغة خاصة بهم، على عكس المغاربة، أو سكان أوروبا الشرقية أو الأسبان البلقانيين، فقد تحدثوا اللغة العربية". (14)

هذه الكتلة كانت تنظر للأثرياء منهم نظرتهم للكلاب ممن أثرتهم الحرب، بينما هم ازدادوا فقرًا، ساعين إلى فتات السلطة "كان ذلك اليهودي الذي أصبح أكثر فقرًا عن ذي قبل، يقول إنه لن يقايض حياته البائسة مقابل حياة هؤلاء الكلاب الذين يعيشون مثل شخوص روايات لورنس داريل"، لأن "الأغلبية العظمى لهؤلاء اليهود ينتمون للأقلية نفسها، وهم بهذه الصفة ينتمون إلى التاريخ نفسه".(14)

أحداث الحياة اليومية

في نص "أحداث الحياة اليومية" نلحظ اهتمامه المفرط بالتأريخ للتقاليد والأعياد والطقوس الدينية والأطعمة وآداب الطعام، والملابس، والمذاقات، والروائح، والأصوات، والفوارق الطبقية داخل الأقلية الواحدة، والمحرم والمحلل والمحظورات في حياة هذه الأقلية. تأريخ تمتزج فيه الحياة العامة بالخاصة، المجال الديني، بالحياة المدنية، بدون أي مسافة فاصلة. لنلتقط الهوية المبعثرة على مر التاريخ، فاستراجاعها يعيد هوية اليهودي الذائبة داخلها.

الجهد المبذول في بعث هذه الهوية وأبطالها من الشتات ينعكس على رواية التفاصيل بحميمية ودقة علمية، مع التوقف كثيرًا أمام المكون العربي داخل هذه الهوية. إنها محاولة لاعادة ترميم أو فحص فسيفساء صورة اليهودي في مصر، الخارجية والداخلية. فضلًا عن إعادة ترميم صورته الشخصية، بحثًا عن الالتئام.

يكتب حسون في نصه "تستند السمات المميزة لليهودي المصري، الذي ينتمي للأغلبية، إلى العناصر الثلاثة الآتية: استعمال اللغة العربية (إلى جانب لغات أخرى)ـ والتمسك بنمط الحياة التقليدية، والاعتراف بتشكيل ثنائية اليهودي – المصري، الذي لا يمكن أن يخفت أحد أطراف هذه الثنائية دون نزع الصلاحية للطرف الآخر".(14)

يهتم حسون دائمًا باللغة كمكون للشخصية؛ إذ كان يعمل في باريس مساعدًا للمحلل النفسي الشهير جاك لاكان، الذي طور نظرية فرويد عن اللاشعور، وأضاف لها أن اللاشعور أو اللاوعي عبارة عن بنية لغوية، أو أن اللاوعي يتخذ شكل اللغة فيتشكل كما تتشكل، لأنها مرآة اللاوعي. وهذا يوضح مكانة اللغة في بناء اللاشعور بالنسبة لصورة اليهودي المصري.

ربما كان حسون يبحث من خلال كتبه ونصه " أحداث الحياة اليومية" عن الشفاء من تعدد الهويات، أو التصالح فيما بينها، وربما كان يعالج نفسه بنفسه، إلى جانب توثيقه لتاريخ يهود مصر.

قراءة النص؛ هذا المنهج الصلب الذي لا يخالطه أي حنين، يكشف عن صرامة منهجية لا تسمح بأي تعاطف أو شفقة على الذات أو محاولة استرجاع، فالمشاهد مغروسة داخل حياة ومقتطعة منها متتبعة آثار الانقسام والاندماج والتمازج  والتجاذب بين أكثر من هوية. وهناك أيضًا طاقة الحب.

"وقد يشير هذا الحب والحنين لدى بعض المنفيين نحو تلك التقاليد، واللغة العربية، والأرض المصرية، والأشكال المألوفة، والطعام، أي استمرار وجود نقاط مرجعية لهويتهم".(14)

هناك حضور شبحي للمؤلف داخل نص "أحداث الحياة اليومية"، بجانب دقة التفاصيل، أحيانًا أراه في صورة الطفل الذي يتسلل بين الأرجل ليلة السبت، أو صورة الابن العاق "الذي لا يذهب لصلاة المساء مع العائلة، ويظل مكانه شاغرًا ويتابع الحاضرون مشهد هذه العائلة الناقصة بنظرات مليئة بالأسى".(15)

ربما هذا الابن العاق هو الذي سيعيدـ فيما بعد، التوافق بين الصور المختلفة لهويته.


(1) تاريخ يهود النيل – تحرير جاك حسون- ترجمة يوسف درويش – دار الشروق 2007.  ص 22

(2) شتات اليهود المصريين – جوئيل بنين- ترجمة د. محمد شكر- دار الشروق- 2007 .ص 271 - 272

(3) المرجع السابق- ص 274

(4) المرجع السابق- ص 468

(5) تاريخ يهود النيل- ص 209 

(6) شتات اليهود المصريين- ص 377

(7) يهود مصر– التاريخ السياسي-  زبيدة محمد عطا- عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية – 2010.

(8) شتات يهود مصر - ص 468.

(9) المرجع السابق - ص468.

(10) تاريخ يهود النيل- ص 189.

(11) شتات يهود  مصر- ص 334. 

(12)تاريخ يهود النيل -ص 134

(13) المرجع السابق - ص 133.

(14) المرجع السابق – ص 194

(15) المرجع السابق – ص 180