"لقد مسه سحر الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة - لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها- تبقى مؤرقة كالضمير".
أروى صالح – المبتسرون.
من الجمل المفتاحية التي انتشرت بقوة بعد ثورة 25 يناير، بين جيل لم يعاصر صاحبة الجملة، التي أصبحت هي وكتابها "المبتسرون" وتجربتها السياسية جزءًا، وأحيانًا نموذجًا، من مخيلة ذلك الجيل، على الرغم من الفارق الزمني، والجوهري، بين التجربتين. ربما الجيل الحديث كان يبحث عن مواساة تاريخية يبرر بها ضياع حلمه في ثورة يناير، أو كان يتنبأ به.
تأتي جملة أروى صالح، لتعبر عن فهمها الشعري للحالم وللحلم الثوري، كأنه خطيئة جميلة، وخاصة عندما تمس عصا الحلم جسد ذلك الحالم. ربما ترى أروى الحلم كخطيئة لأنها تنظر للحياة من جانب الذنب. ولكي تستأصل الجوهر الديني للذنب، تصفه بالجمال. رغم ذلك، تظل هناك أصداء دينية تؤثر على فهمها للثورة والحلم.
كان الموت هو الوسيط بين الثائر والحلم، في غياب الشعب أو الذاكرة الجمعية بمعناها الواسع والعميق
رجوع الجزء إلى الكل
ربما أيضًا كانت "لحظة الحرية" التي تعنيها أروى، حتى بدون واقعة محددة تجسدها، ليست الحرية بالمعنى السياسي الجذري، ولكن بمعنى رجوع الجزء إلى الكل، الفرد إلى الجماعة.
داخل ذلك "الكل" ولدت "لحظة الحرية"، عندما يشعر الفرد بالذوبان وبنسيان نفسه، كأنه على الدوام يسير في مظاهرة تلغي الاسم والعائلة والجذور، وتمنحه ذاتًا جديدة، تطفو فوق نقائضها وآلامها، وتتصالح داخل الذاكرة الجمعية، بعد طول عداء.
ربما كانت تلك الذاكرة الجمعية بالنسبة لها تتلخص في بعض مئات من المعتصمين، وأصحاب الكعكة الحجرية وانتفاضة الخبز. وأيضًا أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم التي شكلت ذاكرة جمعية بديلة. وكانت مثل اتصال يتم تحت الأنقاض بين الحالمين والشعب حيث يولد الحلم كمستحيل. ولكن استحالته تمنحه جمالًا ورغبة في تحقيقه حتى بالموت. كان الموت هو الوسيط بين الثائر والحلم، في غياب الشعب أو الذاكرة الجمعية بمعناها الواسع والعميق.
لحظات الطفو لجيل يناير
لم يكن هناك تنظيم معين، أو مرجع سياسي واضح، كوّن جيل ثورة يناير، سوى شبح الجماعة الطبقية الصغيرة. على الرغم من أن لحظات الطفو فوق الذات وسط الحشود كانت تفوق التخيل، فإنه لم يحدث اتصال طويل الأمد مع تلك الذاكرة الجمعية التي كونتها الحشود.
كان "الحلم" يتجسد ويتراءى عبر حقيقة حضور هذه الملايين في الشوارع. لذا لم يكن حلمًا بالمعنى المستحيل، ربما انكساره فيما بعد، جعله حلمًا وسمح بالمقارنة بين جيلين، برغم اختلاف الواقعتين تمامًا.
كان نموذج أروى هو القريب للتعبير عن انكسار الحلم الجديد، على الرغم من أنه كان محذوفًا من نبوءتها للمستقبل، وكان ضمن فترات الليل البرجوازي "الحركة الطلابية لحظة أشرقت في زمن البرجوازية قبل ما يحل ظلامها العميق". ربما أيضًا لم تكن تلك الملايين التي تملأ الشوارع تمثل ذاكرة جماعية لأعضاء الثورة، فلم تمسهم عصا الحلم عبر اتصال الفرد مع الذاكرة، فآثر أن يستلم نموذجًا جاهزًا لانكسار الحلم، وليس لحياته.
ضمير طبقي
يقف خلف حلم أروى صالح، بجانب الجماعة البرجوازية الصغيرة التي تنتمي إليها، صدى بعيد لنسخة عاطفية من حشود الفترة الناصرية: جنازات عبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم. فحلمها لم يكن مفصولًا عن تلك الحشود التائهة والحزينة، فهناك صيغة لـ"نحن" كبيرة تتخلل كلامها. فالذاكرة الجمعية السابقة هي التي أيقظت ذلك الحلم، وغذت لحظة الحرية التي جاءت بأثر رجعي. ربما كان حلمها بعثًا لحلم قديم.
أما الذاكرة الجمعية في ثورة يناير فلم تكن صدى لأي ذاكرة أخرى، كانت حاضرة بشحمها ولحمها. لذا كان هناك تمثيل خاطئ من الجيل الجديد بتبنيه ذلك المرجع، أو ربما لم يكن هناك مرجع سواه يؤبِّن تلك اللحظة المقدسة، لتبدِّي الذاكرة الجمعية فجأة من الظلام.
فالحلم كان يعيش داخل تلك الذاكرة، ليصبح مع الوقت "الضمير" كما تصف أروى، فالضمير ليس إنتاجًا فرديًا. لذا الضمير الجديد الذي تبلور من ذلك الحلم، كان ضميرًا طبقيًا وليس جمعيًا.
كانت أروى تتحدث في كتابها عن حلم جماعة سياسية مغلقة، تُدار داخلها الحياة مفصولة تمامًا عن المجتمع المعادي لها، فتبني الجيل الجديد لذلك "الحلم" القديم، به أنانية، كونه يريد أن يستأثر به ولا يشاركه مع أصحاب الذاكرة الجمعية الحقيقيين الذين شاركوه "لحظة الحرية".
لماذا استصغر الجيل الجديد الحلم؟
يبقى السؤال لماذا استصغر الجيل الجديد "الحلم" الذي عاشوه، على الرغم من حقيقية حضور الذاكرة الجمعية بكامل قوتها داخل الحشود التي ملأت الشوارع؟ لماذا قارن حلمه بآخر مختلف. هل الحلم فكرة باطنية يسلمها جيل لآخر؟ أم لحظة يحدث فيها انفلات في الزمن والنظام، لا تُستوعب في لحظتها، فتُرد إلى الحلم، الذي يعتبر معجزة لايمكن التنبؤ بها. ربما لأن زمن المعجزة ضنين حدثت المقارنة المتعسفة بين التجربتين المختلفتين.
ربما السبب أيضًا، دخول الجيل الجديد السياسة دون مرجع جمعي، وبدون روابط فكرية فيما بينه سوى رفض نظام مبارك، وسط لحظة منفصلة تمامًا عن سابقتها، لذا كان الوقع سريعًا في تمثيل جماعة غير الجماعة التي تراها أمامها في الشارع لأنها لا تعرفها.
يبدو أن الأحلام لا تصيب إلا الجماعات الصغيرة، فالحلم يكبرها ويحملها لمكان آخر خارج واقعها فقير الخيال
ربما أيضًا هناك جاذبية في نموذج "أروى صالح" كونها امرأة، وأيضًا ذلك البعد المأساوي الذي تشغله في الذاكرة الجمعية بانتحارها، وتجربتها في السقوط والتطهر اللتين تتمان من خلال نموذجها الصفري الذي خاض التجربة نقيًا حتى الموت. فالأسطورة توقفت واكتملت عند الموت، لذا كان تمثلها، وتمثل حلمها به، تطهر لذلك الجيل الجديد، الذي يريد أن يطير بعيدًا بتلك التجربة دون مسؤولية، كون الموت جوهر هذا الحلم.
الحلم قاتل
ربما كان الحلم قاتلًا، لذا كانت صياغته وتجسيده قاتلين أيضًا، خصوصًا لجيل أروى الذي كون تنظيماته دون أي مرجع شعبي له. هو ليس جيل الطلبة والعمال في 1946، ولا حتى جيل 1967 الذي تقاسم مع الشعب مرارة هزيمة جعلت من الشعب مرجعًا هامًا له. جيلها حلم بمفرده، منفصلًا عن العائلة دون تمرد، لذا تحرك داخل جيتوهات، ينتج فيها أفكاره وأسماءه السرية والحركية وكأنه تنظيم سيغير العالم.
غلب مفهوم الشفرة السرية، والأسماء الحركية، التي زادت من الحواجز بينهم وبين الحياة، حتى تحولوا مع الوقت إلى أشباح مرمزة، منفصلة عن أي مرجع أو ذاكرة جمعية، بالمعنى غير المسيس. أخذوا يرصدون أخطاء بعضهم البعض، ينبحون بقوة، ويحاسبون بقوة، وبعنف أحيانًا. يبدو أن الأحلام لا تصيب إلا الجماعات الصغيرة، فالحلم يكبرها ويحملها لمكان آخر خارج واقعها فقير الخيال.
مصادر غير يسارية للحب الحر
ربما أخطر ما فرضه ذلك الجيل اليساري، لا يخص السياسة والجماهير، بل ما يخص الفرد وحريته الشخصية، مايسمى بـ"الحب الحر" الذي تعرِّفه أروى في كتابها "الحب الحر الذي لا يحتاج أموالًا لممارسته ولا مسؤوليات من أي نوع، حب على المسؤولية الشخصية علاقتك الحرة مع الآخر لتحققا سوية وحدة غير قابلة للانفصام".
ربما لم يختلف "الحب الحر" في الجيل الجديد، ولكن أصبحت له مصادر غير يسارية. ربما ارتبط أكثر بذات غير مسؤولة تبحث عن الخلاص في الآخر وليس بناء وحدة معه. يجمعهما الخوف من المستقبل وليس تغييره.
ربما يقف وراء علاقات "الحب الحر" الحديثة، نفس الضمير الشبحي المفصول عن الذاكرة الجمعية. فهذه العلاقات تفتت هذه الذاكرة، ومعها تزوي مناطق الرغبة في تطوير الحياة وتحريرها من السلطة، والاستسلام للرغبة كسلعة رأسمالية لا حدود لتنامي جاذبيتها، حتى تصبح الرغبة هي الهدف وليس التحرر من السلطة.
المستقبل خارج الجيتو
هذا الجيتو الذي تهجوه أروى طوال صفحات الكتاب، كانت واحدة منه. وأخلاقه التي فرضها على مريديه كانت تشكل في مجملها أساسات "لحظة الحرية" التي كانت تتحدث عنها. ربما كانت تهجو ما آمنت به، ولم تجد بديلًا عنه لأنه شكّل وصاغ علاقتها بالمستقبل. لذا تحول مستقبلها خارج ذلك الجيتو إلى جحيم بالفعل، مأساة، سجن، بالمقارنة بالحرية المستحيلة سريعة الذوبان في "لحظة". فكان الموت هو الوسيط الذي يطابق بين حلمها والمستقبل، ويصالح بين ذاكرتي الفرد والجماعة.
هل كانت "لحظة حرية" بالمعنى الكوني الواسع، أم لحظة حرية مسورة بحلم طبقي. ربما في ثورة يناير أعاد المنتمين لتلك الثورة هذا الحلم الطبقي والذاكرة النخبوية، لأن توحيد أحلامهم بالناس بالمعني الواسع، يحتاج لعلاقة سابقة/حاضرة مع الوجدان الجمعي، كما حدث في ثورة 1919، وهو مالم يتوفر.
هذا الوعي الطبقي الذي شكل جيليّ الحركة الطلابية ويناير، يمثل درجة السلم التي توقفت عندها كل التحولات الكبرى. مهم أن يتوفر وعي إنساني لأصحاب الأحلام الكبيرة، يتجاوز الطبقة الاجتماعية ويتجاوز أنفسهم، وفرديتهم، وهنا يتكون الحلم الحقيقي ولحظة الحرية.