
حسن مفتاح.. بورتريه للشيوعي
لو أن هناك شخصية شاركت في تكوين هوايَ اليساري في مرحلة المراهقة لكانت حسن مفتاح، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري في العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح، الرواية الوحيدة والاستثنائية للكاتب والناقد لويس عوض.
كتب عوض هذه الرواية في سنوات الغليان ما بعد الحرب العالمية الثانية، وثورة 1952، مع صعود نجم الجماعات الشيوعية في مصر. ويعتبر هذه الرواية "رسالة رمزية ضد العنف"، ففي "تلك الفترة كثرت الدماء والموت، منها اغتيالات سياسية كقتل أمين عثمان، وقنابل الإخوان المبثوثة في الوادي، والشيوعيون واستخدامهم للعنف وحرب الطبقات".(*)
كما أن هناك سببًا شخصيًا دعاه لكتابتها، وربما هو الأهم؛ الأزمة النفسية التي مر بها إثر انتحار صديقه.
يا شيوعي
كان لي صديق من أبناء الحي توقفت علاقتنا عند مرحلة الجامعة، كان يناديني وسط شلة الأصدقاء "يا شيوعي"، كنوع من الهزار والسخرية واللوم أيضًا. كان وسيمًا توقف تعليمه عند الثانوية العامة وترك الشهادات وتفرغ لمشروع تنمية حياته بالتجارب وعلاقات الحب وأيضًا بالعمل في السوق. كنت أتفهم تسميته الساخرة ولا أضيق بها، بل كنت فَرِحًا، لأصدَّ هذا الموج الجارف من المواهب والوسامة والفتيات اللاتي كن يتهافتن عليه.
كان يستخدم وسامته قناعًا، وكنت أستخدم هوايَ اليساري الذي ألبسني إياه لأدافع عن نفسي أمام استحقاقات الحياة، ولكن في النهاية كانت هناك نقطة تلاقٍ ومحبة بيننا، هي رومانسيتنا المزدوجة، حبه لـ أطلال أم كلثوم، وحبي لـ موعود عبد الحليم.
التأرجح العاطفي
كنت قريبًا من هذه الروح الرقيقة والوديعة والقلقة التي يحملها حسن مفتاح "يحب تانجو شوبان الذي يدفع الدمع إلى عينيه"، وفي الوقت نفسه قسوته في تجهيزه لقوائم الإعدامات، وأعداد المشانق التي ستحرث رؤوس الباشوات وتقلب نظام الحكم. بجانب تبنيه ليأس الجامعة بن داود القدري "الكل باطل". أيضًا هناك ملمح شكلي كان له دور؛ لحيته الخفيفة التي كانت تتردد على وجهي في مرحلة المراهقة كلما اشتدت الأزمة النفسية، فأبحث لها عن شكلٍ تتبدى فيه.
كان حسن مفتاح يؤمن بالاستحالات التي بدورها تولد في شخصيته التناقضات، بين وجوده الإنساني المحدود وأحلامه اللامحدودة، ليصل بالأشياء إلى الحافة دائمًا، وهي الحافة التي كنا ننظر إليها كمراهقين آنذاك بحب وانجذاب شديدين، وأحيانًا بدونية مُرَّة.
هناك تأرجحه العاطفي بين عايدة علم، المُدرسة التقليدية ابنة الطبقة المتوسطة وزميلته في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري، ومونا ربيع الأرستقراطية المثقفة التي تحب الفن التشكيلي وتزور معارضه والمتزوجة بدون حب من عبد السلام بك ربيع، صاحب الكرايسلر السوداء، ولها ابنة منه.
يعدد حسن على لسان الراوي مآخذه على عايدة علم؛ "عايدة علم لا تتحدى التقاليد، ولو حدث هذا لنمت في قلب حسن مفتاح الثورة الكبرى". و"كان يشك في صلابتها، كانت نموذجًا أليمًا للتوسط المرذول، كما كانت نموذجًا جميلًا للتوسط المحبوب". و"كان جمالها عاديًا ومكررًا، وهو يحب الجمال الوحشي الذي لا يتكرر".
يمثل حسن مفتاح نموذج الثوري الذي يحب التوحش والبداوة، والبرِّية، وكل ما هو غير منتظم في شكل وسلوك محدد، كالطبيعة الهوجاء وتقلباتها، فهو ابن هذه الطبيعة البكر، بكل تناقضاتها. ولكنه يعود مرة أخرى وينظر لعايدة التي لن يتزوجها، بل ستتزوج زميلًا لها؛ "برغم هذا إلا أنه كان راضيًا بنصيبه، فقد كان يعلم أن مقامه بين الرجال لا يزيد عن مقام عايدة بين النساء". ثم يستدرك ضعفه الطبقي "حسن مفتاح وعايدة علم ، كلا: إن هذين الاسمين لم يردا في كتاب القدر".
مقام حسن مفتاح
أتوقف عند مقام حسن مفتاح بين الرجال، الذي تشي جملته على لسان الراوي بإحساس دوني، فهو شيوعي تجاوز الثلاثين بقليل، له أصول ريفية من قرية دماريس المنيا. "قصير، أسمر، نحيل، خشن الملامح، عيناه حادتان يخرج منهما بريق نفاذ، لا يزينه إلا شعر ناعم مرسل بلون الزيتون الأسود، وله صوت صاف". بجانب مؤهلاته النضالية، وحبه للناس، ودخوله المعتقل مرة واحدة.
ليست هناك مميزات أو وسامة جسدية، ولكن ما يصنع كاريزمته هذه الهالة المقدسة من التناقضات التي تزين شخصيته. وربما هناك تعمد من الروائي أن يتجاوز بهذا العادي والمحدود جاذبية غير العادي واللامحدود.
هناك علامات أخرى لهذا المقام؛ "لم يخلق ليشتري الكرنب أو ينجب عادلًا وكاملًا وسعيدًا". و"فالزواج عندهم (الشيوعيون) بدون عقد ولكن بكلمة شرف، وتحدي الدولة بأولاد حتى تقرر الزواج المدني". هكذا كان يحلم حسن مفتاح.
أيضًا يحب البصل كمزَّة مع البراندي وشرائح الجبن الرومي. بجانب الشره كأنه يعب الحياة مرة واحدة في فمه؛ "يشرب القهوة بشراهة والشاي بشراهة والسجائر بشراهة". ويحب زجاجات البيرة الساقعة مع سندوتشات الأنشوجة التي تعدها له مدام ماريكا صاحبة البنسيون الذي يقيم فيه في القاهرة.
أنا أيضًا قلت عندما تعلقت بزميلة لي في الكلية بدون أمل: الحب سجن
إقامته في بنسيون تتفق مع طبعه البري غير القابل للتدجين، فالبنسيون ليس بيتًا مستقرًا، هو بيت مؤقت، نقطة عبور وانتقال في المكان والزمان، لا توفر الأمان ولكن تُنقِّي العزلة وتسحب منها سموم المِلكية والزواج والبيت والأولاد.
لم يُخلق حسن للمهام الصغرى في الحياة، إنما "لجلائل الأمور"، طالما هناك وعد بالثورة وتغيير العالم. وفي فترات غياب هذا الحلم، وجلائل الأمور، تطفو هذه الأحلام الراكدة لتأكل روحه.
خارج أبطال الرواية، لاحظت أن نسبةً غير قليلة ممن رأيتهم من المنتمين لهذا التيار، في محيطي الثقافي، إما لم يتزوجوا أو تعثرت زيجاتهم.
الحب مرض
ربما حب مونا بالرغم من عدم توحش جمالها، كما يتمنى من الأنثى، لكونها تنتمي للطبقة الأرستقراطية وهذا جزء من كفاحها، ولأنها تحبه، نزولًا عن طبقتها، فحبه لها وحبها له يتمان خارج إطار المجتمع الذي يضعه ويضعها في تحدٍ مباشر مع التقاليد، ومع الجزء التقليدي داخل كل منهما.
"في مونا ربيع يلتقي الحب بالكفاح". ولكنه كشيوعي أصيل "يشعر بخيانة من حبه لمونا لأنه ضد التزامه الأخلاقي، وحبه لها خيانة لمبادئه"، يقول "الحب مرض".
أنا أيضًا قلت شيئًا شبيهًا عندما تعلقت بزميلة لي في الكلية بدون أمل: الحب سجن.
ولكن ربما هناك طهرانية في حبه لمونا، عندما يضعها في مكان الكل وهو الجزء، والجزء يعود إلى الكل ذائبًا، أو طفلًا.
الصوت النبوي
برغم ثوريته فإنه طوال الرواية وحيد، لا يربطه بالجماهير سوى أعضاء اللجنة المركزية، ومنضدة معزولة في مقهى إيزافيتش، الخادم ندي، وحارس العقار حيث اجتماعات الحزب و"نادي البعث".
خارج هذا تشعر بوحدته، بضعفه "إنه ضعيف أمام الليل"، أو أحد أشباحه.
ربما للحيته دلالة أخرى رمزية، كأنها تجسد هذه العزلة والوحدة، فهي تخفي هذا الجزء المكشوف من الوجه، تجعل الشخصية في مأمن أو وحدة داخلية، غير مرئية، أو شبحية، كعزلة الرهبان.
بجانب إحساسه الدائم بأنه مطارد من البوليس السياسي، عمَّق من هذا الجانب الشبحي/الليلي في شخصيته.
تشغل مونولوجاته أجزاءً طويلة من الرواية، تسمع صوت المناضل الذي ما زالت أحلامه طازجة وأعلى من صوت واقعه.
هذا الصوت النبوي الصافي الذي يناجي به نفسه والآخرين، المتسامي فوق الفرد والأنانية، والذي يدعو لنبذ الخلافات بين الخلايا الحزبية حتى الوصول إلى "ساعة القدر" أو لحظة التغيير التي كانوا يعتقدون أنها أصبحت قريبة جدًا.
عاطفة الحب
كان حسن في صراع دائم مع عاطفة الحب، باعتبارها عاطفة شخصية، أو أنانية، في نظره؛ "خلوه المطلق من كل عاطفة شخصية"، هكذا يصفه الراوي العليم. كان يريد أن يكسر هذا الشكل من الحب التقليدي للذات، أو للآخر، ويوسع من دائرة قلبه حتى لا يسجنه في حب وحيد وإنما يهبه للناس جميعًا. أغلب أعضاء اللجنة المركزية رجالًا ونساء عندهم القدرة نفسها "على البصق على قلوبهم، والتخلي عن حبهم، لأنه لا يناسبهم، ولا يناسب أفكارهم حول المادة الجدلية".
هناك سمة قديمة تجمعني بحسن مفتاح فكلما سار في الشوارع بعد إنجاز أحد جلائل الأمور، مسَّ أعمدة النور
في سنواتي الجامعية كنت أسيرًا لتطرف العاطفة الشخصية التي شكلت سجنًا، وأتمنى حيازة هذا الجانب القاسي من حسن مفتاح بأن أدوس على قلبي، ولكن أين الناس الذين أهب لهم سجني الفارغ؟
ولكن حسن مفتاح سرعان ما يتراجع أمام تصريحه، بينما أنا لم أتراجع آنذاك، يعود ليناقض هذا المسعى لحياة قلبه "ولكنه يعلم أن الخلو من كل عاطفة شخصية سوف يفتت في قلبه معنى الحياة لو استطال".
أوديب وحسن مفتاح
"الزعيم يشكو من مركب أوديب" هكذا وُصِف مفتاح، عندما يصرح لمونا ربيع حبيبته "بأنه الطفل وهي الأم، والجزء لا بد وأن يعود للكل"، وهو يستكمل هنا الوجه الآخر للنظرية الأوديبية/الفرويدية القائلة بأن الابن يحب الأم ردًا على إخصاء الأب/السلطة له/للجماعة/للمجتمع، الذين يتبادلون رمزية الأب وسلطته.
ولكن حسن مفتاح يستسلم أخيرًا لبديهية أن المجتمع أسبق من الفرد، وهو الذي يمنحه فردانيته، مما يعني استمرار التناقض الحيوي بين الفرد والجماعة. ولكن يظل هناك دور آخر سلطوي للأم لم يكشف عنه.
عندما أتى للإسكندرية هربًا من روح صديقه المنتحر حديثًا فؤاد منقريوس، جلس على الصخرة داخل البحر، واتحد بالطبيعة، بينما المطر يهطل، عندها "تخلل ماء السماء شعره"، وبدأ الاتصال بين الأرض والسماء، وشاهد هذا الاتصال هو الثوري ابن البروليتاريا، الذي يملك هذا الجانب الكوني في شخصيته.
"وتجمهرت الطبيعة البكر في وجدانه فأخذه الوجد، واتحد بالوجود".
هذا الإحساس الكلي المنسجم مع الوجود والطبيعة، والذوبان فيه بدون حدود تفصل بينهما، يعود إلى الطبيعة كأم، كما يعود إلى حبيبته مونا، كعودة الجزء إلى الكل، ويحدث المزج بين المجتمع والطبيعة، وهو الموج الذي ربما يحل التناقض الحيوي بين الفرد والجماعة.
"لقد انغمس في تيار الحياة وصار إلى قطرة في ذلك التيار تدفع غيرها من القطرات وتدفعها غيرها من القطرات، قطرة لا تحس بنفسها ولا يحس بها أحد".
من الطفولة
كانت هناك سمة قديمة تعود للطفولة تجمعني بحسن مفتاح، عندما كان يسير منتشيًا في الشوارع بعد إنجازه لأحد جلائل الأمور، كان يمس أعمدة النور في طريقه. أنا أيضًا كنت في طريقي من المدرسة للبيت، منتشيًا بالعودة، وحتى الآن، ألمس بأطراف أصابعي أعمدة الإنارة وجذوع أشجار الفيكس والبونسيانا التي تقع في طريقي.
بعد أحد الاجتماعات مع اللجنة المركزية التي أقنع أعضاءها بضرورة الاندماج بين خلايا الحزب السرية، انصرف من مكان الاجتماع "وقد اشتعل خداه آن بفعل الخمر وآن بفرحة الطفل، مشى إلى مأواه يصفر نشيد الانتصار آنًا ويغنيه آنًا آخر، ويمس أعمدة النور في حماسة صبيانية كانت تنتابه كلما اجتمعت حوله جلائل الأمور".
(*) الاقتباسات الواردة في هذا المقال من رواية العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح، لويس عوض، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1966
سمية رمضان.. رحلة "كيمي" عبر الأزمنة
9-11-2024

رقة الموت في "السقا مات"
28-9-2024

التماس بين الكائن الذي لا تُحتمل خفته.. والمبتسرون
5-8-2023

حلم أروى صالح الذي لا أفق له
18-3-2023

أن نرى أنفسنا في المكان الصحيح من الحياة
15-2-2025

مائة عام من العزلة على نتفليكس.. الشاشة تمتحن هيبة أشباح ماكوندو
30-1-2025
