الجغرافيا الشعرية في "تراتيل متوسطية"
في زيارتي الأولى لأبوظبي بمناسبة معرضها للكتاب في منتصف التسعينيات، كنت سهرانًا مع شلة من الكتَّاب من جنسيات عربية مختلفة، ننظر من وراء زجاج بيت مضيفنا في الطابق العشرين على الليل الخارجي. صرحت أمامهم بافتقادي لبحر الإسكندرية، وشرح بدلًا مني الصمت الذي عقد لساني ومشاعري لشهر كامل؛ أتحرك وأتناقش بأقل الاستجابات وأقل الكلام، فكان الصمت ودرجة الحرارة غلافان يُدخلاني سريعًا للقوقعة.
أشار لي أحد الشعراء الإماراتيين، الذي لاحظت فيه اعتزازًا جارحًا بجنسيته، وسط الليل الخارجي إلى أن هناك بحرًا آخرَ نُطل عليه، تنعكس عليه إضاءات الشارع الخافتة. استغربت ملاحظته، فالمشهد كان بالنسبة لي كالطبيعة الصامتة. سألته أين؟ فشعر بأنها إهانة لبحر مدينته، بل إهانة شخصية له، وأخذ يتندر عليَّ وعلى شوفينيتي طوال فترة إقامتي. ولكني بصدق لم أرَ هذا البحر، فقط شريطًا ضيقًا من المياه.
تدخل صديق آخر مصري ليشرح له سبب عماي المؤقت؛ هناك فارقًا كبيرًا في الحجم والصوت والرائحة بين بحر الإسكندرية وبحر أبو ظبي.
هذه المفارقة سبَّبت سوء فهم متبادلًا بيننا، امتد لنقاشات أخرى كانت تقاس فيها حدود الجنسية، بمثل هذه الملاحظات الساقطة عفوًا من كلامنا.
معجزة رؤية البحر
صديقٌ من محافظة قريبة، ليس بها بحر ولكن نيل يعبر في مسارات ضيقة، حكى لي عن ذكرى المرة الأولى التي جاء فيها للإسكندرية، بينما العربة تصعد منحدرًا يخفي ما وراءه حتى وصلت إلى قمته؛ ففاجأه البحر، وأخذه على حين غرة، وعقد لسانه.
كان يملأ أثناء حكايته فمه بالهواء ويضخم صوته ليعبر لي عن أثر رؤيته للبحر، وكيف خرجت صرخةٌ من فمه المعقود تتخلها كلمة واحدة متقطعة: البحر. لم يستطع إلا أن يناديه باسمه. كان مشدوهًا من هذا المساحة الهائلة، التي لا تكشف عن شاطئها الآخر وكأنها ابتلعته داخلها، كانت إحدى معجزاته القليلة في سنه المبكرة.
هذه المعجزة جزء من طفولتي أيضًا، أو طفولة كل من عاش بجواره، أو أمامه، ولكن ذاب سحرها داخل حياته. أيضًا كان البكاء هو التعبير عن هذه الرهبة لرؤية البحر لمن لم يرَ غير اليابسة. بكاء لا يصدر عن حزن ولا فرح، بل عن مشاعر تفوق طاقة الجسد على تمريرها دون علامة.
يقول الجغرافي والكاتب الكرواتي بريدراك ماتفجيتش في كتابه "تراتيل متوسطية"، الشديد المتعة وشديد الموضوعية في آن، أن "الإحساس بالإعجاب أو الخوف الذي يثيره البحر المتوسط لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، لقد وصف أحد جنود الإغريق في اكتشافاتهم مع البحر بعد طول ترحال في اليابسة: البحر! البحر! طارت هذه الكلمات من فم لآخر، أسرع الجميع نحوه وشرعوا في تقبيل بعضهم بعضًا يبكون".
هذا الجَيَشَان الشعوري الخالي من الحزن، لا تسببه إلا أشياء لها علاقة قوية بوجودنا، وماضينا، ولها رصيد في تكوين مخيلاتنا، والضغط على أعصابنا واستنزاف تلك المشاعر القديمة، التي صارت عادية من تكرار رؤيتها، ولكنها تظل تحتفظ بقوة تأثيرها القديم.
يكتب "يعتقد كل واحد، على الأقل في المتوسط أن لديه شيئًا يقوله عن البحر، ومظاهره، شيئًا ذا أهمية حقيقية".
الواقع يتكلم
جذبني اسم الكتاب، كأنه كتاب صلاة جماعية، تسمع أثناء قراءته صوت الإنشاد الجماعي الذي تقف وراءه شعوب المتوسط تقرأ هذه المعلومات الدقيقة التي تلخص حياتها، وتجسد مخيلتها، لتؤدي بشكل منتظم أورادها اليومية، كل في مكانه، على إيقاع أمواج المتوسط/المركز الذي يلتفون حوله.
نوع جديد من الكتابة الجغرافية تتحدى الأجناس الأدبية، وتجمع بين علم البحر والاقتصاد والأدب، كما يشير الكاتب الإيطالي كلاوديو ماجريس في مقدمته للكتاب "المتوسط الذي يشير إليه الكاتب ليس الفضاء التاريخي الثقافي كما عند فرناند بروديل، ولا الفضاء الصوفي الغنائي كما عند أندريه جيد، أو ألبيركامو، بل فضاء ينهل من الواقعي. ويتمهل عند كل الأشياء الملموسة، التي يجب أن تُحكى حتى تستوعب، روائح الحبال على الأرصفة، الزبد، أنواع الشباك، أشكال وردة الرياح، مزادات السمك، الأسواق، معجم الشتائم المتوسطية" حتى يجعل هذا الواقع بدوره يتكلم.
البحر المتوسط عند بريدراك مرن مفتوح على الجميع، وليس منحازًا لأحد
يصرح الكاتب الإيطالي بأن بريدراك حوَّل كل مفردات البحر إلى لغة، بعثوره على نبرة جديدة يقرأ من خلالها التاريخ الذي لم يعد هو الأحداث الكبرى المتعاقبة، بل الواقع الذي يتضمن كل شي، حيث تغوص الثقافة والتاريخ في الأشياء. ويضيف أن بريدراك اكتشف في هذا الكتاب "الطريقة غير القابلة للتحديد، التي تتمدد فيها الطبيعة خلسة في التاريخ وفي الفن". ومن خلال هذه الطريقة استعاد وأحيا بريدراك أشكال السواحل المتوسطية القديمة كأنها تعيش في الحاضر، سواء كان معمارها، أو هجرات طيورها، أو دياناتها وأساطيرها البحرية، أو لغات ورطانات شعوبها التي تتغير باستمرار.
والذي يشير إليه
محاولًا أن يحدد موقعه ضمن الخريطة الجديدة لكتابات ما بعد الحداثة، يصف الشاعر والأديب الفرنسي روبير بيرشون هذا الكتاب في مقال قديم عنه، بأنه كالمعجم، أو القاموس، أو الموسوعة، الذي يقع في المسافة الحرة بين الخطاب الأكاديمي والخطاب الشعري "الكتاب الملهم الذي يخلط بين الأجناس والمعرفة والمتخيل، وثائق الأرشيف والذكريات الشخصية، الصرامة والعجائبية، الظاهراتية وفقه اللغة، الخرائط والأساطير، (...) إنه لوحة للمتوسط، وفي الوقت ذاته تطواف".
بريدراك نفسه أوحى بهذه التسمية في مقاله المنشور عام 1987 ويشير إليه كلاوديو ماجريس في مقدمته؛ وهو يتحدث عن طموحه في كتابة فن المقال، وعن ما سمَّاه "الجغرافية الشعرية"، التي توفق بين الموضوعية والشعرية في التناول، كما يذكر روبير برشون.
متوسط بروديل
هناك كتاب رائد في هذه النظرة الجديدة للتاريخ والجغرافيا معًا، ألَّفه الفرنسي فردناند بروديل عن البحر المتوسط، هو المتوسط والعالم المتوسطي، وربما هو الكتاب الأم في هذا النوع من الكتابات الحديثة. فهو أول من جمع مختَلف علوم الإنسان بمناهجها وأدواتها في مقاربة واحدة شاملة. فيه تخطى بروديل التاريخ، ليصبح جغرافيًّا اجتماعيًّا واقتصاديًّا في الوقت نفسه. اهتم في فلسفته التاريخية بالتواريخ الصغيرة/micro، أو بمعنى آخر الأحداث، ليعيد رسم النسيج الفسيفسائي من العلاقات التي تجمع الزمان إلى المكان إلى التاريخ لهذا المتوسط.
السمة الأساسية لهذه الفلسفة هو التخلي عن الافتراض القائم في مثل هذه الدراسات التي تقطع مع الماضي الذي كان يصبو إلى بعثه، متتبعًا كل الأحداث الصغيرة التي تؤرخ للمتوسط أيًا كان زمنها ومكانها مستبدلًا الحدث بالتاريخ، ما سيظهر عند بريدراك، في "تراتيل متوسطية" بقوة.
المتوسط ليس منحازًا
المتوسط عند بريدراك مرن مفتوح على الجميع، وليس منحازًا لأحد، وبالتالي ليس أوربيًا كاملًا رغم أنه السبب في وجود أوروبا "لا يتحمل المتوسط القياسات الضيقة، خيانة أن يعتبر وفق التمركز الأوربي نتاجًا لاتينيًا خالصًا، أو رومانيًا، أو ملاحقته من وجهة نظر إغريقية أو عروبية أو صهيونية، أو يُحكم عليه انطلاقًا من هذه الخصوصية أو تلك، المتوسط أكبر من انتماء بسيط".
يرى المتوسط كعقيدة مفتوحة على الجميع، لا تورّث، فهي ليست تركة بل ممارسة وانفتاحًا على الآخر "من الممكن أن تصير متوسطيًا بغض النظر عن المكان الذي ولدت أو عشت فيه، المتوسطية لا تُورث، إنها تُكتسب، إنها تميُّز لا امتياز، لا يتعلق الأمر فقط بتاريخ أو تقاليد، بجغرافيا، أو بجذور، بذاكرة أو اعتقادات، المتوسط قدر كذلك". أو كما يقول "فخصوصية موقعه وتجانس فضائه يولدان الانطباع بأنه عالم في ذاته، بل مركز العالم".
المتوسط عند بريدراك سيرة ذاتية متناثرة على المئات من العناصر والتفاصيل التي تكوِّن تاريخه وترسم وجوهه، صعودًا بها إلى فهم البدايات والمآل، كما تدرس سيرة الإنسان، عندما يعيد كتابة حياته، بحثًا عن الطفولة، كي يفهم مصيره في الماضي والمستقبل. المتوسط كذلك كان طفلًا ذات يوم، وكان له صلة بطفولتنا.
"تغذي السحب نقاشات في كل مكان بالمتوسط"، دائمًا أسأل زوجتي سلوى في الصباح، كما كنت أسأل أمي، عن السحب وتوقعات الأمطار: حتشتي النهاردة؟ متفائلًا بهذا المطر القادم الذي سيغير إيقاع يومنا، ليس في الجزر فقط حيث يعتبر المطر حدثًا، كما يشير المؤلف، ولكن أيضًا في الحياة الحديثة التي تكثر بها الأحداث حتى تحولت المدينة إلى صنم أحداث متكررة تفتقد المفاجأة.
المطر له ذكرى عند الأطفال والكبار "يتحول المطر إلى حدث حقيقي في فترة الجفاف خاصة في الجزر، حيث تكون الأحداث نادرة، كان لماء المطر والصهاريج بالنسبة لكثير من المتوسطيين طعم الطفولة المعوزة، والعطش الذي ينقصه الإشباع".
المتوسط ليس بحرًا دينيًا
رغم أنها تراتيل، لا يُحوِّل المؤلف المتوسط إلى بحر ديني، بل هو بحر عملي تجاري ثقافي، فبالنسبة إليه لم تشجع كل من اليهودية أو المسيحية الملاحة فيه، بل تجنبتاه، رغم أن هناك بعض الجزر أخذت أسماء قديسين كتميمة حماية لها.
أما المسافرون العرب، الذين برعوا في كتابة الرحلات، فكانوا معرفةً ثمينةً لعلماء الخرائط، هؤلاء الذين كانوا يتنقلون بين البحر والبر، راجلين، أو راكبين السفن. صار البحر عبر أوقات صلواتهم الخمس بمثابة "البوصلة" التي يتوجهون بواسطتها صوب مكانهم المقدس في مكة، فهذه الطريقة في رأيه جسدت وعيًا جغرافيًا خاصًا ترجمته الخرائط التي رسموها.
يربط بريدراك في كتابه بين الطبيعة والشخصية والمناخ، فهذا الجو المشمس سمح بوجود السماء الشفافة، التي من خلالها ترى شعوبها الإله.
هذه الشفافية سمحت لهذه الشعوب أن تتكلم معه مباشرة، توجه له العتاب، لأنها تراه "إن الشعور أو ربما الاقتناع بأن سماء المتوسط أكثر شفافية من سموات أخرى تساهم في أن يصير التعبير القذفي مباشرًا أكثر".
ليس المتوسط بحرًا دينيًا، ولكن قداسته منحت مفرداته خصوصية علاجية للجسد والروح معًا، حيث "شجر الزيتون ليس مجرد فاكهة ولكنه شعيرة"، هذا الغصن الذي أتت به الحمامة بعد نهاية الطوفان، ومن بعدها أدخلت الأديان المتوسطية زيت الزيتون في طقوسها تمسح به المرضى خلال نزعها الأخير، أملًا في حياة أبدية، كامنة ربما داخل هذا الزيت المبارك، الذي يضيء المشاعل، والأبراج القديمة، وأيضًا الطريق إلى العالم الآخر.
الخل أيضًا كان يستخدم للتصبير (حفظ الطعام) وللشفاء من أمراض البحر، حتى حاول أحد الجنود استخدامه للتخفيف من عطش المسيح على الصليب عندما بلل به منديلًا وقرَّبه من فمه. والملح أيضًا كان لها صفة الحكمة، يستخدم للعلاج، ويرش في عيون الأعداء، ويتغنى به الشعراء.
كرنفال المتوسط
شفافية السماء انعكست على شعوب المتوسط، جعلتهم شفافين، في حياتهم نوع من النقاء المتمرد، يُعبّرون بأعضائهم أكثر من كلامهم، بجانب استخدام قاموس من الشتائم والأصوات الخارجة من الفم. سلوك يطلق عليه الآخرون "فنجرية بق" أو "بتوع البلاموطي" ويصفون به "الإسكندرانيّة"، الذين يفضلون في طعامهم المز والحامض واللاذع.
هذه الشفافية والجو المشمس جعلتهم أيضًا يخلعون ملابسهم من الحر، ويلبسون الأقنعة، فكل تجمعاتهم بها حس المولد أو الكرنفال، الذي يحيونه جميعًا تخليدًا لهذه الروح الجمعية، أو العائلية المتمردة والمحافظة في آن، التي يمجدها أهل المتوسط، والتي لا تستجيب بسهولة أمام أي تغيير. فهم يحتفظون بذهنية محافظة.
تظهر الصور العائلية بالأبيض والأسود التي يلتقطونها والكروت بوستال تاريخ علاقتهم بالبحر، والتي تحولت إلى أطالس كالخرائط تحكي تاريخ البحر واليابسة.
تصبح المدينة أيام البازارات أعيادًا احتفاليةً، سوقًا كبيرةً من المقايضة تنفتح له ساحات المدن المتوسطية "فرطوبة البحر تقتحم الذهن والشمس تدعو الجسم إلى خلع الملابس أو إلى ارتداء القناع، والعقل لا يقاوم في النهاية الحاجيات الذهنية أو الجسدية فيسلم نفسه إلى اللعب والنشوة، إلى الفرح وإلى الجنون"، وهنا، تحت حرارة وضوء الشمس، وحضور الجموع، تظهر التناقضات في الشخصية المتوسطية التي تجمع بين الخيال والذهنية العملية معا، بين أبولو إله العقل، وديونيسوس إله العاطفة والغريزة، ولكن المؤلف لايراه تناقضًا "لأن المتوسط يتجاوز في الغالب انقساماته" فلديه دائمًا ما يلتئم به هذه التناقضات ويذيبها في نسيج واحد.
(*) جميع الاقتباسات الواردة في هذا المقال من كتاب "تراتيل متوسطية"، تأليف بريدراك ماتفجيفتش، ترجمة عبد الجليل ناظم وسعيد الحنصالي، دار توبقال للنشر، 1999.


