برخصة المشاع الإبداعي: Jon Worth، فليكر
الترام على كورنيش الإسكندرية، 9 يوليو 2011

"صوت المكان".. الجغرافيا الشعبية وموت المسافة

منشور السبت 29 مارس 2025

يكتب الدكتور عاطف معتمد في تقديمه لكتابه صوت المكان عن نوع من السفر "يصلح لتقديم جغرافية شعبية، أي جغرافية لعوام الناس. والكتاب الذي بين أيدينا يقدم قطوفًا من المشاهد الجغرافية التي تحصَّلتُ عليها بالمشي على الأقدام، ومقابلة الناس في مواطنهم، في محاولة لمزج العلم بالفلسفة وبالأدب، سعيًا إلى تقريب الجغرافيا إلى القارئ العام. وهذا اللون من الكتابة جديد في بابه، فهو يجمع بين فن المقال القصصي، وأدب الرحلة، وذكريات السفر، والجغرافية الاجتماعية".

تضع الجغرافية الشعبية، بهذا المعنى، بجانب محتواها المُركَّب/المُبسَّط الذي يستهدف القارئ العام ويمزج الحقائق العلمية بالقص بالتأملات الشخصية لكاتبها؛ تضع السير على الأقدام كأهم عنصر فيها للاقتراب من الناس/الشعب، والاستماع لهم والحوار معهم، وتأمل أحوالهم وعلاقتهم بالمكان الذي يعيشون فيه، وأثر تحولاته عليهم.

فمن الصعب كما يقول الكاتب "فصل ما هو طبوغرافي عن ما هو اجتماعي"، فهناك وشيجة قوية بين المكان والإنسان، يفحصها الجغرافي في تجواله وطوافه ليرى أماكن الاتصال والانفصال، والعطب، بداخل هذه الوشيجة.

وتكون حصيلة هذا السير واللقاءات والتأمل والحوارات، إنتاج نص متاح لهؤلاء العوام. يجمع الهدف من هذه الرحلة بين التخصص العلمي والانفتاح الأسلوبي، والمعرفي، كما في هذا الكتاب، كأن من يقوم بها يوكل لنفسه مهمة رسولية مقدسة.

مظلمة لأولي الأمر

غلاف كتاب صوت المكان، تأليف عاطف معتمد. دار الشروق 2025

هؤلاء العوام هم البسطاء المستبعدون من التمثيل في المشهد العام، المهمشون في أماكنهم والذين لا تصلهم الثروة، بأنواعها، كما تصل للطبقات الأخرى، والذين قلصت التحولات الديموغرافية الأخيرة من إمكانات استمتاعهم بحياتهم وتقدمهم.

لذا يُعتبر هذا الكتاب منشورًا ذاتيًا، بجانب جانبه الأكاديمي. يحمل بين طياته مظلمة هؤلاء البسطاء، وينوب عنهم الكاتب/الجغرافي، في رفعها لأولي الأمر. فدائمًا هناك خطاب ومراجعة وتنبيه موجه لطرف من المفترض أنه يستمع ويقرأ هذا التقرير الميداني الطويل.

يقع في القلب من الكتاب مفهوم جغرافية العدالة الاجتماعية والمساواة، عبر هذه المشاهد التي يعرضها ويتوقف أمامها الكاتب في رحلة سيره على الأقدام، في المدن والصحارى والواحات، ومحافظات وقرى الدلتا على ضفاف نهر النيل، فالكتاب في جانب منه يوثق لأشكال عديدة من اللامساواة التي عاينها الكاتب في رحلته. هناك تبصر دائم لكل ما يفرق في توزيع الثروة بين الناس، وزيادة معدلات الفقر لهؤلاء العوام المهمشين.

أحيانًا يُسمِّي الكاتب هؤلاء العوام "السكان الأصليين"، ليردَّ لهم اعتبارهم التاريخي أمام الإجحاف الذي يعايشونه. وبالطبع ينشئ هذا المصطلح، في المخيلة، المصطلح النقيض له؛ "الوافدون"، تبعًا للثنائية التي يقوم بوصفها.

المتسكع الهادف

لا يتوقف الكاتب عند فعل السير بل يردفه بإحدى طرق السير المعروفة وهي "التسكع"، هذا المصطلح الذي أصبح شائعًا مع ظهور المدينة بكل تعقيداتها وزحامها، بعد أن أسس له الكاتب الألماني فالتر بنيامين في مقاله "باريس عاصمة القرن التاسع عشر"، الذي نشرته مجلة أمكنة في عددها الأول سبتمبر/أيلول 1999، بعد أن ترجمه إلى العربية أحمد حسان.

يكتب بنيامين عن المتسكع/flaneur، مُتَّخذًا من الشاعر بودلير مثالًا له، ذلك الذي يلعب دور الشخص الخارج عن هذا المجتمع، على الهامش للمدينة الكبيرة والطبقة البرجوازية، لذا يحمل المصطلح فعلًا تمرديًا. وقد اهتم بودلير في قصائده، بصورة مدينته باريس القرن التاسع عشر بجانب صورتي المرأة والموت، كما يذكر فالتر بنيامين.

أما تسكع عاطف معتمد داخل زحام مدينته؛ القاهرة، فيصفه بالتسكع الهادف، بدلًا من السير على غير هدى كما يُعرِّفه المصطلح. ولكنه في الحالين سير بدون خريطة مسبقة، يعيد اكتشاف المدينة، فالصدفة قائمة باستمرار، والخريطة المجردة تتحول إلى أرض منبسطة وشوارع وأناس، وحواديت، فيدوِّن المتسكع مشاهداته، داخل حالة من الانفتاح والقرب والتأمل للحياة التي تدور من حوله، وهو جزء منها وخارج عنها في آن.

فالمتسكع، وهو هنا الجغرافي المتخصص، لا شك أنه، من هذا المكان الهامشي الذي يشغله، يحمل غبطة لمرأى الحياة والطبيعة داخل مدينته الكبيرة وزحامها، يراها "كأنها جزء من الطبيعة"، وأيضًا كأنها "غرفة مغلقة".

يكتب عاطف معتمد " القاهرة مدينتي"، فالتسكع ابن حياة طويلة مشتركة، يمنحها سلطة سردية. يتحدث في كتابه عن "رواية المدينة"، باعتبار الرواية إحدى وثائق الجغرافيا، ويستشهد برواية السمان والخريف لنجيب محفوظ التي جرت وقائعها في الإسكندرية، بعد ثورة 1952، ومعاينة الأماكن التي تحدثت عنها. بحرها المفتوح، الذي أصبح محاصرًا بالأسوار، وهجرة السمان التي لم تعد ظاهرة في المدينة، وتريُّفها الحالي. لذا يعتبرها تمثيلًا وشاهدًا للجغرافية الثقافية، ومثالًا على فكرة فلسفة البيئة، وعن الديناميكية والاستاتيكية في الأدب والسياسة وجغرافية مصر، منتصف القرن العشرين.(*)

صوت المكان

الصوت فعل ديناميكي منتج، أما السكون/السكوت فعل استاتيكي

خلال رحلة التسكع الهادف للكاتب، أشعر بأن هناك آخرَ يتتبعه، له صورة وسمات واضحة. آخر يأخذ صورة مكان، ولكن أيضًا له صوت.

الصوت فعل ديناميكي منتج، أما السكون/السكوت ففعل استاتيكي، يدعو للثبات وعدم التطور. يتبع الصوت الحركة والحراك، مثل السفر تمامًا، يقطع رحلة، لذا يقف الكاتب في صفه لكسر الثبات والركود اللذين يحملهما المكان في علاقته بناسه.

الصوت أعمق تمثيل للشخصية، يأتي من الداخل، الزمن والماضي والتحولات، يهمس به المكان لهذا الجغرافيِّ المتسكع الذي يسمعه يتردد داخله، فالصوت أيضًا صوت مناجاة الجغرافي نفسه، أمام التاريخ، وفي حضور المكان، سواء داخل المدينة أو خارجها.

هو صوت الكاتب نفسه بوصفه متحدثًا بالنيابة عمّن لا صوت له، هؤلاء الهامشيين والسكان الأصليين، والمستبعدين عن دائرة الضوء، الذين يعيشون في الظل الصامت. أضاف لهم الكاتب شريط الصوت، ولكن بوصفهم المكان، أو بوصف المكان ترميزًا جامعًا لهم. فالصوت هو تمثيلٌ ورمزٌ لكل الأصوات التي عبرت، والتغيرات التي حدثت، وربما هو السبب في هذه التسمية الكلاسيكية الجامعة للكتاب؛ "صوت المكان".

الجغرافيا المحرمة

يتحدث معتمد عن مراحل تطور الجغرافيا ليصل إلى سبب كتابته لهذا الكتاب، فعلم الجغرافيا بدأ من مرحلة الخيال، مرورًا بمرحلة المستعمر، حيث "انتشر الاستعمار على جناحي البارود والخريطة"، ثم المرحلة الثالثة أصبح "علم تفتيش عن مواطن الخلل الاجتماعي في توزيع الثروة والخدمات والسكان، والرفاه والتركز السكاني وغيره من تناقضات الفائض، والعوز". وهي المرحلة  التي يهتم بها الكاتب.  

فمن خلال السفر والسير على الأقدام يرصد الكاتب الخلل الاجتماعي، فالجغرافيا "علم التوزيعات المكانية" و"إعادة التوزيع، جغرافية العدالة والمساواة، أو إصلاح ما أفسدته الحياة والحكم والناس".

على سبيل المثال؛ رغم امتلاكنا 2000 كيلومتر من السواحل، فإن نصيب الفرد ضئيل جدًا. "اختفاء البحر وراء الأسوار، يقطع العلاقة بين الإنسان والبحر وينفي هذا الانتماء العضوي. فالأسوار قتلت فكرة 'اللانهاية'".

"انظر حولك، كل شيء يقول لك إن لكل شيء نهاية، وإنه لا يوجد أفق، وإنك لا تعرف ما يجري وراء الأسوار، ولا يحق لك أن تعرف (...) رسالة مبطنة بأنك تعيش داخل سجن، أو أنك قريب من السجن جدًا".

يتوقف عند الأسوار المنيعة، والبوابات والحراس، التي تمتد بطول 100 كيلومتر من العجمي حتى العلمين، في رحلته إلى رأس الحكمة "التي حوَّلت الساحل إلى ساحل حصري على فئة الأغنياء، كإعادة لإنتاج صور الإقطاع في الريف". ويصك مصطلحًا عبر هذا التناقض؛ "الجغرافيا المحرمة التي تفصل مكانًا عن آخر بأسوار لتصنع عالمين متناقضين، عالم حديث وعالم بدائي"، الأثرياء سكَّان قرى هايسندا وغيرها من ناحية، وقبائل أولاد علي من ناحية أخرى.

يتوقف في رحلته عند الكيلو 100 حيث ناطحات سحاب مدينة العلمين الجديدة التي تُطرح حولها عدة شكوك وتساؤلات من قبيل "ما المُركَّب الإنتاجي الذي سيقبل هذه المدينة؟ الواضح حتى الآن أن المدينة ستكون للخدمات الترفيهية والتعليمية ولكن دون ظهير زراعي أو صناعي أو إنتاج يعيل المدينة".

بين قرى ومراكز الدلتا وأسوان

خلال رحلاته في قرى ومراكز الدلتا ومحافظاتها، يرصد الخلل في إنتاج الغذاء، والتغول العمراني على حساب الأرض، وكثرة الطرق التي التهمت الأرض الزراعية، وهنا تنشأ المفاضلة والتساؤل بين الحركة والانسيابية من ناحية، وتآكل الرقعة الزراعية والاستعداد للمجاعة من ناحية أخرى.

نشأت الجغرافيا وسط المشاق والتعب والمسافات البعيدة والتأمل والسير ومراقبة الخلل والتحولات

يقف ضد ممارسات الجغرافيين المصريين الذين تأثروا بالمدرسة الغربية التي تقول بأن الجغرافيا الحديثة هي جغرافيا المدينة، أو الصراع السياسي، والاجتماعي والطبقي. فالكتاب مغلف بهذه الغيرة القومية عبر رصده لأشكال تمثيل الجغرافيا الاستعمارية في مصر التي انتشرت مع الكشوف الإمبريالية، ورصده للآثار المنهوبة من طرف المستعمر، ويوجه عَتَبَهُ لانفصال المصريين عن تاريخهم.

في رحلاته في النوبة وأسوان، تختفي الفوارق الطبقية، وتتبدى أشكال الحياة العشوائية، والإهمال من طرف الدولة. ويظهر نهر النيل الذي كان مغامرًا وعنيدًا، حتى جاء بناء السد وغيَّر من طبيعته وحوله من حالة الحراك الديناميكية إلى السكون الاستاتيكي. وربما هناك أيضًا إحالة على واقع المجتمع المصري الذي يتصف بالركود ويحتاج إلى الديناميكية والمغامرة. مصطلحا الديناميكية والاستاتيكية متلازمان في وصف الكثير من الظواهر الجغرافية والاجتماعية.

كوبري سيدي جابر الجديد

موت المسافة.. موت الجغرافيا

هناك مصطلح في غاية الأهمية أوجده التقدم التكنولوجي وثورة الاتصالات والانتقالات، هو "موت المسافة" أو "موت الجغرافيا"؛ و"يشير إلى تراجع أثر المسافات البعيدة، وانكماش وحشتها، ولين صعوبتها، مع تقدم وسائل النقل والمواصلات".

فعبر 30 سنة من حياة الكاتب، قضاها في البحث والسفر، جاءت ثورة الاتصالات وقلبت الطاولة وأبخست من فضيلتي حب المغامرة والاكتشاف اللتين قامت عليهما علوم كثيرة، وسرديات كبرى.

"يشهد العصر الحديث تعطل الوظيفة الحضارية لدروب الحج (إلى ميناء عيذاب) مع تقدم الثورة الحديثة في وسائل الانتقال، سبل المواصلات، التي خلقت مفاهيم جديدة في علاقة البشر بالمكان، موت المسافة، أو موت الجغرافيا". موت المسافة يعني "تلاشي الأثر الحتمي للصعوبات والمشاق وتناقص التهديدات والمخاطر التي أحاطت بالبشر خلال سفرهم إلى الحج على الطرق التقليدية".

نشأت الجغرافيا وسط المشاق، والتعب، والمسافات البعيدة، والتأمل، والسير على الأقدام، ومراقبة الخلل والتحولات عن كثب. كانت المشاق والمخاطر جزءًا من حكاية السفر، وحكاية الجغرافي، أقرب لرحلة دينية مقدسة للتعلم من الطبيعة وأحوال الناس.


(*) هناك رواية حلقات زحل للكاتب الألماني ف. ج. زيبالد ترجمة أحمد فاروق، تستخدم الجغرافيا والسير على الأقدام كجزء من بنيتها، وهي "ليست تقريرًا صحفيًا ولا كتاب رحلات، بل هو نوع من أنواع الرحلات الفكرية يقوم بها الكاتب في مقاطعة سافك الإنجليزية، على الساحل الشرقي الإنجليزي ذي الكثافة السكانية المنخفضة، حيث يتجول هنا وهناك ليدوِّن على الورق اكتشافاته ومقابلاته، ولكن الكتاب أيضًا بمثابة تأريخ لتلك المنطقة".