تصميم: يوسف أيمن، المنصة
أجيال وأزمنة

الهزيمة بين جيلين

منشور السبت 10 مايو 2025

"يأتي من بعدي من يضع الفأس برأسي".

هذه الصيحة التي يطلقها سعيد، الصحفي والشاعر بطل مسرحية ليلى والمجنون، التي كتبها صلاح عبد الصبور عام 1971، وكانت الصيحة ضمن قصيدة طويلة في المسرحية بعنوان دالٍ؛ "يوميات نبيٍّ مهزوم يحمل قلمًا، ينتظر نبيًا يحمل سيفًا".

تنتهي أحداث المسرحية على حريق القاهرة 26 يناير/كانون الثاني 1952، في مقر مجلةٍ ذات طابع ثوري. المناخ الكابوسي الذي تدور فيه أحداث المسرحية، ربما يحمل إسقاطًا على الفترة الناصرية، خاصة بعد هزيمة 1967.

على وقع هذين التاريخين، تتوالى الأحداث التي يُعايشها ستة صحفيين: سعيد وليلى وزياد وحنان وحسان وسلمى، ورئيس التحرير ويُسمَّى "الأستاذ"، الذي يحاول الجمع بين هؤلاء الشباب الفرقاء وهم يفتقدون خبرة الحياة، والحب، فيعرض عليهم التدرُّب على مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي، في محاولة منه للتقريب بينهم، فيمنح سعيدَ دورَ قيس، وتأخذ ليلى دور حبيبته وسميِّتها في مسرحية أحمد شوقي، وتُوزَّع بقية الأدوار على المجموعة.

أجيال بائدة

غلاف مسرحية ليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور

ألمح في عنوان القصيدة صراعًا بين جيلين؛ واحد قديم وآخر جديد، جيل القول وجيل الفعل.

صورة قاسية تلك التي يطرحها صلاح عبد الصبور للعلاقة بين هذين الجيلين. فأداة الثأر أو التكفير من جيل لآخر، رغم رمزيتها، ليست سكِّينًا، فالسكِّين تعبر عن جريمة، وليست سما، الذي يعبر عن خيانة ومؤامرة، وإنما فأس! ربما يعود استخدامه إلى زمن قديم، كانت فيه الفأس السلاح الناجز للقتل.

ولكن لماذا نبرة الاستشهاد، أو اليأس، أو الدونية، التي يتحدث بها سعيد؛ أحد رموز الجيل القديم؟ وعن أي هزيمة يتحدث؟ فالهزيمة، أيًّا كانت، ليست حصرية على جيل بعينه. وهل الهزيمة هي الذنب الذي اقترفه هذا الجيل ليقدم نفسه قربانًا للجيل الجديد؟

أيضًا؛ ما سبب هذا الاستحقاق الكامل الذي منحه سعيد للجيل الجديد في الثأر، رغم أن الجيلين يملكان نبوَّةً رمزيةً كما يُعنون سعيد قصيدته؟

ربما الجيل الذي يُهزم، أو يستشعر الهزيمة، يشيخ سريعًا دون أن تمر عليه السنوات. يحترق في مكانه، ويتقلد مباشرة موقع الجيل القديم، حتى لو كان لا يزال صغيرًا مثل سعيد وزملائه. فالهزيمة تستأصل المستقبل والخيال الذي يسكن فيه من جيلٍ وتمنحه لجيل آخر قادم، وربما أهم أعراض غيابه اليأس المطلق.

ربما استحقاق الثأر الممنوح للجيل الجديد تعويضٌ له على ما سيعانيه في المستقبل. لذا يُمنح حق الإدانة المطلقة للجيل القديم، صاحب الماضي.

أتذكر واقعة شخصية: في جلسة جمعتني بوالدي وأصدقائه، تقريبًا نهاية السبعينيات، وكنت في بداية دراستي الجامعية، أطلقتُ قذيفة من فمي، واصفًا جيل ما قبل الثورة بالجيل البائد الذي عاش فساد الملكية وتمرَّغ في ترابها.

ثار أبي، وكانت إحدى المرات التي أرى فيها موضوعية وصدق ثورته التي تخص ما هو أكبر من ذاتيته. أحسست بحرج شديد أنقذني منه صديقه، الذي أُمِّمت تجارة عائلته للقطن، ووجّه الكلام لأبي بأني غير مذنب، ولكني ضحية أدوات الدعاية الناصرية، التي وصمت مرحلة قبل الثورة وأجيالها بالرجعية.

ربما مرور الثورة فجأة على شخص مثل عيسى الدباغ، بطل السمان والخريف الذي تجاوز الثلاثين بقليل، جعلته يحترق في مكانه، وينضم مبكرًا في ثلاثينياته لهذا الجيل البائد.

لحظة تطَّهر

ولكن عطفًا على مشكلة الأجيال، فهناك تداخل حتمي، نفسي وجسدي، يحدث بينها، يسمح أيضًا بأن يرث الجيل الجديد كل ما يرفضه في جيل الآباء، ومنها نبرة الاستشهاد، والأعراض المرضية للهزيمة، لأن هناك دائمًا ما هو أكبر من الثأر لتخليص الحق، وهو ما لم يفطن له سعيد بطل المسرحية، ذو التفكير الأحادي، وربما لم يفطن له أيضًا صلاح عبد الصبور نفسه، وجيله ابن هزيمة 1967.

لن تحدث طفرة التجاوز، من جيل لآخر ومن زمن لآخر، إلا كلحظة صورية تستهلك غضب التغيير، ولكنها لحظة تطهر مفصلية شديدة التعقيد والتداخل، سرعان ما تختفي وتذوب وسط مفاهيم أخرى تسيطر على ثقافة التغيير وسياقاته، ليعود بعدها كل شيء إلى مكانه.

لحظة التطهر هذه دعت بطل المسرحية، رمز الجيل القديم، إلى بذل هذه التقدمة الجسدية، التي هي حياته نفسها، فداءً لهذه الهزيمة وتكفيرًا عنها ليبرهن على طهارة وبراءة جيله، رغم هزيمته.

فالهزيمة هنا ليست كاملة، ما زالت تحمل إمكانية مستقبلية لعلاج آثارها. ولكن المسرحية لم تنظر لهذا المستقبل المُرجأ، واكتفت فقط بإعلان الهزيمة، وربما حتى الآن لا تزال مسيطرة.

المخلِّص

هزيمة سعيد سابقة على اختياره لها، يلقب نفسه بـ"النبي المهزوم"، ربما بسبب جزء شخصي يخصه منها، وهو تاريخ عذاباته القديم، أو ما يسميه صندوق تذكاراته الأسود، الذي يحوي مأساة صور وفاة والده وهو لا يزال صغيرًا، ثم زواج أمه من رجل كان يعاملهما بقسوة مقابل أن ينفق على البيت.

بجانب الجزء الجمعي منها، وتمثِّله الهزيمة الجماعية للمجتمع المصري في 1967، التي لم يشر لها في المسرحية، ولكن مناخها الكابوسي حاضر بقوة، وانعكست آثارها على الجيل الذي نمى داخله صلاح عبد الصبور وأيضًا بطله سعيد الشاعر. وكانت بداية لتدوين يومياته عن هذا "النبي المهزوم"، الذي صاره، هو وأبناء جيله من المصلوبين.

ربما هزيمة 1967 المستترة في المسرحية هي السبب في ظهور طقس الفداء في الثقافة المصرية بهذا الوضوح

ربما الهزيمة/الانتصار، تمنح أي جيل تماسكه، أواصره وروابطه، وربما أيضًا صلاحية بقائه أو فنائه.

يكتب سعيد راسمًا صورة صلبه:

إني أتعلق من رسغي في حبلين

الحبلان صليبي وقيامة روحي

الحرية والحب

والحرية برق قد لا يتفتق عنه غير الأيام الجهمة

برق قد تبصره عيناي، وعينا جيلي المتعب

لكن الحب يلوح قريبًا مني

ربما هزيمة 1967 المستترة في المسرحية، هي السبب في ظهور طقس الفداء في الثقافة المصرية بهذا الوضوح، كونها تمثل صلبًا، أو موتًا بدون بعث لهذه الثقافة في وعي المؤلف.

لذا اختير رمز ديني؛ وهو المسيح وصليبه، في هذه اللحظة المفصلية التي تحتاج مُخلِّصًا بالمعنى الديني، وربما لهذا السبب أيضًا جعل صلاح عبد الصبور زمن مسرحيته قبل ثورة 1952، ليضرب عصفورين بحجر واحد.

كأنه ينتظر الثورة وظهور المخلص ممثلًا في شخص عبد الناصر. ويمكن أيضًا إسقاط أحداث المسرحية، كما ذكرت سابقًا، على زمن عبد الناصر نفسه الذي كانت هزيمة 1967 أحد عناوين جيله الرئيسية، وهو الاختيار الأرجح.

الزمن الآتي

تتصدر هذه اليوميات الشعرية، جملة "يأتي من بعدي"، التي تتكرر كثيرًا، حتى يصبح الحاضر متلاشيًا داخل هذا الزمن الآتي، زمن الخلاص، والتسوية، وتحقيق العدل. الزمن الآتي الذي بشَّر به كل الثوريين الشعراء ومنهم أمل دنقل وديوانه العهد الآتي.

يعاين الشاعر بوضوح، ليس فقط من سيأتي بعده، ولكن خراب لحظته المفصلية، لذا يحذر أهل مدينته:

انفجروا أو موتوا

رعب أكبر من هذا سوف يجيء

الكل سيكون في انتظار هذا المهدي المنتظر رمز الجيل الجديد، الذي سيقيم العدل، وسيحمل سيف الفعل، أو الفأس، بدلًا من سيف الحروف الثلم. هذا المُنتظر يتوجه له سعيد الشاعر، ابن الماضي، باستسلام تام، ليهب له رأسه ليضع فيه الفأس.

الزمن الحائر

يردُّ سعيد على زياد، زميله في المجلة والمسرحية، عندما وصف جيلهم بأنه "جيل مملوء بالمهزومين الموتى قبل الموت"، بالقول:

هذا حقٌ أزياد

فأنا أشعر أنَّا جيل قد مات ولمَّا يولد بعد

لا يقدر أن يصنع شيئًا حتى في الحب

هنا نتوقف أمام هذا الزمن المزدوج الذي يجمع بين الميلاد والموت. فالجيل الذي يعيش فيه سعيد وزياد، ميت أثناء حياته، وقبل حدوث الموت الفعلي. حياته عبارة عن موت ممتد، ذلك الزمن الذي تتغلب فيه قوة الموت على الميلاد، ويمنع ظهور الجديد، حيث "القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفي الأثناء تظهر أعراض مرضية، كبيرة وعظيمة في تنوعها" كما يصف الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي في كراسات السجن، تأثير لحظة الكساد الكبير 1929، واستيلاء الفاشية على بلاده.

تفرقت دماء الأضحية والدموع بين القبائل وعاد الذنب طليقًا يطوف على كل الأجيال

ولكنْ في جملة جرامشي تجريدٌ مغرٍ للانسحاب على حالات مفصلية أخرى في التاريخ، حتى الشخصية منها، عندما يكون الاثنان؛ القديم والجديد، في لحظة وهن تسمح بفوضى أو سيادة أشكال يائسة وغامضة ومشوشة من التفكير. عندما تتفوق قوة الموت على قوة الولادة، شخصيًا أو مجتمعيًا.

كأنَّ هناك صراعًا مؤجلًا بين الأجيال، وكلامًا مؤجلًا لم يُقَل حتى الآن، يحمل براءة الولادات التي لم تتم. فالقديم الذي يحتضر دخل في عباءة الجديد، وعطَّل ظهوره، وما زلنا ننتظر.

في مرحلة مخاض شبيهة في الثمانينيات والتسعينيات، لم تكن هناك فرصة لا أدبيًا أو حياتيًا لجيلنا في أن يضع الفأس علانية في رأس الجيل القديم، فقد وُرِّث إحساس الهزيمة الذي كان فيه الجميع مذنبًا ومخلِّصًا في آن. لكن لا مانع أننا داخل خيالنا استعنَّا بفرويد وقتله الرمزي لهذا الجيل القديم الأبوي.

لم تَسِل إلا دماء رمزية في الواقع. سالت أيضًا دموع متبادلة بين الجيلين، بدلًا من الدماء، كدموع محسن محي الدين في إسكندرية ليه (1971)، لحظة وداع أبيه عند رصيف ميناء الإسكندرية في طريق سفره لأمريكا.

تفرقت دماء الأضحية والدموع بين القبائل، وعاد الذنب طليقًا يطوف على كل الأجيال ويوزع اتهاماته وانتهكاته بالعدل.

مشهد من ثورة يناير

خلال الأيام الأولى السعيدة لثورة يناير 2011، وبعد زوال المخاطر من حولها وبدء الاحتفالات بالانتصار، تشكَّلت سريعًا ملامح جيل جديد. في تلك اللحظة اكتسبتُ لقب "يا حاج"، بما يحمله من تمييز عمري.

كنت أرى بوضوح هذه الفأس الثلمة في نظرة بعض الشباب غير المسيس الذي فاجأه ما حدث، فآثر أن يأخذ موقفًا نفسيًا سريعا فلم يجد أمامه إلا هذه النظرة المتعالية ليُسقطها على الأجيال القديمة، بعد أن انسحبت السلطة من الشوارع.

 بعكس الأيام الأولى للثورة، التي كانت تتسم بالتجانس العمري، فالثورة عمر سائل تذوب فيه كل الأعمار وتنتج عمرًا متوسطًا يوزع على الجميع. فكل فرد أي كان عمره، يقع في منطقة متوسط الأعمار الفردوسية.

الأرشيف الأبوي

تتبدى الآن على السوشيال ميديا وصلة جديدة من الجدل الدائر بين القديم والحديث، يأخذ شكل صراع حول الأرشيف، وإعادة طرح الحقائق القديمة التي لا تزال تثير الدهشة. جدل يدور حول هزيمة 1967، والصلح مع إسرائيل وموقف عبد الناصر منه. يعاد طرح الأسئلة نفسها التي تشبعت أجيال قديمة بإجاباتها، عبر قراءات عدة للتاريخ من طرف متخصصين، وهواة أيضًا. 

ليست سخرية التاريخ التي تعيد طرح الأسئلة، وليس اختيارًا حرًا لجيل جديد. فالنسيان، أو الفجوة بين الجيلين، وأيضا أساليب السعي إلى المعلومات وفهم السياقات التي خرجت منها، هي السبب في هذا التكرار، فقد عاشت عدة أجيال متداخلة عالقة بين احتضار عالم وميلاد عالم جديد، ربما منع ظهور تخصصات ماسة.

كأن الأرشيف فقط هو المنقذ، الأب الروحي للجيل الجديد، أو يتقلد الأرشيف دور الابن أو الجيل الجديد الذي يضع الفأس في رأس الجيل القديم وضميره الجمعي.

يُسحب الجدل الأساسي إلى مكان طبقي جديد. بالطبع هناك نظرة طبقية ستقف بجانب من يمتلك معلومات أكثر أو أرشيفًا أكبر، وبالتالي تحول الأرشيف من مادة كشف حقائق، إلى أداة استعلاء واستغلال، لأنه لن يوزع بالعدل.