أتاحت ثورة يناير ومَسيراتها أن أقترب من طبيعة "الصدفة" وتكوينها، بسبب العديد من المصادفات التي حدثت خلالها. بالطبع طوال حياتي أؤمن بالصدفة الضرورية، التي تأتي تلبية لرغبة داخلية من أطرافها في التحقق، بترويض هذا الجزء الغيبي منها وإخضاعه لإرادتنا الصادقة، فالمعجزة تحدث لمن يسعى وراءها ويؤمن بها. ربما هناك نسب بين المعجزة والصدفة، من ناحية الاستثناء النقي الذي يصاحب كلٌّ منا في حياتنا.
بالطبع هناك تراكم للعديد من الصدف الصغيرة التي لا نشعر بها، حتى تأتي الصدفة الضرورية التي ننتظرها ولا يمكن تجاهلها، وقد اكتسبت قوامًا ووجدت اللحظة التي تنبئ فيها عن مولدها، وتطرح أمامنا معجزتها التي كانت تُنسج من وراء ستار الحياة، بشفافية ودأب وتصميم. ربما المعجزة ليست فقط الشيء الخارق، ولكن حضور هذا الجزء الغيبي وكشفه عن نفسه بسلاسة داخل تفاصيل حياتنا العادية.
صديق الصدفة
كتب لي لسان إحدى هذه الصدف عام 2013، بعد خفوت حالة الحشود، رسالة على الماسنجر يعدِّد فيها ولادة الصدفة التي جمعتنا معًا مع مظاهرات الثورة، واحتفظت بطاقتها وقوة مفاجأتها "دايما نتقابل في الطريق ياعلاء، في 28 يناير شارع أبو قير نتبادل نظرة وسلام ونكمل.. وإحنا في طابور الانتخابات في مدرسة عبد الله النديم.. نتبادل نظرة سلام ونكمل.. على مقهى البوابين.. نتقابل نظرة سلام ونكمل.. وانت ماشي في رشدي سرحان في ملكوت الله وسط عادم السيارات على رصيف شارع أبو قير قدام الجمعية.. وبرضه وآخرة المتمة الجميلة كتابك اللي انت كتبته بدالنا 'وجوه سكندرية' يبقى لازم نبقى صحاب.. مفهومة كده"، وينهي رسالته بعلامة وجه يبتسم.
هذا الصوت الآتي من الماضي ولا أعرف صاحبه الذي بعثته الثورة وحشودها، لأنَّ الثورة تُقلِّب الأزمنة وتقارب بينها، والصدفة تدور مع حركة الزمن للأمام أو للخلف. جمعت الثورة مرة أخرى طريقين في الحياة عبر هذه النظرات المتبادلة من بعيد، ولا أعرف متى افترقا، أو متى تماسَّا وفي أيِّ مرحلة من حياتيهما. اللافت هو تكرار هذه المصادفات، كأنَّ الصدفة تسدد دينًا لنا، أنا وصديق الصدفة، وتقول لنا لا تزال أمامكما فرص للتلاقي وتحويل الصدفة إلى حقيقة.
كنت أتساءل عبر رسائله التي تُعدِّد توالي الصدف بيننا هل نحن الآن لسنا أصدقاء؟
كان أحد أصدقاء الحياة بالمعنى الواسع؛ يتابع نشاطاتي الأدبية منذ التسعينيات، بناء على توصية صديق له كما سيوضح في إحدى رسائله، ويعيش بالقرب من الأماكن والأزمنة التي أدور فيها سرحانًا أتنفس عادم العربات.
موجة الانتخابات والاستفتاءات التي تلت ثورة يناير وتجمعاتها الحاشدة أتاحت لنا مساحة للقاءٍ من بعيد، الأماكن العامة تحولت إلى أماكن خاصة، وأصبحت مواعيد مفتوحة.
وأخيرًا تتم الصدفة عبر قراءته لكتاب وجوه سكندرية الذي كتبته "بدلًا" منهم، كما قال، وهي من أجمل التوصيفات التي سمعتها عن كتابتي، أن أحكي أو أكتب بدلًا من آخرين، عن حياتهم وحبهم وخيباتهم وانكسارهم في الإسكندرية. ربما الصدفة فقط، جعلتني أسبقهم وأكون كاتبًا لأصيغ حياتي مسترشدًا بحيواتهم، وناسخًا لها.
للصدفة أيضا ذاكرة
ثم يؤكد صديق الصدفة أنَّ هذه الصدف ليست عبثًا، لكنها تقدم لنا العلامة تلو الأخرى لنكون أصدقاء، نجلس وجهًا لوجه بموعدٍ مسبق.
كنت أتساءل عبر رسائله التي تُعدد توالي الصدف بيننا، هل نحن الآن لسنا أصدقاء؟ ربما هي صداقة الهائمين في الحياة، الذين يتبادلون النظرات من بعيد ثم يعود كلٌّ منهم لمكانه وموقعه في الحياة، فالخيوط التي تُقرِّب هؤلاء لا تجذبها الصدفة إلا في مواقيت خاصة.
لا أتذكر الآن وجه هذا الصديق، ولكن بالتأكيد عندما أراه سأتذكره، وتستيقظ الصدفة عندها، فالصدفة تحتفظ بالملامح، التي تتلاشى من ذاكرتي بعد انتهاء مفعولها. الصدفة تمحو كلَّ آثارها بعد حدوثها، كأنها جريمة، تغير القوانين الرتيبة للحياة، لكي تبقى أثيريتها نفاذة عبر الزمن، فللصدفة قانونها، استثنائية بشكل ما، والمسافة جزء أساسي منها، والمفاجأة جزء آخر، هي شيء غير قابل للاستهلاك أو الدخول في دورة الحياة العادية.
صدفة مختارة
يخبرني صديق الصدفة في رسالة أخرى متتبعًا رحلته مع كتاب وجوه سكندرية الذي يصحبه معه على المقهى مع شاي بالنعناع ثم فنجان قهوة مضبوط مع سيجاريلو* ينفخ دخانه في الهواء باتجاه الماضي، ليتيح للذكرى الآتية من الكتاب وشخصياته أن تعبر إلى خيالة صافية.
يكتب متتبعًا مصائر أبطال الكتاب البسطاء "حتى الآن أشاركك في عايدة والرجل ذو البدلة الزرقاء.. وعائلة عيدة.. والإحساس القديم بالنفق النفسي المظلم لترام باكوس (...) أكاد أتخيل شعورك بالتحقق والتخفف معًا بعد أن أنهيت كتابك.. لا شك أنك تخففت من الثقل المادي للفكرة والذكرى.. مابقى لك أثيرها، ولم يبق لنا إلا أن نتخفف منها يومًا ما بدورنا".
أعجبتني إشارته لتخففي من الثقل المادي للفكرة أو للماضي بعد كتابتي للكتاب، ورغبته في التخفف. هنا يحدث التبادل عبر هذه الصدفة رغم المسافة، فالكتابة والقراءة صدفة مختارة أو ضرورية.
بدأت أُسمِّي الصدفة لتكرارها موعدًا مفتوحًا بيننا بلا زمن محدد
في رسالته أيضًا، يشير للرجل ذي البدلة الزرقاء، ذلك البائع الذي كتبت عنه وكان يحمل كيسًا كبيرًا يضع فيه بضاعته المتنوعة، ويلبس ربيعًا وصيفًا وخريفًا بدلة زرقاء نصف كم على الدوام، ويعرض بضاعته دون كلل أو ملل على الترابيزات في المقهى. سيقابله صديق الصدفة في أحد الأيام ويقضي معه سهرة، ويحدثه عن الكتاب وأنه أصبح جزءًا منه وحكايته أصبحت مستمرة.
"على فكرة أنا قابلت عم رمضان ماضي ذو البدلة الزرقاء بائع العجائب المتجول وانبسط جدًا إنك كتبت عنه في كتابك، وحفظ اسمك واسم الكتاب وسهر معانا لبعد نص الليل يجتر ذكرياته.. الرجل المتعب انتشى الليلة".
تحول الكتاب إلى مسرح مفتوح تخرج شخصياته إلى الواقع ثم تعود إليه، والأدوار تؤدَّى على الهواء.
الصدفة نائمة
تنقطع الرسائل، وتعلق الصدفة في الهواء في انتظار من يوقظها.
ثم يرسل رسالة بعدها بشهور أو سنوات، لا يهم، فالصدفة لا زمنية، لا تعترف بمرور الزمن، هي حاضرة باستمرار وتكسر تتابع الزمن المجاني. يكتب لي أنه رآني، سائرًا في منطقة فيكتوريا فيما كنت أنسلُّ إلى إحدى الفيلات وسط غابة من العمارات. أجيبه بأنني من رآه، وأسكن في بيت أهل زوجتي، ويخبرني بالمثل أنَّ أهل زوجته يسكنون بجوارنا.
يومها لم يقترب مني أو يناديني، ربما هو أيضًا كان يريد أن يحتفظ للصدفة بقداسة الندرة.
يكتب في الرسالة نفسها أنَّ الناس أصبحوا جزرًا منعزلة عندما يسيرون في الشارع، ويعيد على إحساس الاغتراب الذي نشعر به جميعًا عندما نسير في الشارع، ويشير من بعيد لأننا يجب أن نجتمع كجزر منعزلة حول كوبين من الشاي، فأردُّ عليه مُرحِّبًا في رسالة تالية.
عندها بدأت أُسمِّي الصدفة، لتكرارها، موعدًا مفتوحًا بيننا، بلا زمن محدد لنحفظ لها عنصر مفاجأتها. يردُّ عليَّ، وألمس في رده تخوفه مثلي تمامًا من التكرار "ده شيء يسعدني جدًا وله رهبة أن نكسر الصدف بموعد، هل لا زلت ترتاد مقهى البوابين، رأيتك مرة صدفة هناك، وتبادلنا السلام العابر".
هناك شخص آخر يرد السلام بدلًا مني، ويبني علاقات بدلًا مني.
حدثت صدف صغيرة لم يعوِّل عليها، ولم يذكرها، على مقهى البوابين أكثر من مرة، وهناك تبادلنا السلام العابر. عبور بالمسافة والزمن، وعدم ترك أثر وراءك، حتى لا يثبتك الزمن في ذكرى أو قالب، وتضيع نفاذية الصدفة التي يجب ألَّا يكون لها أثر مادي.
هي مثل الذكريات التي تخففت منها بعد كتابتي "وجوه سكندرية". الصدفة أيضًا تحول المادي إلى أثير، نوع من الكتابة بشكل ما، ولكن لها سياق أوسع تحدث فيه، وصبر أطول لتأتي بثمارها، لأنها تسجل وقائعها في كتاب الزمن المفتوح من الضفتين.
ولكن في رسالته يتحدث عن الرهبة من اللقاء، من كسر نظام الصدفة. لماذا الصدفة تُكسر؟ هل هي زجاج، هل هي خيط واهن ممتد ينسج من حولنا حكايته، بدون تعمد. ربما، الصدفة مثل الشرنقة، التي ستخرج منها الفراشة، وكسرها عودة إلى الزمن الحالي، والهروب من الزمن الآخر الذي يقف وراء الحياة ويحيك حكاياته.
بعدها يذكِّرني بأول مرة رآني فيها في التسعينيات، وينظر بأسى إلى الأعوام العشرين التي مرت على هذه الذكرى، وهنا يقول جملته الفاصلة والمؤثرة "اسكندرية زمنها ممتد لا محدود بيعوض مساحتها"، هذا الامتداد الذي لا يريد أن يكسر إيقاعه، الزمن المفتوح الذي يقاوم الموت والنسيان، وداخله تعيش الصدفة لأنها أيضًا لا محدودة، لا تتقيد أو تنحصر بمكان ضيق، بل بزمنٍ رحبٍ، وما علينا سوى الصبر.
الصدفة وهي تصبح حكاية
تمرُّ سنوات والصدفة نائمة، يعيد إرسال رسالة، وخلال فترة التوقف كان الزمن ممتدًا والخيوط تنسج من بعيد، والصدفة تتحول في عينه "كالعادة بشوفك صدفة ياعلاء! حاجة جميلة وموحية.. هذه المرة كنت تتأمل قهوة صابر الإسكندراني من شباك سيارة من زمننا الجميل عصر الخميس.. إما أن لك ذكريات بها.. أو أن ازدحام الكورنيش ألجأك إليها.. أنا معك فليس بمقدور إنسان أن ينظر إلى بيوت الإسكندرية دون شجن وحزن ما".
أختم رسالتي مفسرًا أنَّ غياب الصدفة سببه شعوري بالتهديد
أرد عليه بعد هذا الاصرار من الصدفة التي لا تريد أن تتحول إلى موعد أو حتى تتخلى عنا. عندها طلبت منه بوصفه من يمسك بخيط الصدفة، أن يكتب قصة طويلة عن هذه المصادفات، وأضفت بأني ربما أفكر أيضًا في كتابة هذه القصة في يوم من الأيام، لأنها أصبحت مكتملة، ولم تعد فقط صدفة.
تحولت الصدفة إلى حكاية مكتملة لا حدثًا عابرًا، لأنَّ الصدفة تنمو شرنقتها وتتعدد أوجهها وأزمنتها، وتنام أحيانًا لسنوات ثم تصحو فجأة لتنبهنا إلى أنها حاضرة وتسير معنا خلف ستارة الحياة الشفيفة.
الصدفة حلم
يردُّ صديق الصدفة بأنَّ كتابة هذه الحكاية سيسعده، وهنا يتضح بجلاء قدرته وتأمله لمفهوم الصدفة الذي يتعدى إحساسي بها، عندما يحولها إلى حلم، كأننا نتقابل في حلم مفتوح "هذا يسعدني ويجعلني أسرح في مسألة كيف نفسر أحلامنا وكيف تتحقق.. ربما يتحقق حلم الكتابة بأن يكتب أحد عن آخر فيصير "مكتوبًا".. كاتبًا أم مكتوبًا! لم يخطر ذلك على ذهني أن للحلم تجليات أخرى مخفية! أنا أعتز بالصدفة وأنتظر تجلياتها التي ها هي تتعدد".
ويقارن الصدفة التي تحدث بيننا وتمتد، بأخرى عندما قابل أديب نوبل في الإسكندرية. يصف اللقاء ببلاغة كاتب "... كلها كانت صدف.. نجيب محفوظ وهو بصحبة صديق يتكئ على عصاه في الطريق المؤدي للكورنيش بجوار فندق سان استيفانو القديم.. قبل فوزه بنوبل وقبيل محاولة اغتياله التي اغتالت سعيه في الطرقات، واكتملت بحوار قصير هنأته فيه بنوبل "مبروك منور اسكندرية".. اكتملت الصدفة كدائرة صغيرة بسيطة بلا بهرجة ولا تفاصيل".
ثم يختم رسالته بالصدف التي تخصنا أنا وهو، ويسميها "دوائر تتقاطع بخفة مكانًا وزمانًا".
لماذا لم تتجدد الصدفة
بعدها بسنتين يكتب لي رسالة هي الأخيرة حتى الآن، يستثير الصدفة النائمة كأني أملك جزءًا منها في نيتي، كأنها حوار بين نيتين، لا يتحقق إلا بمشيئتيهما. يسـألني في رسالته: لماذا لم تتجدد الصدف؟
أكتب له عن انشغالاتي ونوم الصدفة وسفري إلى حلايب وشلاتين لتحضير عدد جديد من مجلة أمكنة عن الحيوات البديلة، خوفًا من الاستهلاك الذي يقضي علينا في المدن، وأختم رسالتي مفسرًا أنَّ غياب الصدفة سببه شعوري بالتهديد. ربما لأنَّ الصدفة ابنة الزمن المفتوح المستريح المتصل بلا نهاية ولا حدّ، والتهديد والخوف يقطعان صيرورة هذا الزمن.
فيردُّ عليَّ في رسالة أخرى بليغة تُفصح وتلخِّص مسار حياته "من أجل الاستهلاك لا تتحقق الأحلام الأولى.. نستبدلها بأخرى.. مجسدة.. عجول ذهبية عديدة بأحجام وأشكال تتجدد لنفس الحيوان والمادة! استوقفتني في رسالتك كلمات الخوف والتهديد.. فقد قضيت الليلة أمس أفكر في الخوف.. وإزاي أجبرني على مسارات لم أخطط لها.. ربما كان الخوف قد صنع الحيوان الاستهلاكي.. نحن سجناء أنماط الحياة التي يهدد الخوف قدراتنا على حتى تعديلها.. الخوف من الموت وافتقاد مادتنا ..".
***
ربما أكتب هنا بالنيابة عنه، وأجعله مكتوبًا، لقد ولَّدت الصدفة ثمارًا متعددة في كل الاتجاهات: الزمن، الحلم، الكتابة، والحدس، الإسكندرية، الحنين، والحزن. صارت صدفة كالحياة، ولكن في لحظة توهجها واشتعالها.
* السيجاريلو هو نوع من السيجار لكنه أصغر حجمًا ويشبه السيجارة العادية.