في بدايات خطواتي في عالم الكتابة، عندما كانت أي جريدة أو مجلة تطلب مني صورة شخصية لترفقها بمقال أو قصيدة أو خبر، كنت أتعجب من هذا الطلب وأرفضه بشدة كوني لست نجمًا. أو ربما أكون نجمًا في نفسي، ولكن يجب أن أكون نجمًا بلا صورة، تمامًا كالشبح.
ﻻ أريد أن أترك أي أثر ورائي. ليس فقط لعدم كوني نجمًا مكرسًا، لكن أيضًا لأن الروح التي أسعى لتحقيقها لا يمكن أن تعبُر إلا من باب هذا الوجود الشبحي المؤقت. أريد أن أترك صورة واحدة ونهائية بصفتي "ميتًا مستقبليًا".
كانت هناك نزعة فناء تختفي وراء هذه الرغبة، أريد فقط من الشعر والكلمات أن يكونا صورتي الأبقى بعد تلك القيامة القريبة.
أحد الشعراء الأكبر سنًا الذين قرأوا ديواني الأول، عندما رآني للمرة الأولى استغرب من طولى وامتلاء جسمي النسبي، وكان تعليقه أنه توقع أن يرى شخصًا نحيفًا يمكن أن يعبر كالنسيم من فرجة باب. كان الحيز الذي أشغله في الواقع أكبر بكثير من الحيز الذي أشغله في الخيال.
الصابونة السحرية
في بداية السبعينيات ظهرت قطعة صغيرة مستطيلة الشكل تشبه الصابون في قوامها. كانت تباع في ساحة ميدان محطة الرمل بالإسكندرية، عند من يعرضون بضاعة لها لمسة سحرية بدائية تأكل عقول أطفال ذلك الزمان.
كانت طريقة عمل هذه الصابونة السحرية أن ندهن بها سطح ورقة بيضاء، ثم نقلب على الورقة أي صورة سواء من جريدة أو من صورنا الشخصية، ونمسك بعملة معدنية نمررها بقوة عدة مرات فوق سطح الصورة المقلوبة، فتنطبع تلقائيًا على الورقة المدهونة بالمادة الشبيهة بالصابون. كأن الملامح تتسرب من الصورة للورقة. كانت أول تقنية رخيصة لطباعة الصور وفي متناول يد الصغار.
بدأت موضة استنساخ صورنا الشخصية التي تحمل ملامح وجوهنا، وهذا في حد ذاته له دهشة الألعاب السحرية، قد تبدو الصور مشوهة وغير واضحة، مثل شخصياتنا تمامًا وعلاقتنا بها آنذاك، فقد كانت نظرتنا لأنفسنا ومفهومنا عنها مشوّشة، نبيت داخلها كسكن مؤقت بدون أن نعرف محتويات هذا البيت.
حتى مللنا من هذا السحر قصير النفس. تمامًا كما حدث مع اكتشاف عصير الليمون الذي استعملناه حبرًا سريًا، نكتب به الخطابات السرية لبعضنا البعض، ثم نكويها بالمكواة الساخنة، فتنبثق الكلمات من داخل هذا العدم الأبيض للورقة، كما تعلمنا من قراءة ألغاز المغامرون الخمسة للكاتب محمود سالم.
صور شخصية خالدة
في تلك الفترة، كانت هناك مجموعة من صور الشعراء والكتاب المستقرة في مخيلتنا من كثرة تكرارها، وربما نكمل ملامحها لو كانت باهتة: توفيق الحكيم بعصاه والبيريه والشارب الكاريكاتيري. محفوظ أثناء سيره في الشارع ببذلة الموظف والجريدة تحت إبطه، أو تلك الصورة الأخرى بابتسامته العذبة وحسنة وجهه المتلألئة، أو وهو جالس على المقهى يدخن الشيشة.
ربما محفوظ كان صاحب الحظ الأوفر في تلك الصور التي تفيض بالحيوية، والكاميرا تتحرك معه في الشارع لا في غرفة محنطة.
أيضًا صورة يوسف إدريس، بشعره شديد البياض وبريق وحدة نظرة عينيه، وضحكته المجلجلة التي أصبحت جزءًا من شخصيته بالنسبة للقارئ. وعبد الصبور وجدائل شعره الفضية وأنفه المعقوف وسيجارته الشهيرة التي لا ينفد دخانها أبدًا في الصور.
محمود درويش أيضًا كانت له صورته الشهيرة، بوجهه النحيف وخصلة الشعر المتدلية بغنج على جبهته ونظارته الطبية المستطيلة فوق أنفه المدبب. النحافة آنذاك كانت تطارد الشعراء، ما عدا صلاح جاهين، كانت له مقاييس مختلفة للموهبة.
أما صورة أدونيس وشعره الطويل المهوش والمفروق من المنتصف، وكوفيته الحمراء التي لا يزال يستخدمها حتى الآن رمزًا لشاب ثوري لا يزوي، وتلك الصورة الأخرى وهو يلقي الشعر ويده مرفوعة لأعلى بينما أصابعه منتصبة كأنه يلقي خطابًا في ساحة معركة.
هناك صورة جانبية تعود للثمانينيات لوجه الشاعر خليل حاوي، وهو أحد المنتحرين القدامى بسبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والسيجارة في يده. وقتها كان الانتحار المسيس طازجًا، وشديد الارتباط بقضية قومية، بجماعة تنتظر منك أن تمنحها شيئًا من جوانيتك وشخصيتك حتى ولو كان هذا الشيء هو حياتك نفسها.
هناك أيضًا صورة غسان كنفاني وهو جالس على مكتب، في لحظة استغراق وانفصال عما حوله، يكتب بيمناه بينما يسراه تسند رأسه وبها سيجارة مشتعلة.
التصوير مع السجائر كان إكمالًا لأركان صورة الكاتب، كأنها رمز الفناء في صورته الشخصية، الجزء الفاني الذي سرعان ما يتحول إلى رماد، كمجازٍ لموت الكاتب المستقبلي.
أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله كانت صورهما الشخصية نادرة فى تلك الفترة فى المطبوعات الرسمية، ربما كان لهما حضور في مجلات الماستر سيئة الطباعة، فكانا يعيشان كأشباح، لمن لم يرهَما رؤى العين، داخل الثقافة وبدون ملامح دقيقة تميزهما. ربما الحدة والتقشف في اختيار شكل الحياة التي عاشاها، كانت أولى خطوات الدخول في عالم الأشباح.
الصورة بين القناع والشبح
علامات الفرح والدهشة، وأحيانًا الإعجاب، التي أراها على وجوه أحدهم عندما يراني للمرة الأولى في الشارع، أو في أي مكان عام، في الإسكندرية أو القاهرة، ويُقبل ليسلم عليَّ مبتسمًا، بهذا الوجه الذي يتحول في تلك اللحظة لمرآة قادرة على إظهار شبح فرديتي، تشعرني بأنني عثرت على إحدى النسخ المهمة من صورتي الشخصية التي لا أعرفها عن نفسي.
أحيانًا أتساءل هل الصورة الشبحية التي ارتضيتها لنفسي كشاعر هي الوجه الآخر لهذه النرجسية
تؤطر هذه الصورة مشاعر الفرحة أو الدهشة أو الاحتضان المصوبة لوجودي كله، في تلك اللحظة، وهي التي تميزني عن عشرات يسيرون بجانبي. إنها "صورة فرديتي". ولكن بلا ملامح شخصية بل بخليط من المشاعر العميقة. فالصورة بالنسبة لصاحبها في النهاية ليست ملامح مميزة، وإنما أحاسيس تسكن الذاكرة.
الآن، في عالم الصور الذي نعيشه، لم أُرِد أن أصنع صورة شخصية ﻻ تناسبني بدلًا من هذه الصورة الشبحية التي اخترتها لفسي منذ البدايات. أحيانًا تضطرنا الثقافة، عندما تضعف وتفقد السبب في وجودها، بأن نصنع لأنفسنا صورًا غير مناسبة يمكن أن تُسمى في هذه الحالة "أقنعة"، وربما مع مرور الوقت ونسياننا بأنها أقنعة، تبتلعنا، مثل تلك النباتات الوحشية التي ابتلعت أبطال فيلم Invasion of the Body Snatchers/عندما يستسلمون للنوم.
وأيضًا من الحمق أن أغيِّب صورتي عن هذا المعرض المنصوب، فأختار بعناية أن تكون طبيعية قدر الإمكان، كفرد ذائب داخل حياة، وليس مُفردًا. من الصعب أن أطبق نظرية الشبح على هذه اللحظة إلا وتحولَّتُ إلى شبح حقيقي.
صورة شخصية في السبعين
في كتاب صورة شخصية في السبعين، وهو حوار مطول مع المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، أجراه صديقه ميشيل كونتا، حول صورة سارتر المجازية، التي شكلت حصيلة علاقته بالعالم والأفكار والآخرين ونفسه طوال سبعين عامًا.
عندي انطباع على صور سارتر الشخصية التي تم تداولها. ذلك الأثر الذي تركه، عبر سنين، فقدُ عينه اليسرى، صبغ نظرته وطريقة تمثيله في الصحافة، وربما في الحياة اليومية، بلمسة عبقرية لا تخلو من صرامة، كأنه مفكر له عينان يعملان بشكل منفصل. تعاين واحدة الواقع، بينما الأخرى، التي فقدت البصر، تحلق هناك وسط عتمة تصارع شيئًا مستحيلًا.
يركز المحاور ويعيد السؤال مرة بعد أخرى وبطرق مختلفة، حول علاقة سارتر بالشهرة والمشاهير، بوصفها إحدى الإحداثيات المهمة التي تكشف هشاشة أو صلابة صورة الإنسان عن نفسه.
يجيب سارتر عن أحد الأسئلة "رؤيتك لشخص مشهور بالفعل يعني أنك تراه إلا بما يسمح هو أن يتسرب عنه، فصورة شخصيته أصبحت نهائية، وليس ذلك لأنه يلعب دورًا، ولكن الدور أصبح مسيطرًا عليه".
فيسأله المحاور "وهل سيطرت عليك صورتك التي رسمتها الشهرة؟"، ليجيب "لا، لسبب بسيط أني لا أملك مثل هذه الصورة، أعرف أن هناك صورة لي، لكنها الصورة التي يملكها الناس عني، ولكني لا أعرف ما هي صورتي"، ويتساءل "كيف أعرف ما أمثله للآخرين الذين لا يعرفونني، أنا لا أقدم أي صورة ملموسة لشخصي، أية صورة أستطيع إدراكها".
ولادة الفرد الاجتماعي
هناك صورة لسارتر يستعرضها الكتاب، تمثل لحظة التحول التي مرت بنظرته لنفسه عند تجنيده في الجيش للمشاركة في الحرب العالمية الثانية. "عرفنا أننا نحارب لنحافظ على قيم (مجتمعنا)، آملين أن يولد ثانية بعد الحرب، كان ذلك هو الوقت الذي هجرت فيه فرديتي التي كنت أومن بها قبل الحرب، وفكرة الفرد الخالص وتبنيت الفرد الاجتماعي الاشتراكي".
بدخوله الحرب تحول من إنسان فرد إلى كائن اجتماعي، وتدخلت الجماعة في صورته عن نفسه. الحرب أو الأحداث الكبرى تنتشل الذات من تأمل نفسها في مرآة ذاتية، وتنقل الرؤية لمرآة عامة، تغير شكل الصورة تمامًا.
ربما الحياة الفكرية المشحونة تكسر من أحادية صورة الإنسان عن نفسه، مهما كانت درجة نرجسيته. فهذه الأحداث تعيد صياغة هذه الصورة النرجسية، أو الطبعة الخفية الشبحية من حب النفس والشهرة، التي تتحول إلى سجن لصاحبها. سارتر يرى هذا بوضوح ويرضى بما وصلت إليه صورته عند الناس في السبعين.
أحيانًا أتساءل هل الصورة الشبحية التي ارتضيتها لنفسي كشاعر، هي نسخة أو الوجه الآخر لهذه النرجسية، أو هي مقلوبها، كما تطبع الصورة معكوسة، وكما نرى صورتنا في المرآة؟
كانت صورة سارتر في السبعين، كما تظهر في الحوارات، وصلت إلى مرحلة التداعي والتحلل من وهم القداسة التي كانت تحيط به حتى مظاهرات 1968. لم تعد هناك صور براقة عن النفس، حتى أثناء سيره في شوارع باريس، كما يحكي، ويتناول طعامه في مطاعمها، ربما يقترب منه أحد أو يشير له من بعيد. فهناك أيضًا النسيان وماكينة استبدال الصور شديدة السرعة في المخيلة العامة.
تظهر صورة المنسحب من الحياة والذي تجاوزته الشهرة والنرجسية معًا، ولم تعد هناك مرآة داخلية أو خارجية يعبد فيها نفسه، وإنما صورة ممتدة بطول رحلة فكرية طويلة تكاد تختفي وتذوب داخلها الملامح المادية للوجه، ويبرز الوجه كرمز لأصالة الفكر مثل الرؤوس الرومانية أو الإغريقية، كل وجه يخفي أسطورة.
أما وجه سارتر، فقد أصبح حكاية/أسطورة قابلة للنسيان.