تصميم: أحمد بلال - المنصة
صورة مُعدّلة تجمع سعاد حسني وصلاح جاهين

صلاح وسعاد.. مسيرة فنية كبرى

منشور السبت 3 أغسطس 2024

هناك موقف عالق بذاكرتي مرتبط بوفاة صلاح جاهين، نشرته الصحف آنذاك، وتحول مع السنوات إلى صورة حية مليئة بالتفاصيل والأسئلة والشجن: بينما يرقد صلاح في غرفة العناية المركزة غائبًا عن الوعي، تصطحب سعاد حسني، التي تعتبره مرشدها الروحي، في إحدى زياراتها اليومية إليه شريط تسجيل مسجل عليه أوبريت الليلة الكبيرة، الذي ألَّفه صلاح ولحنه سيد مكاوي، وتطلب من الأطباء في العناية، أو تقوم هي بتشغيله، لعل صلاح يحن للحياة مرة أخرى، ويستعيد وعيه الغائب.

ظل صلاح جاهين غائبًا عن الوعي أربعة أيام، من 18 حتى 21 أبريل/نيسان 1986، لم تنقطع سعاد عن زيارته خلالها. تقضي بجواره عشر دقائق فقط، تقترب من أذنه باكية، تسر له "ماتمشيش ياصلاح" أو "ماتسبنيش ياصلاح" أو "ارجع يا صلاح، أنا مش قادرة أعيش، أرجوك". وهي الجمل التي وثقتها الصحافة، ويقال إنه في إحدى المرات فتح عينيه ورأى الأنابيب والأجهزة الموصولة بجسده، ونظر لمن حوله ولم يقدر على الابتسام، كأنه لا يعرفهم، ثم أغمض عينيه.

ما أثارني آنذاك حضور شريط التسجيل لأوبريت غنائي داخل غرفة العناية المركزة، كأن نوعًا جديدًا من العلاج أضيف إلى أساليب علاج الغائبين عن الوعي، لاستثارة وعيهم ودفع الموت عنهم. رأيت في هذا السلوك الذي يتم فيه التواصل مباشرة مع العقل الباطن للمريض قفزة للوقوف على أعتاب عوالم ما وراء الطبيعة، عبر الاتصال بمصدر جمعي داخل المريض، له القدرة على الشفاء.

ربما تكون سعاد حسني قد سمعت أو قرأت عن هذه الطريقة غير المطروقة للعلاج، بسبب حبها لصلاح وتعلقها الشديد به. أو كان اختيارها يمثل أمل اليائس لاستعادة حياة شخص يحبه من الموت، عبر معجزة.

هناك منظومة ثقافية أخرى للعلاج، استخدمتها حضارتا الآزتيك والمايا في أمريكا اللاتينية، قبل غزوها من الإسبان. كانتا من الحضارات القديمة التي تؤمن بقدرة اللا وعي الجمعي على الشفاء، فالمرض في تعريف هذه الشعوب يشمل الروح والجسم معًا دون تقسيم أو انفصام.

الغيبوبة، ضمن هذه الثقافة، لا تعني غياب الوعي تمامًا، ولكن يظل الوعي الباطن للمريض متيقظًا ومحاطًا باللا وعي الجمعي الذي يحوي ذاكرة الأمة ونماذجها الأولية الكبرى، كما يقول عالم النفس كارل يونج. لذا داخل هذه الطريقة علاقة قوية بين العقل الباطن، واللا وعي الجمعي.

لم تجد سعاد مثيرًا للا وعي الجمعي الذي يحيط بالعقل الباطن لصلاح، ليقوم من سباته، ويغادر غيبوبته، أفضل من أوبريت الليلة الكبيرة، الذي يشكِّل هو الآخر إحدى الذاكرات الجمعية في الثقافة المصرية الحديثة.

كانت سعاد بفعلتها هذه تربت وتهدهد وتغري هذا الوعي النائم لصلاح، الذي كان يشكل لها جسرًا روحيًا لعوالم أرحب وأوسع؛ تعود به كطفل إلى النقطة التي توقف عندها قبل غيبوبته.


الوعي الجمعي على الحدود الفاصلة

أثناء مكوثي في العناية المركزة، بدون غيبوبة، عام 2014، لمدة 12 يومًا، أحضر صديق مسجِّلَ ديجيتال مسجَّلةٌ عليه آيات من القرآن بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل. تسجيل قديم انتقل من زمن شرائط الكاسيت إلى زمن الديجيتال، وفي الخلفية صوت هديل لحمام يتخلل صوت المقرئ.

المكوث في العناية يجردك من التاريخ والذاكرة، فكان هذا الشريط يمثل هذه الذاكرة الجمعية، أو اللا وعي الجمعي المستهدف إثارته في حال صلاح. بعث القرآن دفئًا في أوصالي داخل هذه الوحدة الباردة، وأعاد اتصالي بشجن تاريخ وذاكرة، بدون أي تفاصيل أوسع من تلك الذاكرة المرتهنة في غرفة العناية، في تلك اللحظات الفارقة بين الحياة والموت.

يبدو أن اللا وعي الجمعي لا يتألق وتنشط وظيفته إلا عند هذه الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، منتظرًا من يتوجه إليه ليقوم بواجبه في شفاء وإعادة وعي من نحب. كأن الوعي الباطني، لكل منا، في حال غيابه، يظل منتظرًا هناك، عند ذلك البرزخ، إما أن يكمل رحلته ويندمج في الذاكرة الجمعية ويذوب، أو أن يعود.

كانت سعاد تنتظر معجزة تتغير فيها الأقدار، ويعود مرشدها من الغيبوبة، ولكن للأسف لم يحدث هذا واستمر العقل الباطن لصلاح في سباته العنيد، ماضيًا في رحلته للناحية الأخرى مندمجًا، كرمز وأيقونة، باللا وعي الجمعي الذي يحتفظ بنسخ أصلية من ذاكراتنا.

تبادر آنذاك إلى ذهني سؤال: هل استمع العقل الباطن لصلاح للأوبريت ولم يستجب؟ وهل أخي الأكبر هشام استمع لحكايتي الطويلة عن عائلتنا التي سردتها عليه أثناء غيبوبة موته؟ وهل استمعت باولا ابنة الروائية التشيلية إيزابيل الليندي لحكايات أمها عن تفاصيل الحياة اليومية للعائلة في الماضي والحاضر أثناء غيبوبتها، حتى لا يفوتها شيء إلى أن تعود من هناك؟

لم يستجب أخي ولا باولا. وبالطبع لم يستجب صلاح، ربما وصله الصوت وتغافل عنه، وأكمل بإرادته رحلته في اتجاه واحد بلا عودة. فالحياة وقتها انقلبت عليه، بعد موت عبد الناصر، وهزيمة 1967، وكامب ديفيد، وضرب الطيران الأمريكي لليبيا، وإصابته بالاكتئاب. أصبح اللاشعور الجمعي مفتتًا، ولم يعد مصدر شفاء، أو تحفيز، أو حتى إغراء.

لم يعد يرى في الحياة مرشدًا روحيًا يجعله يتمسك بها، وبرموزها الكبرى، تلك التي تألقت في زمن كتابة أوبريت الليلة الكبيرة الذي يستلهم فيه صلاح روح الجماعة المصرية، في زمن الثورة. وقد صرح لزوجته منى قطان، في كتابها عنه، أن أجمل سنواته كانت ما بين 1963-1967. أما السنوات ما بين 1973-1983، فلم يكن فيها متفاعلًا مع ما حوله، كأنها فجوة زمنية أو غيبوبة مجازية.


المسيرة الكبرى

اللافت في اختيار سعاد لهذه الطريقة هو الإيمان بالمعجزة، وسط هذه الفترة يسارية الهوى والمحتوى، كونها كانت تعتبر صلاح كالمُخلِّص منذ تعارفهما في الاتحاد السوفيتي سنة 1964 أثناء فترة علاجه من السمنة بينما كانت هناك بصحبة يوسف شاهين لتصوير فيلم الناس والنيل.

فهذا الإيمان، يقارب بين المعجزة وصاحبها، ويحقق قفزة نوعية في فهم الحياة، تتجاوز الهزائم الشخصية والعامة، خاصة هزيمة 1967؛ عبر استدعاء اللا شعور الجمعي ليحيط بحنو بوعي صلاح الباطن المهزوم، ليمنحه قبلة الاستنارة.

من أكثر الصور التي يتجلي بها هذا اللا شعور الجمعي في الحياة اليومية، صور المسيرات الكبرى في الموالد والمظاهرات والمهرجانات. في مناخ الستينيات كان مفهوم المسيرة الكبرى الماركسي لتحالف قوى الشعب العاملة جزءًا أساسيًا من خطاب النخبة والدولة على السواء.

لا شك أن اصطحاب سعاد لأوبريت الليلة الكبيرة، برمزيته، إلى غرفة العناية المركزة، هذا المكان اللا تاريخي؛ يتماس مع تحضير روح هذه المسيرة التاريخية داخل هذه الغرفة. خليط من إيمان سياسي متماس مع عالم ما فوق واقعي، أخذ يتشكل داخل هذا الحيز ما بين قوسي الحياة والموت.

تلخّص صورة المسيرة الكبرى التي تُعتبر أهم صورة عاطفية للماركسيين، خاصة جيل السبعينيات الثوري، حلم التوافق التام مع الوجود ومع الإنسانية والآخر، حيث يسير الجميع للأمام في تضامن وتناغم لا تاريخي، ليتحقق الذوبان والخلاص في كيان أكبر، ونسيان لحدودك الشخصية. وهي الصورة التي سخر منها ميلان كونديرا في روايته كائن لا تحتمل خفته.

لا أنسى المثقف المصري، إبراهيم منصور، صاحب كتاب الازدواج الثقافي، بعد هزيمة 1967، أقام في حي الحسين لمدة من الزمن، كرمز أصيل لجماعة شعبية، محاولة منه في علاج آثار الهزيمة، بالاندماج والذوبان بهذه الجماعة ونماذجها الإيمانية الكبرى، بعيدًا عن تكتل المثقفين، ليصطف في مسيرة فردية موازية، تبحث عن خلاص ما داخل هذا الحي، الذي تحوَّل إلى تجسيد مكاني للا شعور الجمعي.

نموذج من أسد الليلة الكبيرة الذي صممه الفنان التشكيلي ناجي شاكر

الليلة الكبيرة مسيرة كبرى مبهجة

ربما أوبريت "الليلة الكبيرة" يعتبر، في حد ذاته، مسيرة كبرى مبهجة، حيث فئات الشعب بكل طوائفه تتعايش سويًا. يسعون لحلم يُكتَب عقدُه فيما بينهم أثناء السير، والتلاقي، وليس قبلهما: دول فلاحين ودول صعايدة.. دول من القنال ودول رشايدة، وينهي المسيرة: دي الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة.. ماليين الشوادر يابا مِ الريف والبنادر.

مسيرة تضم المعلم حنتيرة والواد دقدق والأسطى عمارة من درب شكمبة: النسيج البسيط والمنسجم بدون فوارق، فالمولد، الذي مجده صلاح في الأوبريت، كالكرنفال والمهرجان في الثقافة الأوروبية، يشيع الحميمية والمساواة بين الجميع داخل إطار من النشوة مصدرها هذا الحلم الخفي البعيد الذي اجتمع من أجله كل هؤلاء البسطاء.

هناك صورة غنائية أخرى؛ سوق بلدنا، كتبها صلاح وهو طالب في كلية الحقوق، على شكل مسيرة جنينية عن الأسواق الريفية، سبقت الليلة الكبيرة ومهدت لها. أخرجها صلاح أبو سيف، أحتفظ منها بهذا البيت العابر للزمن "حلاوة زمان.. عروسة حصان"، وجملة أخرى "البتنجان أبو خل" التي أصبحت، في طفولتنا، رمزًا للجنون الشعبي الطريف.

حي الحسين، الذي أوى إليه إبراهيم منصور بعد الهزيمة، الليلة الكبيرة/المولد الذي أوى إليه صلاح جاهين، وغيرهما كالكرنفال، والمهرجان؛ كلها أماكن تجل لهذا اللا وعي الجمعي.


مسيرة خاصة.. مسيرة ممتدة

كانت المسيرة الكبرى مهزومة قبل وفاة صلاح جاهين، ولم يبقَ إلا صورتها المهتزة في الخيال. فسار الاثنان، سعاد وصلاح، معًا داخل مسيرتهما الخاصة التي يؤمنان بها داخل غرفة العناية.

ربما كانت سعاد تحدس بنهاية صلاح المتوقعة، فقد زارها ليلة دخوله في الغيبوبة، ومكث عندها حوالي من ساعتين إلى ثلاث، وربما تحدث معها  ليلتها عن مخاوفه من الموت.

رغم هذا، أصرت سعاد على المحاولة الأخيرة، بأن تشارك صلاح الغائب عن وعيه، سماع جزء من أوبريت الليلة الكبيرة. 

ربما حدث الاتصال بينهما في تلك اللحظة، وانضم الاثنان، كلٌّ في عالمه، إلى تلك المسيرة المتخيلة، التي سارا فيها مع أبطال الأوبريت.

ربما كانت سعاد لا تريد من تشغيل الشريط سوى مشاركة صلاح هذا الجزء من مسيرته الكبرى التي يستعد لها، قبل إسدال ستار النهاية، في حضرة الليلة الكبيرة.

أتذكر صلاح جاهين وسعاد حسني في لحظات صعبة نمرُّ بها جميعًا، فالاثنان جزء من اللا وعي الجمعي لأجيال مرت وأخرى لم تمر بعد. الاثنان تلازما في ذاكرتنا كتوأمين، وربما نعزو سبب هذه التوأمة في ذاكرتنا، للحلم المشترك الذي عاشاه معًا، وعدم تطابقه مع أي مشروع سياسي مهزوم، بل مع مشروعهما الإنساني الرحب والمؤسس على موهبة رفيعة وشديدة الثراء لكليهما.

أيضًا هناك العديد من التَّماسات بينهما كسائرين، بل وكمخترعين لمسيرة كبرى مغايرة، بدأت في زيارة سعاد لصلاح في المستشفى في موسكو، وانتهت في غرفة العناية المركزة، ثم امتدت في المخيلة الشعبية كأحد النماذج الأولية الحديثة للاوعي الجمعي المصري.