imdb
مشهد من فيلم نوستالجيا، إخراج أندريه تاركوفسكي (1983)

مسارات جانبية للنوستالجيا

منشور السبت 7 يونيو 2025

منذ وعيت على أن هناك مجتمعًا أبعد من الأسرة والمدرسة والشارع نتشارك معه مشاعر نوعية، كانت النوستالجيا التي تعني "الحنين إلى الماضي" أو "الحنين إلى الوطن"، أو "ألم العودة إلى الوطن"؛ أحد هذه المشاعر، التي تحرك المجتمع وتسكن دواخلنا كأطفال وشباب وكبار.

استمرت النوستالجيا بعدها بالقصور الذاتي، وبعجز الحاضر عن أن يكون مُشبعًا لمعاصريه.

بدأ هذا الحاضر الذي عايشته عبر عقود يتراجع، ويكشف عن عورات داخله، فاستفرد الماضي بالذاكرة، بعيدًا منفصلًا عن الحاضر، يحمل شجن العودة إلى الفردوس، أو المكان والزمان المثاليين.

وظلت النوستالجيا تُشكِّل هذا الخيط البارز في النسيج الشعوري للنفس، تلعب دورًا محوريًا لا ينتهي وراء مسرح الحياة اليومية، حسب الجيل والعلاقة بالماضي.

أول نوستالجيا شخصية عاصرتها كنت في الثامنة، وكان لها علاقة بالسفر. نُقل عمل أبي في التعليم من الإسكندرية إلى سوهاج نهاية الستينيات. للمرة الأولى تعيد الغربة بناء نفسي. كنت أحلم طوال العامين اللذين قضيناهما هناك ببيت العائلة في الإسكندرية، وأنتظر إجازتيّ منتصف العام ونهايته بفارغ الصبر للعودة إلى الزمان والمكان المثاليين.

تجزُّء الحنين

امرأتان في أحد شوارع القاهرة في الثمانينيات

ربما عقدا الثمانينيات والتسعينيات ساقطان من ذاكرة الحنين الجماعي إلى حد كبير، قياسًا بعقد الستينيات حيث انفصل الماضي في الأخير، وأصبح بعيدًا مؤهلًا وجاذبًا للحنين. ليس بعدد السنوات التي انقضت، ولكن بقوة التحول بعد ثورة 1952 وتغيير التركيبة الاجتماعية، تكثّف الإحساس بتقادم الزمن وأصبح العهد الملكي أحد الأزمنة المثالية التي يود الكثيرون من مُجايليه العودة إليه، وتجاوُزَ هذه الحدود اللامرئية التي تُشكِّلها مسافة الاشتياق بينهم وبين الماضي.

ثم بوفاة عبد الناصر وانتهاء العهد الناصري، ظهرت علامة فارقة جديدة للعلاقة مع الماضي. أصبح هناك حنين مُبجَّل لما قبل وفات ناصر بين قطاعات عريضة من مناصريه، خاصةً الطبقة المتوسطة والفلاحين والعمال، بسبب وعود المساواة التي قطعها على نفسه، وبسبب تسارع تطبيق سياسات الانفتاح في عهد السادات، وتخلي الدولة التدريجي عن الوقوف بجانبهم.

في الثمانينيات والتسعينيات، كان المشهد السياسي والاجتماعي بالنسبة للأجيال الجديدة ثابتًا إلى حد كبير. لا شيء يتغير إلا ببطء شديد، كأن الحاضر أصبح أبدًا لا يمكن أن يكشف عن زمن آخر داخله. ربما كانت هناك لدى الأجيال الجديدة آنذاك بقايا حنين نضالي خافت، قادم من الستينيات عبْر أغاني الشيخ إمام، نتيجة انقلابات السادات السياسية ومعاهدته مع إسرائيل.

ثم مع ظهور طبقات ثراء جديدة في عهد مبارك بدأ الحنين يأخذ شكلًا استهلاكيًا، طاويًا أي نفحة نضالية. وربما حدث تغيّر في مفهومي المكان والزمان المثاليين اللذين أصبحا أكثر مادية عند تخيُّلهما، اتساقًا مع ارتفاع سقف المجتمع في الثراء وأنماط الاستهلاك والترفيه، بل تعدّيهما أحيانًا إمكانات الخيال المتقشف لهذه الأجيال.

ولكن مع الألفية الجديدة وأجيالها، حدث تجزيء للحنين. سرى مرة أخرى الحنين النضالي في جسد المجتمع الثقافي لحالات شعورية يُجسِّدها أشخاص وفنانون وكتاب وأفلام قديمة من أزمنة الأبيض والأسود، وليس لزمن بعينه.

هذه الأفلام في بعض الأحيان قامت بدور الزمن المثالي الغائب. ولا أنسى شرائط الكاسيت المرسلة في الثمانينيات والتسعينيات للمغتربين المصريين في العراق وغيرها، التي كانت أرشيفًا صوتيًا له.

بسبب السوشيال ميديا ثم ثورة يناير، أعيد بعث أغاني الشيخ أمام على سبيل المثال، إلى أن هدأت فورة الثورة، وانفصل الحنين عن زمن ومكان التحرر المثاليين، وبعدها تحول الحنين/النوستالجيا إلى سلعة خالصة لها مدى واسع من الاستهلاك والتأثير.

سلعة النوستالجيا

بدأت علاقتي بالكتابة في التسعينيات. كان الماضي مُهملًا، ربما كان الحنين موجودًا ولكن ليس له زمن أو مكان مثالي يعود إليه.

بدأتُ بالكتابة عن الطفولة والعائلة وغيرها، وكلها من أدوات الماضي، مستخدمًا نوعًا من الحنين النقدي الذي يأخذ مسافة معه. ثم تلاها بسنوات تأسيس مجلة أَمْكنَة، وكانت تسرد تجارب الماضي وتحولاته. كل هذا أوجد مكانًا وزمنًا لهذا الحنين الذي كان يُنظر إليه أحيانًا بوصفه نقيصة.

بدأت تتشكل في الأوساط الثقافية مواصفاتٌ للكاتب الـ ما بعد حداثي، بوصفه نموذج العصر هو وكتابته مقطوعي الصلة بالماضي، على المستوى الظاهري. فكان الحنين وروافده مستبعدين تمامًا.

ربما كانت النوستالجيا كمفهوم تتشكل عالميًا في حقل السياسة، فالنسبة الغالبة منها كانت تدور حول انهيار أنظمة شمولية، ورغبة استعادة أزمنة ذهبية للحكم؛ أكثر من حضورها في حقل الحياة اليومية التي كانت تتعامل مع النوستالجيا بالقطعة، وعلى نواح محددة كما بينت.

وربما كان وراء هذا نظام عالمي بدأ يفرض بقوة تأثيره على امتلاك هذا الماضي، وربما الاستفادة منه واستهلاكه، وأحيانا استخدامه كوسيلة تميز أو بعث لهوية.

الحنين بوصفه أحد تجليات الوعي الجمعي، يعكس صورة الوطن المفقود لدى الحالم المهزوم

كان هناك توافق بين الرأسمالية وهذا المد الجارف من الحنين ورموزه خلال العقود الأخيرة. يكتب الباحث خالد حنفي علي "اللافت أن الرأسمالية العالمية عززت المناخ الحنيني في العالم عبر تسليع 'الماضي'، من خلال معروض من السلع الثقافية والفنية، والسينما والوثائقيات وغيرها، تلامس الذاكرة التاريخية للمجتمعات وتحفز الرغبة الحنينية".

وكذلك "مع ثورة التكنولوجيا والاتصالات، تمددت أيضًا 'رسملة الحنين'، إلى الفضاء الإلكتروني، فعملت السوشيال ميديا على خلق ذاكرة لمستخدميها عبر تذكيرهم بتغريدات ومشاركات وصور قديمة لهم لتعزز ارتباطهم الاستهلاكي بها من جهة، وتشكل جسرًا يربط بين هوياتهم الافتراضية والواقعية من جهة أخرى".

عادت النوستالجيا في حالة شعبوية، وأنشأت حنينًا مستعارًا مع الماضي أصبح مكان تبارٍ بين مجموعات وجروبات "الزمن الجميل"، منها ما خصَّ مدينة الإسكندرية، التي تسطَّح معناها فأصبحت فرعًا رئيسيًا لهذا النشاط الاستهلاكي، وتحول ماضيها إلى سلعة لا يمكن الوصول إليها وحيازتها إلا عبر النوستالجيا المعلبة، وهي لم تعد نزوعًا شخصيًا للماضي لتعويض الفقد، بل نوعٌ من الترف، فظل هذا الجانب الحقيقي والمشروع وغير المسلع من النوستالجيا غائبًا عن التمثيل في علاقته بالماضي.

نوستالجيا المنافي

ارتبط الحنين بالمنفى بأصحاب الأحلام الكبرى والثورات الفاشلة.

فرد يقف أمام وطن غائب. الحنين، بوصفه أحد تجليات الوعي الجمعي، يعكس صورة الوطن المفقود لهذا الحالم المهزوم. لقد وسعت هذه الأحلام الكبرى من مسؤولية الذات وحملتها ما لايطاق من النوستالجيا، التي أضحت مرضًا اسمه ألم الفراق عن الوطن. 

هناك رحلة اغتراب/حنين خالدة قام بها عوليس، أحد أبطال حرب طروادة، للعودة إلى وطنه إيثاكا، وخلّدها هوميروس في الأوديسة. يعود عوليس بعد عشر سنوات مليئة بالمغامرات يكابد فيها الحنين المرضي إلى وطنه وإلى بينلوبي زوجته.

سنوات موازية بلغت 19 قضاها الزعيم أحمد عرابي منفيًا في جزيرة سيلان بعد فشل ثورته. مثل عوليس، كان يحن للعودة إلى الوطن رغم أنه اصطحب عائلته كثيرة العدد معه إلى منفاه، ولكن لم يفارقه ألم العودة إلى الوطن، وقدّم العديد من الالتماسات للخديو توفيق للعفو عنه مُبديًا استسلامه.

يصف حاكم سيلان، التي قضى بها عرابي سنوات المنفى، الفارق بين هيئته عند وصوله ثم بعد مضي خمس سنوات، حيث صُدم لتبدل حالته الصحية والمعنوية "ساءت صحته وانتابه اليأس وزهد في الحياة، وظهر عليه كبر السن وهاجمه المرض، وأصيب قلبه بداء الحنين للعودة للوطن". ويكشف عرابي لصديقه الإنجليزي مدى اشتياقه للعودة إلى وطنه لينهي حياته في ترابه.

نوستالجيا تاركوفسكي

في الثمانينيات، قرر المخرج السوفيتي أندريه تاركوفسكي عدم العودة إلى وطنه، مُمضيًا سنوات حياته الأخيرة يعمل بين إيطاليا وفرنسا والسويد، ومات بسرطان الرئة عام 1986 عن 54 عامًا، ودُفن في باريس.

خلال هذه السنوات أخرج فيلم Nostalghia/نوستالجيا (1983)، عن أندريه جورشاكوف، وهو كاتب وشاعر من موسكو متخصص في تاريخ النهضة الإيطالية، يسافر في رحلة إلى إيطاليا متتبعًا حياة موسيقار روسي عاش هناك في أواخر القرن الثامن عشر. كان الموسيقار يخشى العودة إلى روسيا لأنه كان عبدًا لأحد المُلّاك، لكنه لم يقدر على الاستمرار، وعندما عاد لموطنه شعر بالاختناق وأدمن الكحول ثم انتحر.

https://www.youtube.com/watch?v=QDax5tf2aqo

يحاول الكاتب ذهنيًا في الفيلم استعادة رحلة الموسيقار في أنحاء إيطاليا، يتقصِّي الأماكن والمشاعر التي عاشها، كأنه يجسد الحنين ويرسم صورة لا مرئية له.

في حوار معه يقول تاركوفسكي "لقد أردت أن أقدم فيلمًا عن النوستالجيا الروسية (...) عن الارتباط القدَري للروس بجذورهم الوطنية". ويضيف "الجميع يعرف عن عدم قابلية الروس المأساوية للتكيّف والانسجام في الغُربة. كيف كان بوسعي أن أتخيّل أن الإحساس الخانق بالشوق الذي يملأ فضاء الشاشة سوف يصبح قدَري بقية حياتي؟ من الآن وحتى آخر أيام عمري، سوف أحمل هذا المرض الموجع -الحنين- داخل نفسي".

حنين نقدي

وربما كان النزوع للحنين له مشروعيته في أي وقت، لأن الحاضر أصبح غامضًا ومحاطًا بحجب كثيفة، ومن الصعب كشف كل تحولاته وخلق أدوات لنقده أو الاشتباك معه شعوريًا.

لم يكوِّن هذا الماضي أي أدوات لنقده، غير الأدوات السياسية، لذا لم يقدِر أن يلمس عمق هذا الجرح الكامن في الشعور بالفقد: أن لا جديد يغذي روح العالم بتجارب ملهمة، وإنما نستهلك الروح والنماذج القديمة.

في المقابل هناك دوافع أعمق تدفعنا للماضي، تتالي الزمن يجعلنا نخشى من الذهاب بأقدام واثقة نحو الموت، نريد أن نتمسك بعلامة تمنع هذا الانجراف للزمن وهروبه من بين أيدينا.

ليس الخوف من الموت وتقدم العمر فقط مايربطنا بالماضي، بل لأن لنا شيئًا عند الماضي يجب أن نناله. الحنين أداة من أدوات الاستعادة لهذا الشيء، فبدايات التكوين كانت هناك، فلنمسك بالخيوط الأولى لوجودنا بهدوء.

خطوة للوراء للطفولة، عبْر الصور وعبر الحياة التي كانت، تُشكِّل فردوسًا، مهما كانت درجة استغلالها، لأنها كانت بعيدة عن متناول الموت، وأيضًا لم نكن ندري آنذاك معنى تقادم العمر.

أتمنى أن يكون هناك حنين نقدي يقترب من الماضي بمسافة لتأمله، أن يكون هناك من يقاوم الحنين أو يهزمه، ولكن الذاكرة أيضًا تحتفظ بالفيلم كاملًا بعد أن تعتق وأضاف لون السيبيا البني جماله على المشهد. داخل هذا المشهد المعاد والمكرر للماضي، هناك مشهد آخر يخصنا ويخص حنيننا له.