بمجرد الخروج من باب البيت، أتحول إلى شخص غريب عن نفسي والآخرين، عند الانتقال من حال إلى حال مغاير تمامًا، بدون أي مرحلة وسطى وكأننا نؤخذ غيلة، ونُرمى في هذا المطهر الدنيوي الكبير. يتسرب هذا الشعور الوهمي بالسكينة والاتساق من باب خلفي، أو يسقط في إحدى البالوعات التي تطفح منها مياه المجاري وتأخذ في طريقها ما تحتجزه جوانب الأرصفة.
أول ما يقع بصري عليه عم حسين بائع الفاكهة الصعيدي بجلبابه الأصفر الخردلي الذي يقف على ناصية شارعنا بعربة اليد الخشبية، محتلًا تلك الزاوية الذكية المطلة على ناصيتين "صباح الخير يا باشمهندس". ألقي نظرة على فاكهته وألوانها، وأشعر بتفاؤل من تعدد ألوان ومذاقات الحياة.
على الرصيف الآخر من دكانه المتنقل، الذي يدور حول مربع سكننا، تجلس امرأة ريفية وظهرها لعمود الإنارة، تبيع المناديل لتلاميذ المدرسة الابتدائية، حيث تتجمع أمامها عشرات الأمهات يحرسنَ أولادهنَّ، وهنَّ جالسات على الرصيف يتبادلنَ أحاديث جانبية. وفي أوقات الفسحة، يخرج التلاميذ إلى الشارع ليتناولوا أكواب الإندومي الساخنة من السوبر ماركت المواجه للمدرسة، لتتدفأ أفئدتهم وأصابعهم.
أنامل بوجهين
هذه الأنامل البريئة للتلاميذ ستتحول إلى مفجرات لأقماع البارود والبُمب والصواريخ بعد انتهاء اليوم الدراسي استعدادًا لدخول رمضان. يتحول الشارع بمداخل عماراته إلى حرب شوارع يشنها هؤلاء الأطفال/الـ gangs.
أسمع حناجرهم تزأر "بالطول والعرض ناجحين إن شاء الله" وهم يسيرون في مظاهرة بعد أحد الامتحانات. ربما يفتعلون هذه الفرحة المزيفة وهم يسيرون في جماعات يتبادلون الركل والسب العاري من أي براءة، وتمزيق أوراق الكراسات. لم يعد للطفولة هذا الجانب البريء والمتجاوز. تماهت البراءة مع المجتمع وشتائمه وقوانينه الخاصة، وفقدت الطفولة براءة انتهاكاتها.
ينتفض جسدي لهذه الفرقعات المتوالية، بالرغم من توقعها، فيما كلبتنا لوزة تبحث عن أبعد نقطة في البيت لتختبئ فيها اتقاءً لهذا الصوت الذي يتضخم في أذنها، فتمتنع عن تناول الطعام حتى تعود إليها سكينتها.
كنا في طفولتنا نصنع ما يُسمَّى القنبلة؛ نفرغ في علبةِ صفيحٍ بارودَ وزلطَ عشرين بُمبة صغيرة، ونقذف بها إلى أعلى ونتركها تنفجر بصوت مدوٍّ، نخرق به صمت الفضاء البرجوازي من حولنا.
صراع وجودي مع الزبالة
أعبر حيث يقع قسم البوليس. أصادف العشرات الذين يكتظ بهم الشارع يقفون أمام أحد الشبابيك المظلمة، ليقدموا أوراق اعتمادهم للحياة. أقطع هذا الطابور الثعباني، الذي سرعان ما يعيد التئامه من جديد.
بجانب القسم هناك فيلا صغيرة تملكها امرأة عجوز تبقت مِن شجرة عائلتها التي لم أعاصر سنوات إثمارها، فقد جئت إلى هذا الحي بعد أن سقطت كلُّ أوراقها. هناك صراع وجودي بين هذه المرأة التي تخطت الثمانين، وبين أكوام الزبالة التي توضع جوار سور فيلتها.
لم يشفع لها أنها تسكن بجوار قسم شرطة، أرى يافطات يدوية تحمل تحذيرات جمَّة بكل عبارات التهديد، تصل أحيانًا بفرض غرامة كبيرة، استنتها المرأة بسبب جيرتها للقسم الذي بدوره لم يكن رادعًا في درء التعدي. هناك أيضًا عبارات الوعظ، تستعين فيها بآيات من القرآن، وصولًا لعبارات الاستجداء. كلُّ هذا لم يُجدِ في منع الجيران اللامرئيين الذين يتسللون ليلًا، من إلقاء الزبالة.
أخيرًا وَجَدَت الحل؛ جاءت بإصيصات بلاستيكية كبيرة وضعت بداخلها أشجارًا جاهزةً، وحاوطت بها سور فيلتها المنخفض. تردع المتسللين بالجَمال الذي نسيناه في المدن.
منذ أسبوع وحتى الآن، لم يخرّب أحد هذا الردع الجمالي الذي أفقد الأشجار وظيفتها، وحولها إلى شفرات جارحة موجهة إلى الخارج، مثل قطع الزجاج التي كانت توضع على حواف الأسوار.
ما زلت أتنفس هواء البيت
أصل للشارع الأكبر من شارعنا الفرعي. هناك مقهى صغير كان مغلقًا في سنوات كورونا، تحمل يافطته صورة لرئيس الجمهورية بنظارته السوداء وملابسه العسكرية، وبجانبه عبارة من مظاهرات 30 يونيو "خش عليه يا CC"، وفي النهاية علم مصر.
بجوار المقهى يتناثر عدد من العرضحالجية، وأمامهم العشرات ممن سينضمون لهذا الطابور الثعباني، راغبين في تسويد إحدى أوراق اعتمادهم في الحياة. في السنوات الأخيرة، انضمت نساء لهذه المهنة، على درجة أكبر في التعليم من العرضحالجية القدامى الذين يفكون الخط.
أقطع كل هذه المسافة وما زلت أتنفس هواء البيت، أنظر داخلي للمدى المتوحد مع الأشياء التي تركتها خلفي، بتردداتها وإشعاعاتها التي اعتدت عليها.
على الناحية الأخرى من الشارع، تهلُّ دوامات الأصوات العشوائية لطوابير مغايرة، حيث تقبع العربات الكبيرة للشركة الوطنية للزراعات المحمية التي تبيع الخضروات، فيما البائع يقف أعلى العربة يزن الأكياس، ويناولها للأيدي المرفوعة كأنها تبتهل لشيء مقدس. ثم تتلوها أكشاك بيع اللحوم، لشركة أمان والمنطقة الشمالية العسكرية، معلق على واجهتها عينات لحوم من بيت الكلاوي والأفخاذ والفليتو بجانب شرائط السجق، التي تشبه الستارة الحائلة بين المشتري، والبائع الواقف بداخل الكشك.
اللحم والمعدن جنبًا إلى جنب
أكمل المسير. أصل إلى دكان بيع حصص السجائر الحكومية التابع للشركة الشرقية للدخان "إيسترن كومباني"، تقف أمامه طوابير أخرى من القومسيونجية، نساء ورجال، على التريسكل المميز لاستلام حصصهم وضخها في شرايين أمزجة المدينة الفقيرة. تذكرت طوابير سجائر السوبر في السبعينيات. كان من المهم أنَّ تملك واسطة في أحد محال الخردوات أو البقالة أو الأكشاك، لتؤمِّن لنفسك ولأبيك علبة سوبر يوميًا.
أعبر تقاطعين. أمر بنساء ريفيات يفصصن حبات البازلاء ويعبئنها في أكياس، مع مربعات الجزر. تسبقني رائحة محل الكشري وسندويتشات الفول والفلافل، الذي فتح مؤخرًا على الناصية. أعبر هذا المنزلق الصغير باتجاه مزلقان القطار، أفاجأ بعشرات التكاتك المخالفة في طريق السير، وهي تصطف، دون خوف، بالقرب من نقطة الشرطة التي تقع على الناحية الأخرى من الشارع.
تحولت التكاتك إلى صراصير هاربة من بالوعة المدينة الكبيرة، تؤوي آلاف العائلات من العواطلية والمستبيعين من الشباب. تتسم لغتهم وسلوكهم بطفرة في لغة الصياعة والجرأة. ربما من آثار البرشام وغيره من كيماويات العصر الحديث، التي منحتهم إمكانية الطيران فوق الطبقات والعربات وأصحابها، والعبور من خرم إبرة. نسيان مؤقت، وذاكرة بيضاء صفرية لا تعترف بأي فوارق.
لا يخلو عبور هذه الشوارع من أداء رياضي، وتموجات مع حركة الحياة والتكاتك والميكروباصات والدراجات والموتوسيكلات. لا حرم ولا حُرمة لجسدك الذي يقترب منه الحديد. نسير وسط العربات، والعربات تسير بيننا، واللحم والمعدن يسيران جنبًا إلى جنب.
الحق في المدينة
أعبر مزلقان القطار، حيث عشرات بائعي السمك السريحة بطاولات مهترئة، يعرضون بضاعتهم من البوري والسردين والبساريا وأم الخلول والكابوريا الصغيرة، وجمبري الصيد، والمحارات، والثعابين، بجوار سريحة بيع الجوارب والكلسونات أم 3 بعشرة جنيه.
بجوارهم على جانبي قضيب القطار تقع مزبلة أخرى تطاولت أهراماتها بعد توقف قطار أبو قير عن العمل، وبسببه قُذف بآلاف الركاب إلى الشارع، دون وسيلة مواصلات بديلة سوى عربات الميكروباص التي تقف بحذاء شريط القطار لتتلقف هؤلاء الساقطين. يحيط بموقف الميكروباص عشرات من بائعي الفاكهة والخضار والأكشاك العشوائية، وقطع غيار البوتجازات، والمفكات، والنظارات الشمسية، وغيرها وغيرها.
أصِلُ للشارع الكبير وبجواري التائهون أمثالي الذين يسيرون على أرجلهم، وعيونهم منقسمة بين الداخل والخارج، ليكون للسير معنى غير الانتقال من مكان لآخر.
خلال هذه الرحلة أشعر بأني منزاح عن مركز المدينة والشعور معًا، أقف في فراغٍ جغرافي ونفسي، صحراء الواقع، ولكنها صحراء جديدة للمدينة التي يسكنها الملايين.
باعدت المدينة بيننا وبينها معنىً ومبنىً، بعد أن كنا نملكها في وقت ما، وكان لنا حق فيها كما كتب الفيلسوف الفرنسي الماركسي هنري لوفيفر في كتابه الحق في المدينة، واصفًا باريس بعد التغير الذي طرأ عليها، متذكرًا حقنا كمواطنين في المدينة، أي مدينة، بعد أن صار يحركها رأس المال وفائض قيمته.
الأبجدية الخشنة
أعبر طريق الحرية، أو الشارع الكبير، للضفة الأخرى. أصادف هذا الولد الصغير الذي أراه منذ أربع سنوات يجلس على الأرض وظهره لجدار المدرسة الأجنبية، وأمامه فَرشَة عليها عشرات المناديل الورقية. طال جسمه ولكنه لم يغير جلسته المهينة على الأرض مباشرة، ولا مهنته. بالطبع كان يتبع أحد الكبار الذين يقومون بتسريح قافلة من الأولاد.
المسافات بين الجميع قريبة للغاية لدرجة موحشة.. فيما الذوات منفصلة
ينظر لي من بعيد في حذر، يتمنى أن أقترب منه وأمنحه المعلوم الذي يفرح به. أحيانًا أفعل، وأحيانًا أخرى أتغافل عنه عمدًا، حتى لا أنصاع للشفقة. أمضي في طريقي لاستقلال الترام بحذاء سور المدرسة الأجنبية، حيث درس عمر الشريف ويوسف شاهين.
أعبر ببائع الكتب القديمة وبوسترات السبعينيات الذي يغلف بضاعته آخر اليوم في أجولة الدقيق، ويربطها بالحبال، فيما يعلق البوسترات على أحد أجزاء سور المدرسة الأجنبية الأسمنتي. هناك مساحة أمامه يشغلها سور آخر حديدي وقطعة أرض منبسطة. وجدت هذا البائع يضع عِدَّة الشاي والسكر في هذا الخن المتواري.
أواصل السير، أصل لعربة الكبدة الحرشة، السندويتش الفينو بـ 4 جنيهات. تُسيِّل رائحتها لعابي أكثر من رائحة الكشري الصباحي. أدخل نفق زمام محطة الترام بجوار عربة الكبدة، أعبر بمبولة المحطة ورائحتها النفاذة، وفي نهاية النفق تقع غرفة المفتشين الذين يجلسون كالتلامذة في فصل مزدحم، وأمامهم براد الشاي الألومنيوم. من حولي يعبر العشرات هذا النفق الواصل بين الترام والشارع الكبير.
هذه الأبجدية الخشنة للمدينة، هذا التنافر الجم، والاختلاف الجذري على مستوى الأجساد والطبقات والغايات وليس فقط على مستوى الضياع والتوهان والخوف الداخلي. المسافات بين الجميع قريبة للغاية، لدرجة موحشة، فيما الذوات منفصلة، والخروج نهائي من الرحم دون عودة، فالعودة نسخ للخروج، حتى يتماهى البيت والشارع.
بينما نسير وسط هذه التكتلات البشرية المتنافرة، هناك مدينة أخرى داخل المدينة وخارجها، تعكس شكل اليوتوبيا، كما يتخيلها أصحاب رؤوس الأموال. هناك مدن مغلقة نظيفة لها نطاق جغرافي يفتح على البحر أو الصحراء.
احتُلَّ مشهد البحر بأسوار، ليتحول إلى مراسٍ لليخوت ومنتجعات، ووُضعت بلوكات خرسانية تحول بينها والشارع، كحاجز بين مجتمعين لا يجب أن يختلطا، في تمهيد رمزي لما سيصبح عليه الوضع.
بينما خارج الإسكندرية، هناك مدن أُنشئت داخل صحراء الواقع، حيث المساحات الواسعة والأسوار العالية والجنائن الخضراء والكباري المتقاطعة والطرق السريعة. كم من مجتمعات أزيلت، سواء في الماضي أو المستقبل، لتظهر هذه الجغرافيا النفسية الجديدة للمدينة؟
مدن متمردة
يكتب المفكر الماركسي ديفيد هارفي في كتابه مدن متمردة معلقًا على كتاب الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر عن باريس "الحق في المدينة":
"تصنع المدينة هيتيروتوبيا فضاءات وأمكنة مغايرة، يرى لوفيفر أن الثورة تنتج من: التلاقي العفوي في لحظة التفجر عندما ترى الجماعات الهيتروتوباوية اليائسة فجأة، ولو للحظة عابرة، إمكانية العمل الجماعي لخلق شيء مختلف جذريًا".
يعرف جوجل الأماكن المغايرة، عن الأخرى المثالية، وهو التعريف الذي صكه وشرحه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في مقاله أماكن أخرى:
"الأماكن المُغايِرة هي مواقِع حقيقيَّة، كثيرًا ما تكون مُؤقَّتةً، وغالبًا ما تكون مرفوضة من المجتمع أو السّلطة، يلوذ بها الإنسان مُضطرًّا (المصحّة العقلية)، أو راضيًا (المكتبة)، أو مارًّا (المطعم)، أو مُسافِرًا (الفندق)، أو ثاويًا (المقبرة)".
عند عودتي إلى البيت عصرًا، أجد عم حسين في مكانه، بعد أن قام بعدة جولات في المحيط، باع ما باع، ولكن بالِتّة ألوان فاكهته لا يزال بها ما يبعث على التفاؤل. أحيانًا أجده غافيًا بجوار جنته الصغيرة. ومن جانبه يمر بائعون سريحة يصيحون في ميكروفونات خربة تعمل على بطاريات قديمة لعربات مُستهلكة. أستعيد معهم شتاءات المدينة القديمة، عندما كان صوت نداءات البائعين علامة الحركة في الشارع الصامت. كانت هناك شِعريِّة للمدينة، لها هذا الطابع الريفي.