
قاهرة المدن المغلقة
في الأيام الأولى من ثورة يناير، شهدتُ جامع قمامة شاب يقف في منتصف شارع الدلتا بحي سبورتنج بالإسكندرية يفرز القمامة، متحديًا العربات التي تراجَع أصحابها خوفًا من الرمز الذي بُعث مع الثورة وأدبياتها. صرخ الشاب في وجه أصحاب العربات والسائرين على أقدامهم "الشارع ده بتاعنا"، مثلما صرخ صلاح جاهين على لسان علي المدبولي/أحمد محرز في فيلم عودة الابن الضال "الشارع لنا، إحنا لوحدنا، والناس التانيين دول مش مننا".
بعد غياب الحشود التي كانت تحمي الرموز والأفكار المرتبطة بأحلام التحرر؛ عادت إعلانات المدن الجديدة ذات البوابات لتحتل شاشات التليفزيون ولكن بشكل أكثر شراسة وعجرفة.
لم يعد هناك حرص على مشاعر الناس، ولا خوف من رمزيتهم التي اكتسبوها أثناء الحشد. بدأ رأس المال يغازل الطبقة الجديدة النامية التي ظهرت بعد ثورة يناير، وبدأ نمط سكان إيجبت يتبلور في فيلات وشوارع وحدائق الكانتونات المحمية.
لم نعد الآن بحاجة للتدليل على الفجوة الطبقية الضخمة بين مجتمعين يعشيان في هذا البلد، ولا للتدليل على وضوح المصطلحين الجديدين؛ "سكان إيجبت" و"سكان مصر" في المخيلة الجمعية، فهما يمثلان السهل الممتنع في التعبير عن الأزمة.
يعود تاريخ هذه الفجوة وهذا التقسيم إلى بدايات التسعينيات مع مشاركة الدولة والقطاع الخاص في بناء المدن ذات البوابات على الساحل الشمالي وفي الصحاري، ليسكنها سكان "إيجيبت" الذين ارتبطوا، في المخيلة الجمعية، ليس فقط برفاهة السكن بل بثقافة كاملة تضم السلوك واللغة، والانفصال عن سكان مصر. بالإضافة إلى بذخ ترويض الصحراء من الاتساع الاستثنائي للشوارع ومراكز التسوق كمول العرب، إلى ارتفاع أسوار الفيلات الصحراوية.
ذروة أشكال الخطر
في دراسة مهمة للغاية صدرت عام 2006 ضمن كتاب القاهرة مدينة عالمية، ثم نُشرت في العدد 103 من مجلة الكتب وجهات نظر، أغسطس/آب 2007، يناقش الباحث الجغرافي إيريك دينيس انطلاقًا من فترة إقامته في القاهرة لأربع سنوات، ظاهرة المدن ذات البوابات ومدى تأثيرها على تمزيق النسيج الاجتماعي للقاهرة، واعتبارها إحدى علامات الخطر، ويتنبأ باضطرابات قادمة نتيجةً لهذا الفارق.
"ربما كانت القاهرة هي المدينة التي تجسد نماذج الليبرالية الجديدة وبطريقة تعتبر مثالًا للتناقض والاضطراب من ناحية التقدير العالمي. ويمكن اعتبار المجتمعات السكانية ذات البوابات الخاصة، كمثالٍ لذروة أشكال الخطر. وحتى الآن فإنها تخلق بوجودها الحقيقي العديد من أعمق الأخطار الاجتماعية والهشاشة، والضعف العام".
اختار إيريك رجل الأعمال أحمد أشرف المنصوري، الساكن في كمباوند دريم لاند، ممثلًا لسكان إيجيبت ورمزًا للطبقة التي تسكن وراء البوابات. وهو شخصية خيالية اخترعها المؤلف كتجميع روائي للعديد من الشخصيات التي قابلها طوال السنوات الأربع التي قضاها في القاهرة، ويستحضر من خلالها الخطوط العريضة لخبراتهم ورؤيتهم للقاهرة الجديدة.
يمتلك المنصوري مصنع ألبان صغيرًا، ويحب لَعِبَ الجولف للتنفيس من ضغوط العمل، متزوج وله عدة أبناء لم يَذكر عددهم، لكنَّ كبيرهم يدرس في لندن.
لا تقوم الدراسة فقط على الحس التخيلي، بل يحلل المؤلف الأرقام ومصادر الثروة في مصر وأشكال توزيعها غير العادلة. كما يحلِّل نشأة هذه المجتمعات التي فرضت طريقة حياتها، وبسببها ترسَّخ تعريف الآخر من "سكان مصر" بأنهم عشوائيون. فمصطلح العشوائية ظهر مع نشأة المجتمعات والمدن المغلقة، التي تدير ديمقراطيات ذاتية فيما بينها، بينما "سكان مصر" غارقون في الزحام والغضب، والتواطؤ، والفساد.
حياة أحمد أشرف المنصوري
يتتبع المؤلف مسار وهواجس ومخاوف وأحلام رجل الأعمال خلال رحلة عودته من المكتب في الطابق الحادي عشر من مركز التجارة العالمي المُطل على النيل، إلى بيته في الكُمباوند. يغادر المكتب، يجلس في سيارته المكيفة بزجاجها العاكس، بينما يتجنب السائق زحام وسط البلد فيلجأ للطرق الملتوية.
يفكِّر المنصوري في طريق عودته بلعب جولة جولف تتبعها مناقشة في النادي الاجتماعي مع صديقه ياسين الذي يعمل في وزارة المالية، ثم يتمشيان للبيت، وبهذا يكون قد أزال ضغوط اليوم العصيب الذي بدأ في الثامنة صباحًا.
كان رجل الأعمال يمر بضائقة في معاملاته التجارية، فهو من ناحية لم يوفَّق في احتكار للأيسكريم، وضاعت منه فرصة شقة سكنية بسبب انخفاض قيمة العملة، وعدم توفرها في السوق. كان شعاره الذي يرفعه "كل شيء محفوف بالمخاطر".
ولكن ما خفَّف من ضغط اليوم ومخاطره، أنه حصل على عقد توزيع جيد مع سلسلة فنادق دولية لشراء كراتين الحليب التي يعبئها في مصنعه الصغير. فرتب نفسه على زيارة المصنع في الغد، قبل ذهابه لمكتبه في الثامنة صباحًا، ليسرع من الإنتاج.
لذا لا يجد المنصوري الوقت حتى للحديث مع ابنه الذي يدرس بالسنة الثالثة بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن. وهو الاختيار النموذجي للابن الذي سيعود ويصبح أستاذًا في جامعة مصرية خاصة، أو باحثًا يفحص المخاطر التي يعيشها المُهمّشون في مصر، بينما هو غارق في ترف الناس "التانيين" من سكان إيجيبت!
"وسط أسلوب الحياة الجديد توجد النخب المصرية، والتي تحمي نفسها من إعادة توزيع الثروة وتحمي نفسها من كل آثاره الضارة، وبالطريقة نفسها تنضم تلك النخب إلى النادي المتعدي للعواصم الخاص بالأرخبيل العالمي من الملاذات المسورة".
الأولاد الآخرون للمنصوري يقضون فترة بعد الظهر في حر أغسطس في مدينة الملاهي بصحبة ماريا الحبشية، وها هم الآن، بعد عودتهم للبيت متأخرين مع والدتهم التي ذهبت في "غارة" للشراء، يلعبون في حمام السباحة بحراسة محمود فرد الأمن.
بعدها يلقي المؤلف الضوء على ماريا، وسكنها في غرفة صغيرة خلف المطبخ ليست لها نوافذ، بعد أن تضع الأطفال في أسرتهم، تعود لمخدومتها لتساعدها في استقبال ضيوف المساء.
الإمساك بذيل المستقبل
بينما العربة تبتعد عن وسط البلد والمنصوري في طريقه للبيت، يتلاشى قلقُ رجلِ الأعمالِ الصباحيُّ. يلحظ المؤلف السائق وهو يغمز لشرطي المرور عند مطلع الطريق الدائري باتجاه المدينة ذات البوابات، في مستوطنة 6 أكتوبر، متجاوزًا "سكان مصر" الذين يعبر فوقهم دون أن يلتفت إليهم، أو يلفت نظره هذا العالم الذي يجهله؛ ويجتمع فيه هؤلاء الفلاحون سُكَّان العشوائيات المبنية بالطوب الأحمر.
اختيار المنصوري السكن في الكمباوند جعله ممسكًا بذيل المستقبل
هنا يتدخل إيريك دينيس داخل عقل المنصوري ويمنحه فرصة اكتشاف مصر الأخرى، أن يُدير ممثل سكان إيجبت رأسه ناحية سكان مصر، لتلافي الكارثة المتوقعة. وهو ما لم يحدث، ولو حدث ونظر للناحية الأخرى فلن يتعاطف، فالمؤلف يقطع عليه الطريق في انتمائه لبني جلدته. بل سيؤكد عندها على سداد اختياره للسكن بعيدًا عن هذا الكون العشوائي، المتخلف، الذي يشوه صورة القاهرة. لأنه، كما يقول المؤلف في الدراسة، تساوره الشكوك بأن هذه التجمعات العشوائية قد تتحول إلى حشود غاضبة منقادة من خطباء المساجد. فاختياره الكُمباوند، جعله ممسكًا بذيل المستقبل.
تعبر عربة رجل الأعمال الآن الأهرامات، ومنها إلى داخل الصحراء ليصل في النهاية إلى بيته عابرًا بوابات دريم لاند. و"اعتبارًا من تلك اللحظة لم يعد ينظر إلى العيش في الصحراء على أنه رحيل إلى الهامش، بل باعتباره نقلًا لمركز المدينة وتركيزًا جديدًا على أماكن الإبداع، ويعد هذا بمثابة عرض واضح لإعادة تركيز فضاءات القوة التي تصاحب إلى حد ما توسع المجتمعات ذات الأبواب".
يقع بصره على أبو محمود، حامل أدوات الجولف، في نهاية يوم عمله وهو ينتظر الميكروباص الذي سيقله إلى حيث يسكن، بالمشاركة مع 10 من الجرسونات والعمال، في شقة 40 مترًا في أقدم أحياء 6 أكتوبر جهة الغرب على الهضبة الصحراوية.
حياة مايكل ك
في دراسة إيريك دينيس إشارة مهمة تربط بين هذه المجتمعات ذات البوابات ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فهو نظام يتضمن بوابات لا-مرئية، تفصل لونًا عن آخر. "يجري تسويق هذه المشروعات العقارية، المجتمعات ذات البوابات، باعتبارها الموقع الأفضل لأسلوب الحياة ما بعد العاصمية، حيث اخترعت لتكون في منطقة وسطى بين مدن أمريكا القلاعية fortress الأخطبوطية، ومدن أبارتهيد المخاطرة الجديدة في جوهانسبرج".
في رواية عصر مايكل ك وحياته التي تدور في ثمانينيات القرن الماضي، يتتبع كاتب نوبل الجنوب إفريقي جي إم كويتسي حياة البستاني مايكل ك، وهو من الهنود الملونين يبلغ الثلاثين من العمر، ويتولى مسؤولية رعاية أمه المريضة، التي تحلم بترك العاصمة كيب تاون هربًا من العنف المصاحب لنظام الفصل العنصري؛ والعودة إلى مسقط رأسها في الريف "حيث يمكنها الموت تحت السموات المفتوحة".
ولد "مايكل ك" بشفّة أرنبية. ترك المدرسة بسبب ذكائه المحدود، ووجهه المشوّه، الذي حرمه من إقامة علاقات نسائية، فكان شعاره في الحياة "لقد خُلقت فقط للعناية بأمي".
يحجز مايكل تذكرتين للسفر. أول حجز بعد شهرين، ولكن التعليمات تفرض عليه الذهاب للشرطة لاستخراج تصريح بمغادرة العاصمة وفق قوانين الفصل العنصري. كانت السلطات تفرض سيطرتها على جموع العاطلين القادمين من الريف، فكثرت أعمال السلب والنهب. كان مايكل ك يسميهم "الجموع الغفيرة من الأفواه الجائعة".
العودة إلى الريف
بعد أن فشل في الحصول على تصريح، يصنع مايكل عربة صغيرة تُجرّ باليد، بها صندوق محمول على زوج من العجلات، ليحمل فيها أمه التي كانت تعاني تورمًا في قدميها، ويسافرا عبر الطرق الجانبية إلى مسقط رأسها في الريف.
ينامان في الليلة الأولى والثانية بعيدًا عن أعين البوليس في بيت مخدومي أمه، الذي نُهِب من عصابات الشوارع. يختار النوم سعيدًا في الحمام الفاخر. يواصلان الرحلة باتجاه الطريق العام، وهناك يفاجأ مايكل بنقطة تفتيش، تمنعه من المرور بدون تصريح. يضطران مرة أخرى لأن يسلكا طريقًا أخرى بعيدًا عن نقاط التفتيش. ولكن على هذه الطرق الجانبية كاد أن يتعرض للسطو.
تتوقف لهما شاحنة كبيرة، يأخذهما السائق، مع العربة، إلى نقطة متقدمة باتجاه الريف. مصاعب الرحلة تجعل أمه تفقد الشغف بالعودة، ويزداد المرض عليها مع آلام الصدر.
ثم إنها تموت في أحد المستشفيات، فيحرقون جثمانها، ويسلمونه بالطو أمه الأسود وكيسًا فيه رماد جسدها.
تبدأ رحلة جديدة تستغرق ثلاثة أيام وسط مشاعر الجوع والمطاردة التي تضطره للسير في ظلام الأدغال والنوم تحت الكباري، وفي مروج لا يعرف أصحابها، يأكل فيها من نبات الأرض وطير السماء. كل هذا ليهرِّب كيس الرماد إلى مسقط رأس أمه.
عندما سأله أولاد أحد الرجال الذين ساعدوه في الرحلة عن ماذا سيفعل بكيس الرماد؟ "سوف آخذه إلى المكان الذي ولدت فيه أمي منذ زمن بعيد، وهي التي طلبت مني ذلك".
ينجح بالنهاية في الوصول إلى حيث عاشت، فيجد المكان خربًا، وغير مأهول، فيختار قطعة أرض ينثر فوقها الرماد ويخلطه بالتراب.
قفز مايكل ك فوق العديد من البوابات اللامرئية الملونة حاملًا كيس الرماد. الموت وحده هو الذي جعل أمنية أمه تتحقق. لكن مايكل، من ناحية أخرى، يكمل رحلة التحرر، ليرى الحياة بطريقته، ويعود إلى زراعة الأرض، بعد أن تحرر من سلطة الأمومة.
رحلتان للعودة، إحداهما لرجل الأعمال المتخيل أحمد أشرف المنصوري داخل قاهرة المدن المغلقة ليستقر في بيته خلف بوابات الحماية، وكأنه يعود للرحم، والثانية لمايكل ك، إلى الريف، لينثر رماد أمه، وفي الوقت نفسه يتحرر من سلطتها، وسلطة كل البوابات التي كانت تحجر على حركته.
الآن، زادت في مصر المجتمعات ذات البوابات، بينما في جنوب إفريقيا، هناك صراع منذ انتخاب مانديلا في التسعينيات لتحرير المجتمع من آثار الفصل العنصري، وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، وتحقيق مناخ ديمقراطي "فجنوب إفريقيا من أنجح نماذج التحول الديمقراطي في قارة إفريقيا".