
تحولات الفردانية والعنف| مجتمع غير مرئي
في مشهد صادم وقع مطلع هذا العام بداخل مدرسة دولية راقية في إحدى المناطق الجديدة في القاهرة، اعتدت طالبة ثانوي جسديًا بعنف على أخرى في المرحلة الابتدائية فأصابتها إصابات بالغة. لكن ما كان أكثرَ قسوة من الاعتداء هو موقفُ بقية الطلاب: وقفوا يشاهدون، بل وصوَّر بعضهم الاعتداء، ولم يتدخل أحد.
بالمقارنة، أتذكر حادثًا مشابهًا في مدرسة مماثلة قبل نحو ثلاثين سنةً، احتشد فيه طلاب الدفعة للدفاع عن أحد زملائهم الذي كان طلاب أكبر يعتدون عليه. رغم الانتماء لطبقة اجتماعية مشابهة لتلك التي ينتمي إليها طلاب المدرسة الدولية، كانت روح الجماعة والتضامن حاضرة. فما الذي تغير؟ كيف حلَّت الفرجة محَلَّ التضامن؟
هناك عدة زوايا يمكن النظر منها إلى مثل هذه القضايا؛ المنطقة، المدرسة، الطبقة، الثقافة، وغيرها، لكننا سنبدأ من بنية المدينة مدخلًا. ففي الأحياء المسورة، حيث يسكن أغنياء المدينة حاليًا، يظهر انفصال تام عن المجتمع الأوسع. يعيش سكان هذه المجتمعات في عزلة مادية ورمزية تُحصِّنهم من الاختلاط بالآخرين، وتُعيد إنتاج شعور بالاستقلالية والانفصال عنهم.
هذا الانفصال يولِّد نمطًا من الشخصية الفردانية؛ ترى ذاتها مكتفية بذاتها وغير معنية بالانتماء الأوسع. على النقيض، تعايشت في الماضي القريب الأحياء الغنية مع الفقيرة، مما أتاح تبادلًا يوميًا للخبرات والمصالح، أسهم في خلق شعور بالتضامن كجزء من تكوين الشخصية، بصرف النظر عن درجة الوعي الطبقي.
غالبًا ما تُنسب الفردانية إلى الطبقة الوسطى في تعميمٍ يحتاج إلى مراجعة
يُعبِّر عن هذا المسار تحوُّلٌ رمزيٌّ مهمٌ في الطبقة نفسها يتعلق أيضًا بإحدى مؤسساتها التعليمية؛ الجامعة الأمريكية في القاهرة، التي لم يكن انتقالها من قلب القاهرة في ميدان التحرير إلى أطراف المدينة في التجمع الخامس مجرد انتقال مكاني، بل تعبيرٌ عن تحوّل في طبيعة العلاقة بين المؤسسة والمجتمع.
في التحرير، كان طلاب الجامعة أقرب إلى نبض المدينة، يحتكون بالشارع والناس. أما اليوم، فلا وجود لتلك العلاقة، وأصبح بعض الطلاب ينظرون إلى مناطق مثل الدقي باعتبارها "أحياءً فقيرة"، في انفصالٍ معرفيٍّ وشعوريٍّ عن المدينة. هذا الفكر هو ما عبرت عنه مارجريت تاتشر وهي تقول "لا وجود لشيء اسمه المجتمع، ما يوجد هو رجال ونساء أفراد، وهناك عائلات". الفردانية هنا لم تعد مجرد فكرة فلسفية، بل تحوَّلت إلى نمط حياة مفروض بنيويًا، يُروِّج له أصحاب مصالح وحلفاؤهم من السياسيين.
وهنا يمكن النظر إلى هذه الحالة الانعزالية وما ولدته من فردانية باعتبارها تجسيدًا حيًّا للانعكاسات الاجتماعية لنظام اقتصادي يعزز التفاوت ويُغذِّي مشاعر التفوق والانفصال. الرأسمالية، التي تبني منظومتها على التنافس وتفوق الفرد، تجد في مثل هذه البيئات تربة خصبة لتكريس الفردانية، وتغذية مشاعر العزلة، حتى داخل المجتمع الطبقي الواحد. فالهوية الفردية ليست إلا بناءً اجتماعيًا يُعاد تشكيله بفعل علاقات القوة، كما يفسرها الفكر ما بعد البنيوي، وكما شرحها فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة الصادر عام 1975.
فأصحاب الامتيازات أيضًا يعيشون انعزالًا في الأحياء المُسوَّرة والمدارس المغلقة والجامعات المعزولة، محاطين بمن يشبهونهم فقط، فلا يعرفون المجتمع الأوسع ولا يشعرون بمسؤولية تجاهه. حالة العزلة تولِّد الفردانية عند الطبقة الغنية وشرائح من الطبقة الوسطى القادرة على مواكبة الوضع الاقتصادي، لكن ماذا عن باقي الطبقات؟
في قلب الفكر الماركسي، يحتل مفهوم الاغتراب موقعًا مركزيًا في فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية داخل النظام الرأسمالي. يغترب الإنسان عن نتاج عمله، عن علاقاته بالآخرين، بل وعن ذاته، نتيجة فقدانه السيطرة على شروط وجوده المادي. لكن هذا الاغتراب لا يبقى محصورًا في المصنع أو مكان العمل، بل يمتد إلى المجال الاجتماعي كله، متخذًا اليوم شكلًا واضحًا من الانعزال الطبقي.
فمع اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، يصبح الفقراء والمهمشون أكثر عرضة للشعور بأنهم خارج المجتمع؛ لا يؤثرون فيه ولا يملكون أدوات تغييره. هذا الشعور يتضخم حين يرون نُظمًا تعليمية وصحية مغلقة على الأغنياء، ووظائفَ وفرصًا لا تصل إليهم، وأحياء لا يمكنهم دخولها. ينشأ نوعٌ من الاغتراب الطبقي، حيث يشعر الفرد بأن المجتمع لا يمثله، ويتجاهله، بل ويعاديه. وهنا، تتحول الفردانية من خيار إلى مأزق وجودي: لم يعد أمام الإنسان إلا الانغلاق على نفسه، أو حتى إلى أشكال عنف فردي أو جماعي كردِّ فعل على هذا الإقصاء.
غالبًا ما تُنسب الفردانية إلى الطبقة الوسطى باعتبارها الحاضنة الرئيسية لهذا النمط من التفكير، لكن هذا التعميم يحتاج إلى مراجعة. فالواقع يُظهر أن الفردانية تتصاعد كلما صعدنا في السلم الطبقي، حيث ترتبط أنماط الحياة المُترفة بنزعات انعزالية ونُظم استهلاك فردية، بينما يزداد التضامن كلما اتجهنا نحو الشرائح الأفقر، بحكم الحاجة والمصير المشترك.
أما بعض فئات الطبقة الوسطى، فقد تبنّت نظريًا خطاب الفردانية في إطار من السعي لمحاكاة النموذج البرجوازي، أو ما يسميه فؤاد قاعود سلوك الإنسان المتوسط. وفي ظل الوضع الراهن الذي أصبحت فيه الطبقةُ الوسطى طبقةً مُهدَّدة، لم يعد جنوحها للفردانية تعبيرًا عن توجه، بل انعكاسٌ للشعور بالخطر.
هذا الوضع ينتج مفارقة مزدوجة: ففي حالة من يشعر بالنجاة يتجه للعزلة عبر الدخول في مناطق السكن المسورة ولو كانت في مناطق أقل طبقيًا أو أرخص سعرًا، وظهور نوعية من المدارس الدولية التي تلبي هذا المطمح بما يلائم قدرات هذه الطبقة. أما في حالة الفئات التي يغلبها الشعور بالخطر يتعمّق الاغتراب، فنراهم يهربون إلى شبكات مغلقة على السوشيال ميديا للتعبير بوضوح عن إحباطاتهم العملية والشخصية.
هكذا، ينتج اغتراب مزدوج: طبقات عليا منعزلة عن الواقع الاجتماعي، وطبقات أدنى مُبعدة قسرًا عن المشاركة فيه، وطبقة وسطى منقسمة بينهما حسب موقعها من التهديد الناجم عن تفاقم الفجوة الطبقية. في مختلف الحالات يتحرك كلٌّ في دوائر مغلقة، تتآكل فيها إمكانية التضامن أو الفعل الجماعي.
يؤثر ذلك في بنية الثقافة والشخصية مما يفقد روح التضامن بدرجة كبيرة داخل الطبقة إذ تصبح الفردانية سمة شخصية واجتماعية، وهو ما يفسر العنف بين أبناء الطبقة نفسها، سواء داخل الكومبوندات أو في المنطق العشوائية، وكذلك كيف حلَّت الفرجة محَلَّ التضامن.
أما من أين تأتي وتتكرس هذه الوضعية، وما هي المسارات التي تقود لها، فهذه أسئلة المقال المقبل.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.