كتبت على فيسبوك بوستًا ساخرًا، ذكرت فيه بعض ما يحدث لركاب مترو الأنفاق من الركاب الآخرين. استغرب أحد متابعي صفحتي أني أركب المترو "زيهم". صححت له: بل أنتم تركبون المترو "زيي"!
لم أُطِل في بيان خطأ ظنه، ولم أحكِ له عن ذكرياتي القديمة مع قطار الثانية والثلث المغادر إلى الإسكندرية من محطة قطار الشرق (كوبري الليمون - رصيف 20)، الذي لم يكن به مكان لي، في زمان غابر، سوى على رفوف حقائبه. ولم أستفض في الحكي عن صعوبات نشأتي الاجتماعية والاقتصادية، فليس في الفقر، في حد ذاته، بطولة!
لم تكن المرة الأولى التي يرسم فيها آخرون من خيالهم صورة وهمية عن خلفيتي الطبقية، ربما لأني قضيت سنوات طويلة غير واعٍ بموضعي الطبقي، وتعاملت بأريحية وانطلاق مع الأقران والزملاء من خلفيات اجتماعية أعلى دون توترات. أحدهم رآني مع أستاذ جامعي ذي وجه مستدير عليه نظارة مرتدٍ بذلة كاملة أنيقة، فظن أنه والدي. والحقيقة بعيدة جدًا عن هذه الصورة.
رفعتني بلاد وخفضتني بلاد، كما يقال. "ودارت الأيام"، كما كتب مأمون الشناوي لتغنّي أم كلثوم على لحن عبد الوهاب، حتى وجدتُني في واشنطن العاصمة أنتهي من فترة زمالتي في أحد أكبر مراكز الأبحاث في العالم، وقد اشتريت ملابس جديدة. فلم أجد ما أخفف به وزن حقائبي على متن طائرة المغادرة أفضل من التبرع بملابسي لفقراء أغنى دولة في الكوكب!
ومرت الأيام.. وعادت لتدور ثانية
ظننت أني وضعت قدمي على أول طريق الصعود الاجتماعي والاقتصادي في عام 2015. فتنفستُ الصُّعداء، وبدأت أخطط لحياتي الشخصية والعائلية كما تفعل الطبقة المتوسطة ذات الدخل الدولاري. ثم سُحب البساط من تحت قدمي، ونُزِع انتزاعًا، ليحل محلّه البُرْش..
غبتُ عن مصر سنة، ثم عدت في زيارةٍ أردتُها قصيرة، فتلقفتني مصر في أحضانها الحديدية أسبوعًا عن كل يوم غبته عنها، فلبثت في سجنها سبع سنين!
وفي عيد من أعياد الأضحى السبعة التي قضيتها بين جدران حضن الوطن، أو بعده بقليل، جاءني في الزيارة لحمٌ وكبد عجل، ظننتهما مرسليْن كهدية. عرفت لاحقًا أن من بعث بهما كان قد خصص أسهمًا في ذبيحته للمعتقلين.. أي أن التي ظننتها هدية كانت في حقيقة الأمر صدقة!
كنت قرأتُ بشيءٍ من التعمق في أدبيات التصوف الفردي، وهو أصل التصوف قبل نشوء الطرق النظامية. وعرفتُ أن من جهاد نفس الصوفيّ أن يقبل الصدقة، كفقير إلى خير ربه. فإذا كان المتصوف من أهل بيت النبوة، أي تحرم عليه الصدقات العادية، فله أن يأكل ويشرب من الصدقات المحرّمة، أي الأوقاف العامة.
تصالحت مع قبول الصدقة، اعترافًا مني بوضعي كأسيرٍ في قبضة الاستبداد. حاولت أن أرضى، قدريًا وإيمانيًا، بتبدل الأحوال في الدنيا الزائلة، وألّا أكون ساخطًا على عودتي، من دون تقصير مني ولا تكاسل، إلى موقع اليد السفلى.
لكني أبدًا لم أنسَ، وإن كنتُ أتناسى، أني كنت ذا يدٍ عليا في عاصمة أهم دولة في العالم وأنا في سن الـ32 عامًا بعد رحلة من الكفاح المرير المكثف. انتزعتُ فرصتي في الصعود بتنافسٍ مهنيّ وبحثي شريف، رفضت خلال مسيري فيه عروضًا سخية لا توافق اختياراتي الأخلاقية والوطنية.
نِلتُ الفرصة في دولة يسميها البعض "الشيطان الأعظم"، فاغتمنتها وكنت منافسًا نِدًّا لمن نشأوا في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مناقضة للبؤس الذي تحررت منه بجهادٍ شديد المراس. ثم أعادتني عاصمة وطني، "ذات الألف مئذنة"، إلى حيث بدأت، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت!
يصبر الفقراء إذا شبعوا أملًا
يصبر كثيرون من الفقراء على بؤسهم لقلة حيلتهم أو عجزهم. لكن الأغلبية الغالبة من فقراء العالم، الذين يستطيعون، إذا تمردوا، أن يحوّلوا الكوكب إلى قطعة من الجحيم الملتهب، لا يتمردون ولا يثورون. إنهم يصبرون لأنهم يأملون في مستقبل أفضل، إن لم يكن لأنفسهم فللذرية والأنجال.
ربما يكون في تكويني الشخصي واحتضان دوائري الاجتماعية والمهنية عقب خروجي من السجن، ما وقاني من الانحراف
لا يمكن تصور الجموع الغفيرة من فقراء العالم وهم يناضلون من أجل البقاء والحد الأدنى من الحقوق الأساسية لمجرد توريث بؤسهم لأولادهم. فالتضحية بالراحة أو اقتطاع نصيب معتبر من دخل متدنٍ أصلًا من أجل تعليم الأبناء والبنات، ما هو إلا أمل في تغيير الواقع الحزين في مستقبل قريب.
فماذا يحدث إذا فقد الناس الأمل في الغد؟ وكيف يكون سلوكهم إذا وجدوا أنفسهم في موقف "سيزيف"، الصاعد بالصخرة إلى قمة الجبل فالعائد إلى التقاطها من السفح إلى ما لا نهاية، كما تقول الأسطورة الإغريقية؟
ربما يكون في تكويني الشخصي، واحتضان دوائري الاجتماعية والمهنية لي عقب خروجي من السجن، ما وقاني من الانحراف والانجرار نحو الدوافع الانتقامية. لكن هل نضمن أن تكون هذه هي حالة أغلبية المظلومين؟!
الأمل المشبع للجوعى ليس فقط الرجاء في حقوق اقتصادية واجتماعية أفضل حالًا وأكثر استقرارًا، بل الأمل في التقدير ورد الاعتبار .. يومًا ما. وما تفعله مصر بمواطنيها ليس إلا تجويعًا وتشريسًا لهم، ماديًا ومعنويًا.
خوف الحاكم ويأس المحكوم
في البلاد التي لا تعرف حاكمًا متقاعدًا حيًا يُرزق داخل الوطن، لا في المنفى، وخارج السجن أو الإقامة الجبرية، لا داخلهما، يخاف الحكام من ترك رأس السلطة رعبًا من المساءلة أو الانتقام.
والخائف الذي لا مخرج له ولا مهرب يكون، في العادة، أعنف وأشد قسوة من القوي الغاضب إذا كان ذا ثقةٍ في قوته، وفي قدرته على استعمالها.
يعلم الحاكم المستبد الذي التصق سرواله بعرش السلطة فترة طويلة حتى بلغتْ آذانَه أنّاتُ شعبه وصرخاته، أن البطش به، إذا تبدلت أحواله، لن يكون فرديًا. فالأنجال والأحفاد لن يكونوا في مأمن من بطش نظام جديد قد يسعى إلى إرضاء الجماهير ببعض الإجراءات الشعبوية، تزامنًا مع قمع الحريات، خوفّا من انقلابات القصور وثورات الميادين.
يعلم الحكام التطورات فيكافئون اليأس المهلك بمزيد من القهر، وهكذا دواليك
حريصون هم الحكام على تجنيب أهل بيوتهم أن يذوقوا ما ذاقه أغلبية مواطنيهم، فهم في دفاعهم عن موقعهم السلطوي أعنف ما يكونون، وأشد اعتمادًا على تقديم فعل العضلات على صوت العقل، ليس خوفًا على مستقبلهم فقط، بل هم أيضًا مدفوعون بغريزة الأبوة والهم بمستقبل ذويهم.
هنا، رد الفعل المحتمل يكون مضادًّا في الاتجاه، لكنه قد يكون غير متناسب في المقدار؛ إذ أن عنف السلطة الظاهر هو مجرد قمة جبل الجليد من العنف المعنوي الكامن المتراكم. ويكون قد اقترب من إبادة الأمل في التغيير إلى الأفضل.
يزيد الاحتقان، وترصد الأجهزة المعلومات، وترفع تقاريرها وتحذيراتها، فيزيد الحكام قسوة، حتى إنهم يتجاهلون الخطاب الحنون الشعبوي الذي كانوا يسترضون به محكوميهم، فيفقد الناس الأمل في مستقبل أفضل لأولادهم، ويجدون أنفسهم مدفوعين دفعًا نحو الغضب والتوعد.
يعلم الحكام التطورات، فيكافئون اليأس المهلك بمزيد من القهر، وهكذا، دواليك، حتى تنكسر الحلقة المفرغة أو تُكْسر.
ورجاء العاقلين أن تتعلم بعض الشعوب أن انكسار الحلقة بالموت، أو كسرها بالعنف، لا يحلان مشكلة، ولا يؤديان إلا لمزيد من البؤس واللعنات.
الرجاء، كل الرجاء، أن يعلو صوت العقل والحكمة ذات مرة، فيأمن الحاكم من الملاحقة بعد خروجه ويتشجع على التصالح مع القبول بهذه الخطوة، ويأمل الناس في غدٍ أفضل لجيل لاحق، فيتصالحون مع فكرة الصفح والعفو، لا من أجل مآسي الماضي، بل من أجل أحلام المستقبل.