لا أريد أن أنغّص على القارئ ابتهاجه بقدوم العيد. أرجو السعادة والصحة لكل الناس، لكني لا يمكن أن أنسى هؤلاء المحرومين من كل بهجة، وكل فرحة في الأعياد.
قضيت 14 عيدًا في السجن. كلهم كانوا وسط الجنائيين والعسكريين الذين يخرجون بانتظام في المواعيد الستة المحددة سلفًا للعفو الرئاسي (عيدا الفطر والأضحى، والأعياد الوطنية في 25 يناير و25 أبريل و23 يوليو و6 أكتوبر). والمحظوظ منهم من كان يأتي اسمه في كشف العفو قبيل العيد، فيكون عيده عيدين. أو يتأخر اسمه أسابيع، وربما شهورًا، فيكون عيده كالمأتم بلا جنازة.
الفرحة التالية في حجمها هي فرحة الزيارة الاستثنائية، رغم قصر مدتها البالغ. يتشاغل السجناء عما يعرفونه جيدًا من معاناة أهاليهم في الإعداد للزيارة، وفي الزيارة نفسها، وتتركز مشاعرهم في الفرحة بأنهم رأوهم، وسيأكلون شيئًا يشعرون بآدميتهم فيه، بخلاف جراية السجن وتعيينه.
أما العذاب المضاعف فهو من نصيب السجناء الذين لم يُنادَ على أسمائهم في كشوف الزيارات، إذ تعتبر الأعياد الدينية عطلات رسمية في السجون، فلا يخرج النزلاء للتريض، ولا تفتح أبواب الزنازين للتهوية. فإذا جاء العيد في منتصف الأسبوع، حيث تكون الإجازة من الجمعة إلى الجمعة، فهذه ثمانية أيام من العذاب النفسي الخالص.
لا يهُون هذا العذاب إلا بشيئين، أو أحدهما على الأقل، وهما: الموبايل المهرّب، والمخدرات. فإذا كان السجن صارمًا في منع المخالفات، فحُرِم السجناء من مكالمة ذويهم، ومن تغييب الوعي، فإنه، إذن، الذبح!
تم تعديل قانون تنظيم السجون لينص على أحقية النزيل في مكالمتين هاتفيتيْن شهريًا على نفقته، لكن ذلك لم يطبق. فإن كانت المخاوف الأمنية من السجناء السياسيين عمومًا، والمدانين في قضايا العنف والإرهاب خصوصًا، تبرر لوزارة الداخلية أن تتأخر في تنفيذ القانون لصالح هذه الفئة من النزلاء، فما المانع أن تنفذه مع الجنائيين غير الخطرين؟!
وماذا عن الأهل والأولاد؟
إذا كانت الظروف الاقتصادية القاهرة تحرم أطفالًا كثيرين من فرحة لبس الجديد، وطعم الكعك وحلويات العيد، وهم في أحضان والديهم. فهل لنا أن نفكر قليلًا فيمن حالت بينه وبين حضن أبيه، أو أمه، جدرانٌ وقضبانٌ؟
وإذا كان السجن قد تسبب في تسرب كثيرين من التعليم، وفي تأخير شراء العلاج وإجراء العمليات الجراحية، وفي تدهور أحوال السكن لأسر السجناء، فهل نستفيض في سرد أثر السجن في "أعياد" أولاد السجناء وأهليهم؟
ولو توفّرت لأطفال السجناء والسجينات الملابس الجديدة والأطعمة الشهية، من العائلة الممتدة أو من تضامن اجتماعي كريم، فمن لهم بحضنٍ بديل عن أحضان آبائهم وأمهاتهم؟
وأي ميزان يخبرنا بثِقَل نظرة الطفل المنكسرة إلى أقرانه وهم يمسكون بأيدي آبائهم أو يركضون حولهم؟ وأية أوراق نقدية جديدة قد تُنسي الأطفال أن "العيدية" لم تكن من يد الغائب الحبيب أو الغائبة الحبيبة؟
سيشاهدنا المستبد فيسخط، ومنّا ييأس، ويرانا الضحايا فيتجدد أملهم، ويستلهمون وسيلة جديدة من وسائل المقاومة من أجل البقاء
نبحث عن البهجة لنقاوم، ولنستطيع البقاء، لكننا محاصرون بالآلام والمآسي التي لم تسلم منها دائرة ولا طبقة اجتماعية في مصر. فالذئب الأزرق، لوري الترحيلات، منطلقٌ في المدينة ينهش أجساد مواطنيها، يبتلع أعمارهم، ويريق دماءهم فيُلطّخ بها وجوه ذويهم ونفوسهم الجريحة.
أريده عيدًا سعيدًا، لكن الأحزان منصوبة، والألم شديد، والنفس هشّة، قد يحطمها خدشٌ بسيط.
من فلسطين نتعلم!
تتصاغر مآسينا المؤلمة إذا وضعت إلى جانب الكوارث والنكبات التي أصابت الشعب الفلسطيني على مدار العقود السابقة. وكل مأساة نعيشها لها ما يوازيها، بل يفوقها نوعًا وكمًّا، لدى أشقائنا الفلسطينيين. فمن منا جرّب أن يفقد أربعة من أولاده -مثلًا- على أيدي الاحتلال في مرات متعاقبة؟ ومن منا جرب الاعتقال الإداري لعشرين سنة بالتوازي مع هدم بيته والاستيلاء على أرضه؟
فإذا كان الفلسطينيون قد صمدوا وقاوموا، وإذا كانت غزة، خصوصًا، هي أكبر سجن بشري في العالم، فلنتعلم من فلسطين وشعبها المقاوم كيف نبتهج بالعيد.
لن تكتمل فرحتنا إلا بردِّ الحقوق إلى أهلها، ورفع الظلم عن الملايين، لكننا لا ينبغي أن نغفُل عن أن الظلم والاستبداد إنما يريدان سرقة بهجتنا، والنخر في معنوياتنا كالسُّوس. وهنا، تعلمنا فلسطين أن البهجة العمدية، ولو مفتعلة، هي درب من دروب المقاومة.
أن تقاوم، فذلك يعني أنك تناهض مسعى الذي تقاومه. فإذا علمت أنه يسعى من أجل حزنك، فالانتصار عليه لا يكون بالغضب، وإنما بنقيض ما أراد، كي يفقد الأمل في نيل مراده. والانتصار على تعمد الاستبداد أن يشيع بيننا الحزن والريبة والانطفاء، لا يكون إلا بالبهجة.
المقاومة فن. ومن الفنون ما يخدع البصر أو يسحر الآذان. وفي الأعياد، فلنقاوم بالاحتيال على الحزن والألم. فلنتعلم من الفلسطينيين كيف ابتهجوا وعاشوا حياتهم ملتزمين تجاه أبطالهم ومظلوميهم، من دون أن يعيشوا أسرى الشعور بالذنب لأنهم نجوا مما لم ينجُ منه غيرُهم.
نعم، لسنا نحن المذنبين، ولم نتأخر عن دعم من يستحق الدعم. فطالما لم نمسك بمفاتيح الزنازين والبوابات، وطالما كانت هذه هي أحوال مرافق العدالة لدينا، فليس في أيدينا الكثير مما يمكن عمله لإخراج السجناء من سجونهم. ولن نستسلم في معركة البهجة، أو نفرّط فيما تبقى من مساحة يطمع فيها الاستبداد الغاشم.
سنحتال ونسرق لحظات الابتهاج. وسنحاول أن نشرك معنا أولاد الغائبين، لندرّبهم كيف يبتهجون. فإذا رد الله غيبة الغائبين، اكتملت فرحتنا، وعمت بهجتنا، فاحتفينا واحتفلنا، وانتشرنا وانتشينا!
سنسمع ألحان السعادة، ونذوق طعم اللذة، ونشم عطور الفرحة، ونقول كلام السرور، ونتجول تجوال العصافير. سيشاهدنا المستبد فيسخط، ومنّا ييأس، ويرانا الضحايا فيتجدد أملهم، ويستلهمون وسيلة جديدة من وسائل المقاومة من أجل البقاء.
سنحمل قلوبنا بين ضلوعنا المبللة بالدموع، ونطلقها في أجواء الحدائق والشواطئ والبراري. سنتزاور، ونتبادل الدعوات إلى الملح والعيش المشترك، ونتهادى بالبسيط الأصيل، ونتواصل بالسؤال والتحيّات. سنفسد ما يريده الاستبداد؛ فإذا أراد الفرقة تجمعنا، وإن أراد الوقيعة اتّحدنا، وإن أراد الكآبة والحزن.. ابتهجنا.
فرغم العذاب الشديد، سيقول أحدنا للآخر: عيد سعيد!