واكتشفت أني بريء من تهمتي "المحشي" والإرهاب
امتد سجني حتى أتممت 2557 ليلة في ظلمات الظلم المزينة بأنوار المقاومة، أضيفت إليها أربع ليالٍ في إجراءات الخروج، فصار لدي 2561 قصة لأحكيها، ولم أحكِ سوى أقل القليل. وكنت أظن أنَّ بعد السجن ستختمر الحكايات في الذاكرة والوجدان والأفكار بمرور زمن مناسب، لا ينبغي أن يطول. ولم أتخيل أن تُضاف حكايات جديدة إلى تلك التجربة العصيبة.
وحين ذهبت إلى المطار في أكتوبر/تشرين الأول الفائت، وضاعت عليَّ سفرية إلى لبنان بسبب طلب السلطات شهادة من النيابة العسكرية بخصوص موقفي من القضية التي سجنت فيها (18 لسنة 2018 - جنايات عسكرية شمال القاهرة)، لم أكن أعلم بالمفاجأة التي تنتظرني. وهي مفاجأة مضحكة مبكية، مفرحة محزنة، لدرجة العبث.
الانضمام لتنظيم "طريقة عمل المحشي"
ما جرى معي فيما يسمى، مجازًا، "تحقيقات" امتدت 20 ساعة على ثلاث جلسات بين 2015 و2018، يستحق كتابًا يجمع العجائب والطرائف والنوادر. وفي مقدمة المضحكات المبكيات ما حدث حين رفع رئيس نيابة أمن الدولة العليا رأسه من قراءة سطر في محضر التحريات، ثم سألني عن كتابتي عن البنك التجاري الدولي (CIB).
كان لزامًا عليه أن يسأل عن شيءٍ ما مكتوب في محضر التحريات فجعله سؤاله الأخير
ضحكت كثيرًا، وسألته متعجبًا ولماذا "السي آي بي"؟ لماذا لا يكون "الإتش إس بي سي"؟ أو لماذا لم تسألني عن "الإن إس جي بي" الذي صار اسمه "كيو إن بي"؟ ثم استكملت الضحك حتى مللت، وأجبته بجدية أني لم أكتب شيئًا في الاقتصاد والمالية، وأنَّ كل ما أكتب منشور وممهور بتوقيعي.
لاحظت، في غمرة دهشتي الضاحكة، عينيَّ رئيس النيابة تضحكان لكنه يتماسك حفاظًا على الوقار المطلوب كعضو هيئة قضائية. أجابني بتوضيح مقتضب أنَّ البنك التجاري الدولي ذو أسهم قائدة في البورصة المصرية، وأن سعر سهمه مؤشر مهم على حالة الاقتصاد، فكان ردي كما أسلفت.
تجاوز السؤال وتجاهله في جلسة التعارف الأولى تلك، التي لم يُحرَّر بها محضر ولم يحضرها سكرتير، لتمسكي بحضور محامي الدفاع، فلم تُحسب جلسة تحقيق. استكملنا "التعارف" والتمهيد للتحقيق الرسمي في جلسة امتدت إلى عشر ساعات، تخللتها استراحات ومكالمات تليفونية ووجبة غداء وتردد على دورة المياه. انتقل إلى أسئلة أخرى حتى انتهى، ولم أحل لغز الضحكة في عينه التي وأدها الوقار.
بعد جلستي تحقيق في الأسبوع الأول من محبسي، انتظرت جلسة التحقيق الثالثة والأخيرة، التي قال إنها قريبة. ولم تتأخر إلا 26 شهرًا فقط (!)، لكنها جرت في النيابة العسكرية بعد إحالتي إليها لتعلق الاتهامات بأمور تخص القوات المسلحة.
الإيقاع في النيابة العسكرية أسرع كثيرًا من النيابة العامة، التي تتفرع منها نيابة أمن الدولة. لذلك، فإنَّ قضاء 3 ساعات في جلسة "استكمال تحقيق" بمعايير العرف الزمني السائد في النيابة العسكرية زمنٌ قياسيٌّ نادر الحدوث. في تلك الجلسة علمت أنَّ اتهامين جديدين أُضيفا إلى الاتهامات الثلاثة التي وُجِّهت إليّ في نيابة أمن الدولة العليا، فصرت متهمًا بخمسة اتهامات.. وخميسة!
انتهينا من كثيرٍ من المُضحكات المُبكيات، التي شملت، مثلًا، اعتبار خريطة إدارية مدنية لشمال سيناء خريطة عسكرية تحوي سرًّا من أسرار الدفاع؛ لمجرد أنَّ نسختي الإلكترونية منها كانت عالية الجودة! في نهاية التحقيق، صرنا أمام القدر المحتوم، فلا بد مما لم يكن منه بدٌّ، ولا مفرٌّ، ولا مناص.
ظلَّ يؤخر المفاجأة، حتى أُسقط في يده وكان لزامًا عليه أن يسأل عن شيءٍ ما مكتوب في محضر التحريات، فجعله السؤال الأخير، الذي تلقيته منه مُقطَّعًا ومُجزَّأً، وكأنه متردد في قوله بنفس واحد:
- ما هو قولك فيما هو منسوب إليك.. - أيوه؟ - من حيث الانضمام.. - آه؟! (وفي سري: انضمام آخر؟ ألم ننتهِ من مناقشة الانضمام لجماعة أسست على خلاف أحكام الدستور والقانون تتخذ من الإرهاب وسيلة لتحقيق أغراضها..إلخ؟!) - لجماعة سرية.. - ممم؟ (ولنفسي: جديدة هذه "السرية"!) - مكونة من 9 أفراد.. - ..!! (في سري: بس؟!) - على موقع التواصل الاجتماعي.. - ...!! - فيسبوك.. - أيوه؟! - اسمها.. وهنا أتت لحظة الحقيقة، فرفع كتفه مادًّا ذراعه وكفه إلى السماء، معلنًا تسليمه للضرورة، ومفاجئًا لي بابتسامة يائسة: - اسمها "طريقة عمل المحشي"! |
والله لا أعرف متى توقفت عن الضحك الهيستيري الذي أدمع عيوني من شدته. فقهقهتُ، وقهقهت المحامية، وضحك محقق النيابة نفسه، وضحك زميله في المكتب المجاور، وكان الوحيد الذي لم يضحك هو سكرتير الجلسة الذي بدا ممتعضًا من طولها غير المعتاد، وكان يريد الانصراف.
تجلّى أمامي عبث الحقيقة وحقيقة العبث، فلم أسأل أسئلة استنكارية للدهشة كما فعلت في نيابة أمن الدولة، بل اتجهت فورًا إلى السخرية والتهكم، فكان أول ما نطقت به بعد خفوت نوبة الضحك الهيستيري أني أحب المحشي لكن ليس لدرجة أن أنضم إلى تنظيم اسمه "طريقة عمل المحشي"، كما يقول محضر التحريات!
كوميديا العبث السوداء
حين لاحت أمامي مواد قانون العقوبات التي اتُّهمتُ بجرائم تدخل تحتها، تذكرت أني واقف فيما بين السجن المؤبد أو الاكتفاء بالحبس الاحتياطي الذي امتد 26 شهرًا، حاولت أن أفهم بجدية موضوع "المحشي" هذا. وهنا، انكشف السر القديم وتجلَّى.
عزائي في ملحمة العبث هذه براءتي من تهمة الانضمام لأي جماعة حادقة أم حلويات
فلم يكن اسم "طريقة عمل المحشي" تمويهًا لعمل المتفجرات، مثلًا، بل كانت مجموعة سرية/secret group على فيسبوك، تُرجمت إلى "جماعة سرية". وضمَّت بالفعل تسعة أفراد، لم أعرف منهم أحدًا ولم أكن على اتصال بأيٍّ منهم. وكانوا يتحدثون، من موقع المعارضة، في شؤون السياسة والاقتصاد، ومنها أسهم البنك التجاري الدولي في البورصة!
الآن فككت شفرة "السي آي بي"، و"الإتش إس محشي"، ورأيت حقيقة عالم سمسم الذي نعيش فيه.
في غضون أسابيع، وفي شهر الصيام والصبر، حكمت عليَّ محكمة الجنايات العسكرية بشمال القاهرة بالسجن 10 سنوات مدانًا بالانضمام لجماعة إرهابية (جماعة الإخوان المسلمين)، وجماعة "طريقة عمل المحشي"! وبعد أربعة شهور تم التصديق على الحكم، كما هو، من مكتب التصديقات العسكرية.
منذ أيام معدودات، قبيل مرور سنة على خروجي بعد تخفيف الحكم بقرار المحكمة العسكرية العليا إلى سبع سنوات، حين استخرج مكتب خالد علي المحامي شهادة من النيابة العسكرية تفيد بموقفي من القضية لأتمكن من السفر، اكتشفت المفاجأة الأكبر.
المفاجأة التي أظن أن أجيالًا ستأتي في أزمان لاحقة فيتعجبون لها، وربما لا يصدقونها، أني خرجت من السجن بعد انقضاء سبع سنوات وأنا لا أعلم، ولا أيٌّ من المحامين يعلم، أنَّ المحكمة العسكرية العليا لم تخفف حكم السجن من عشر إلى سبع سنوات، بل إنَّها، في الحقيقة، برَّأتني من الاتهام الأول والرئيسي (الانضمام لجماعة إرهابية)، ثم عاقبتني بما مجموعه سبع سنوات، في اتهامين وليس في اتهام واحد.
الأكثر عبثية هو أن ترتيب منطوق المحكمة العليا بدأ بالحبس سنتين مع الشغل والنفاذ في "جنحة" صيغ الاتهام فيها (بأخطائه النحوية) كالآتي: "أذاع وآخرين من خلال موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك على سر من أسرار الدفاع عن البلاد وعلى النحو الموضح تفصيلًا بالأوراق".
أما العقوبة الأكبر فكانت الحبس مع الشغل والنفاذ لمدة خمس سنوات نظير ما أسند إليّ بالبند ثالثًا، الذي صيغ كالآتي "أذاع عمدًا وآخرين في الخارج إشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد تشير إلى قيام القوات المسلحة بعمليات عسكرية بسيناء وعلى النحو الموضح تفصيلًا بالأوراق".
حتى طارق عبد العال، المحامي الذي ترافع دفاعًا عني في الدرجة الأولى وفي الطعن، لم يكن يعرف شيئًا عن هذا. تلقى اتصالًا قبل جلسة الطعن بأسبوع واحد، وهي التي لم يحدد موعدها طيلة أربع سنوات، أخبره فيه سكرتير النيابة بموعد الجلسة في عبارة واحدة، لم يهتم بالتأكد إذا كان قد سمعها جيدًا أم لا، وأغلق الخط.
ربما يكون عزائي في ملحمة العبث تلك أنَّ أعلى سلطة قضائية عسكرية في عهد السيسي قد أقرت ببراءتي من تهمة الانضمام لأي جماعة، سواء كانت حادقة أم حلويات، والأهم أنها كتبت، للتاريخ، حكمًا بالعقوبة المضاعفة في إدانتين مجموعهما سبع سنوات، بتهمتي "الإذاعة" و"النشر". ودعنا من نكتة أنَّ عمليات القوات المسلحة في سيناء هي شائعة كاذبة تستحق العقوبة؛ لأن قلوبنا الصغيرة لا تحتمل أكثر مما مضى من عبثية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.