حين يُنشر هذا المقال، أكون قضيت بعد خروجي من السجن مئة يوم، أو تزيد قليلًا. علمًا بأني خرجت قبل 3 سنوات من الميعاد الذي هيأتُ نفسي له. لم أكن متطلعًا بكثير من الرجاء إلى ما سيحدث حين تنظر المحكمة العسكرية العليا في الطعن على حكم محكمة الجنايات العسكرية بسجني 10 سنوات. فلم يتحدد موعد نظر الطعن بالنقض لأكثر من 4 سنوات بعد حكم الجنايات، ثم تحدد فجأة، وخُفّفت العقوبة، لأخرج بعد جلسة الطعن بشهر ونصف.
تعلمت في السجن أن أنتظر الأسوأ، فإذا وقع لم أُفاجأ أو أُحبط، فيساعدني ذلك على الصبر. وإذا حدث الأحسن كانت الفرحة والشكر. لذلك، لم أنتظر تخفيفًا في التصديق على الحكم في سبتمبر/أيلول 2018، ولم أعلق آمالي بخروج محتمل في عفو رئاسي.
علمتُ بعد تخفيف الحكم أن ملفّي قد رُفض من قبل لجنة الإفراج الشرْطي ثلاث مرات، كان آخرها بتاريخ 22 مايو/آيار 2022، ما يعني أن الموعد التالي لعرض ملفي كان 22 نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته. لكنَّ التخفيف صدر بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول، وتتم سنواتي السبع في مطلع ديسمبر/كانون الأول، فلا معنىً، إذن، لعرض ملفي على لجنة الإفراج الشرطي قبل موعد خروجي بعشرة أيام.
خسائر فادحة
دخلت السجن صحفيًا ناجحًا وباحثًا في علوم الاجتماع، وخرجت منه باحثًا عن أكثر من عمل كي أتمكن من تسديد ديون فترة السجن.
دخلته ابنًا ساعيًا إلى الإحسان بأمه ما استطاع، وزوجًا حريصًا على الوفاء بعهده مع زوجته، وخرجت منه لا ابنًا ولا زوجًا. فلم تعد في حياتي أمٌّ، ولا أبٌ، ولا حتى أطلال أسرة.
دخلت السجن سليمًا معافىً إلا من بعض الكيلوجرامات الزائدة، وخرجت منه مصابًا بالسكري بسبب الحزن على أمي، التي حُرمت من جوارها في مرضها بالسرطان وعلاجها الكيماوي، ثم حيل بيني وبين إلقاء نظرة الوداع عليها، حيّةً تحتضر، أو متوفّاةً تُشيّع إلى قبرها.
خرجت أحمل بنكرياسًا معطلًا جزئيًا، وتجري في عروقي دماءٌ مصابة بالنقرس، وفي جهازي الهضمي بعض الأعطاب، وشَيْبًا أصاب، فضلًا عن شعر رأسي، مواطن من شعر جسدي لم أكن أعرف أنها قد تشيب.
خرجت وفي عقلي الباطن هاجس طاردني في كابوسٍ وحيدٍ تكرر مراتٍ في السجن؛ أن أخرج فأجد من قُدامَى الأصدقاء والزملاء جفافًا وجفاءً في المعاملة، خوفًا من الاتصال بسجين سياسي قد يجر إليهم مشاكل يحرصون على تفاديها.
لكنه يُحيي الأرض بعد موتها
خرجت عاقدًا العزم على زيارة أكثر من طبيب نفسي ليقوِّم المختصون ما إذا كنت في حاجة إلى علاج وتأهيل، أم مجرد دعم ومشورة. كنت مصحوبًا بهاجسَيْن؛ نفور الناس مني خوفًا أو ضجرًا، وبَدْء حياة عاطفية وزوجية جديدة من دون التحرر من كوارث التجربة الأليمة وحوادثها الجارحة.
خرجت فتلقّفتني رحمات من الرحمن بعضها فوق بعض؛ فإذا بأناس لم أتوقع أن يتغلبوا على الذعر السائد وجدتهم يبادرون بالاتصال وطلب اللقاء. بل أكثر من ذلك: يستأذنونني في التقاط الصور معًا، وفي نشرها على السوشيال ميديا، فأضحك قائلًا: ليس لدي مشكلة والله، بل المشكلة عندكم أنتم!
استقبلني الأضداد بالحفاوة نفسها؛ زملاء المهنة والبحث الأكاديمي من مختلف الخلفيّات والتوجّهات، ورفاق الوسط الحقوقي من اليسار والليبراليين، والأصدقاء المتديّنون، والمعارف من ذوي الميول المحافظة والرجعية.
كان في حفاوة الأضداد شفاء لجراح المحنة، وتجديد للأمل في التعايش. فهؤلاء أصدقائي وصديقاتي من المسيحيين، وأولئك معارفي القدامى من الإسلاميين والإسلاميات، وقد اجتمع هؤلاء وهؤلاء على الترحاب بشخصي البسيط؛ ألا يكون ثمة أمل في أن يلتقي الفرقاء في ساحة من ساحات الوطن؟
طمأنني الأطباء أن صحتي النفسية جيدة، وشهد لي الأصدقاء والزملاء أن لياقتي الذهنية عالية. ورزقني الله بمعلومةٍ أكيدة حلّت لي لغز قضيّتي، فما ازددتُ إلا اعتزازًا بعملي المهني الصحفي والبحثي الأكاديمي، وما زدتُ عن الندم إلا بُعدًا، وما زاد إيماني بمبادئي إلا رسوخًا.
رأيت، ولا أزال أرى، آية من آيات البعث بعد الموت. فالسجن هو القبر، والسجين دفينُه. والخارج من السجن مولود من جديد.
خرجت وقد كانت ملابسي وكل متعلقاتي مفرقةً بين عدد من الدول في أربع قارات. ضاع منها ما ضاع، وتلف ما تلف، وسُرق ما سُرق، فإذا بي ألبس الجديد ويثني من يراني على أناقتي، التي لم تكن من صفاتي المميزة قبل السجن.
في السجن كنت أشتاق إلى تفانين صنوف الطعام والشراب، وأنا في ذلك صاحب ذوق وخبرة، فإذا بالمآدب تقام من أجلي والدعوات تنهمر، فيدخل الطعام الشهي بأنواعه طاردًا ما تبقى من جراية وتعيين.
وكنت قد حننتُ إلى السفر والتجوال، فإذا بي في أقل من مئة يوم أكون قد زرت النوبة وأسوان لعشرة أيام، وتجوّلت بين أربعة مراكز من محافظة قنا، وسافرت أسبوعًا إلى وادي الجمال جنوب مرسى علم على ساحل البحر الأحمر، كما تجولت بين أقاصي أطراف القاهرة الكبرى؛ من العاصمة الإدارية ومدينتي والشروق والتجمعات، إلى مدينة السادس من أكتوبر، وكل ما بينها.
السجن قبرٌ، والسجين دفينه، والخارج من السجن مولود من جديد
لم أكن أعلم كيف سأبدأ عملي، ومن أين سيأتي الدخل في مثل هذه الظروف العصيبة. لكن أقدارًا اعتدنا منها على المصائب بلا مقدمات أرتني وجهًا آخر لها، مشرقًا مضيئًا، برزق واسع بغير حسابات بشرية قاصرة.
فُتِحت لي أبواب من الرزق المادي والمعنوي أَنْسَتْني أبواب الزنازين المغلقة، التي لم نكن في السجن نرجو أكثر من توسيع فتحات نظّاراتها/ شُرّاعاتها لمزيد من الهواء، وقليل من التواصل. فوجدتني أتوقف عن السعي، لأدير هذه الفرص بحكمة وأعتذر عما لا يناسبني منها.
رسمت في خططي أهدافًا ظننت من الصعب تنفيذها فور خروجي لابتعاد سبُلِها عن المساحات المألوفة في عملي قبل السجن، فإذا بها تتوفر أمامي بلا سعي. كما رزقني الله بانتقال سلس في محل إقامتي، لم يخلُ من منغصّات التعاملات مع الملّاك والحرفيّين، كَيْلا أنسى أني في مصر!
امتلأ خيالي في السجن بما أريد أن أفعله في أرض الله الواسعة، فإذا بكثير منه يتيسّر في وقت قياسيّ. اشتريت دراجة هوائية أفضل كثيرًا مما فقدتها، وحصلت على شهادة في الغوص الترفيهي في المياه المفتوحة، تمهيدًا لما أنتويه من تقدم في مجال الرياضات البحرية.
أعاني جسديًّا معاناة شديدة بسبب اختياري نمط حياة يرفض العلاقات الجنسية خارج الزواج، خصوصًا في مجتمعات فاجرة في ظلمها للنساء والتمييز ضدهن. لكن أملًا قادمًا محلقًّا في الأفق البعيد يقول ربما شملتني رحمات الرحمن في هذا الجانب أقرب مما تخيّلت، وبأكرم مما طمحت من مداواة التجربة السابقة المريرة.
أنشر في أكثر من منصة مصرية وعربية، وتُطلب كتاباتي في منصات دولية، أصيلةً أو مترجمة، وعملتُ حديثًا باحثًا في أحد المراكز المرموقة، وينتظر الناشرون مسوّدات مما كتبته في السجن، أو بعد السجن.. ألا يحق لي أن أحتفل انتصارًا على محنة السنوات السبع العجاف؟! ألا أصرخ سعيدًا بأن البهجة للأحرار والبؤس للسجّان؟!
ليس ترغيبًا في تجربة السجن
يخطئ من يظن أن شيئًا مما كتبته أعلاه يرمي إلى إغراء الشباب بخوض التجربة، أو حتى الاستهانة بها. لا يفعل ذلك إلا المفلسون الذين لا يجدون ما يتحققون به سوى اشتهارهم كضحايا.
وإنما الغرض، بخلاف الاحتفال المستحق، هو إعطاء الأمل لأهالي المعتقلين والسجناء، الذين ربما يحملون همّ ما سيتعرض له ذووهم بعد الخروج أكثر من الحزن على أحوالهم قبله. وأكررها ثانيةً، ولا أملّ، أن السجن قبرٌ، والسجين دفينه، وأن الخارج من السجن مولود من جديد.
ليس في السجن بطولة، ولن تكون. البطولة في المقاومة
يريد الاستبداد أن يجعل من السجن تُرْبةً يدفن فيها أرواحنا وآمالنا، لكننا، بالمقاومة، قد نجعله تربةً نزرع فيها بذور أحلامنا المتجددة. كلا التُرْبتين تحجب عن ثاويها الشمس والهواء، لكنّ المستسلم يموت ويتحلل، أما المقاوم فيتغذى على ما يتاح له من مياه وأملاح، متحيّنًا فرصة خروجه، فيشق جدران الأرض باسقًا نحو السماء.
ليس في السجن بطولة، ولن تكون. البطولة في المقاومة. والمقاومة انتصار على الاستسلام، وحِصْنٌ يحمينا من تحول الهزيمة الخارجية إلى انهزام نفسي داخلي. والمقاومة خارج السجن لا تقل ضراوة عن المقاومة داخله.
ونجاح الناجحين من جيلنا في أي مجال مفيد هو دليل بطولتهم، التي أسعدتني في سجني، وأحيتني في قبري. حين جاءتني أخبارهم في سجني فرحت كأني أنا الذي فزت بالجائزة الفلانية، وكأن شركتي هي التي ربحت التعاقد العلاني، وكأني أنا الذي نشرت الكتب وحصلت على الدرجات العلمية والتكريمات، وكأني أنا الذي أنجبت كل هؤلاء الأطفال الذين وُلدوا في بيوت لن تعلمهم إلا حب ثورة يناير والاعتزاز بها.
وكما أخبرت الأصدقاء والزملاء حين خرجت، أني لن أبارك لهم، بل سأشكرهم لأنهم أكملوا مسيرة كنت جزءًا منها وكانت جزءًا مني، ولا نزال. والآن أهدي إليهم وإلى أرواح شهدائنا انتصاري الصغير البسيط الذي توّجته في عودتي من رحلة مرسى علم أثناء مروري أمام الغردقة، حيث بدأ اعتقالي الذي امتد إلى 84 شهرًا، بتبوّلي وشد السيفون.. على السجن والسجان، وعلى الظلم والأحزان.