كاد أن يكون هذا الأسبوع هو الثالث الذي أعتذر فيه عن عدم كتابة مقالي. صارت الكتابة عبئًا ثقيلًا ما دامت ملتزمة بمسؤولية القلم عن ضمير صاحبه. وضمير صاحبه لن يستريح بتغيير دفة أولوية الحديث عن رفاق السجن المظلومين، بل حتى الزملاء الجنائيين مستحقي السجن عن جرائم ارتكبوها، طالما خرج سجنهم عن فلسفة التهذيب والإصلاح، إلى رغبة الإذلال وتعميم العقوبة، تلك التي ينص الدستور على كونها شخصية.
في اليوم التاسع من سبتمبر/أيلول المنصرم، حاول الشاعر جلال البحيري الانتحار في سجنه. لم تأتِ هذه المحاولة من فراغ، وهو مريض القلب الذي أجريت له جراحة كبيرة في مستشفى مجمع سجون وادي النطرون المطور. كان قد أعلن عن إضرابه عن الحياة، أي عن الماء والدواء، بعد استمرار إضرابه عن الطعام فقط. لكنه فك الإضراب، ثم اختصر المسافة وحاول الانتحار!
بدأ جلال إضرابه عن الطعام في الخامس من مارس/آذار الماضي، في الذكرى الخامسة لبدء محبسه، ثم أرسل في مايو/أيار رسالة للإعلان عن تصعيده في إضرابه الذي لم يحرك ساكنًا، حتى أحدث إضرابه الشامل ضجة، وكأن إضرابه عن الطعام وعن العلاج لما يقرب من ثلاثة أشهر لم يكن كافيًا.
فك الإضراب بناء على وعد من قيادة أمنية كبيرة بالخروج القريب، ومقابل تسهيلات استثنائية لأهله في الزيارة. لم يزِد مدى الوعد عن 10 أيام. ولأننا نعرف جيدًا، كسجناء، أن العودة إلى استعمال الأداة الاحتجاجية نفسها لن يُرتب أي تقدم، فلم يجد ما يصعّد به سوى محاولة الانتحار!
ليس في الانتحار "هزار"
جربت من قبل التلويح بورقة الإضراب ،فذقت الجوع وألمه، لكن كانت لدي رؤية لعدة سيناريوهات قد تدوم لأسابيع وشهور قبل أن أفك الإضراب، إذا بدأته رسميًا أصلًا. لم أبدأ أي إضراب بشكل رسمي، وإن كنت تحت وطأة الاكتئاب العرضي رفضت الزيارة مرة، ولم أكن أعلم أنه إجراء احتجاجي صارخ، فلم يمر اليوم إلا بتحرير محضر أُخذت فيه أقوالي، ووقعت على رفضي الزيارة بقرار شخصي بدون ضغوط من إدارة السجن.
في كل الأحوال، يُجرب السجناء المستمسكون بالحياة أدوات احتجاجية كثيرة، بدءًا من رفض التمام، ورفض استلام التعيين، إلى التمرد والهياج الفردي أو الجماعي. لكن أحدًا لا يجرب الانتحار أبدًا، لأننا نعرف جيدًا سرعة الاستجابة للطوارئ في السجون؛ فالمخاطرة عالية.
بسبب شهرة جلال واهتمام إدارة السجن به تم إسعافه وإنقاذه. لكني أعلم أن شقيقته الصغرى في مرحلة التجهيزات النهائية لزفافها، وهي الشديدة التعلق بأخيها. فهل نتخيل عمق الاكتئاب، وحقيقته، الذي دفعه إلى مثل هذه المخاطرة في مثل هذا التوقيت؟!
لكن صياد برج مغيزل لم يُنقذ!
كان مرض جلال البحيري وإضرابه الشامل السابق، الذي انتهى بوعد رفيع المستوى، سببًا في المتابعة الدورية والاهتمام الاستثنائي به، فتم إنقاذه، وإنقاذ أسرته وأصدقائه وزملائه من الفاجعة. لكن علاء فتح الله أبو هيكل كان سيئ الحظ، وأقل شهرة ونصيبًا من الاهتمام. وهو واحد من الأربعين صيادًا من قريتي برج مغيزل والسكري (مركز مطوبس، محافظة كفر الشيخ)، الذين سبق أن كتبت عنهم مرتين.
رحل علاء فتح الله أبو هيكل في عمر الثالثة والأربعين، تاركًا وراءه أسرة تستهل العام الدراسي باليُتم والترمّل
زارته زوجته يوم السبت، حيث كان وزملاؤه الصيادون في القضية رقم 662 لسنة 2020 ينتظرون جلسة يوم الاثنين لتجديد حبسهم الاحتياطي، الممتد لأكثر من 3 سنوات دون إحالة للمحاكمة. شعر بإعياء شديد عقب الزيارة، فاستند إلى اثنين من رفاقه، ثم مرض ليلًا وشعر بضيق تنفس، صرخوا واستنجدوا، وفي الفجر فارق الحياة.
سألت المحامية ماهينور المصري، وهي ذات خبرة بالسجون من الداخل، عما حدث، خصوصًا أنها التقت زوجته في مشرحة زينهم، حيث أرسلوا الجثمان. أخبرتني بمعاناة زوجته لمعرفة حقيقة ما حدث له، ومكان جثمانه، بعد استقبالها مكالمة مقتضبة أقلقتها فحركتها من فورها في ساعة متأخرة من الليل لتنتظر على باب السجن من قبل الفجر.
تناقشنا في كل ما قيل وما أشيع، ثم استبعدنا سيناريو تعمد الإيذاء من إدارة السجن، ورجحنا السيناريو الأكثر ضررًا، بسبب عشوائيته، وهو الإهمال أو بطء الاستجابة للطوارئ. حتى الدم الذي قالت زوجته إنها رأته يلطخ ملابسه ليس دليلًا ولا قرينة، فقد يكون قد سقط أو نزف من أنفه. وفي كل الأحوال، استلم أهله الجثمان ودفنوه في القرية.
ليس لدينا رجال ليستقبلوك!
تواصلت مع أسرة أحد الصيادين عاتبًا عليهم عدم إخباري كي أحضر "الواجب". كان الرد المفحم: تيجي فين يا أستاذ؟! معندناش رجالة يستقبلوك!
حين سمعت الشطر الأول من الجملة ظننت أنها ستقول "تيجي فين يا أستاذ؟ الناس حتخاف من المشاكل وأنت صحفي!"، أو شيئًا من هذا القبيل. لكني صعقت بالرد، الذي لم يكن محتواه جديدًا كل الجدة عليّ؛ فأنا أعلم أن الأربعين صيادًا كلهم من قريتين متلاصقتين، وكلهم أقارب وأصهار، لكني لم أكن أتخيل أن حجم النكبة قد بلغ بهؤلاء البؤساء درجة افتقادهم لمن يستقبل المعزّين في فقد أحدهم!
رحل علاء فتح الله أبو هيكل في عمر الثالثة والأربعين، تاركًا وراءه ثلاثة من الأولاد؛ ابنة في المدرسة الثانوية وابْنين في الإعدادية والابتدائية، وأمهم الأرمل. أسرة تستهل العام الدراسي الجديد باليتْم والترمّل.
فماذا سأقول؟ وماذا سأكتب وأنا الذي يشكو المحررون من طول كتابتي، وأفاوضهم دومًا على استثناء المقال الفلاني أو العلاني من الحد الأقصى لعدد الكلمات؟ وهأنذا أعجز عن استيفاء الحد الأدنى منه!