كانت من اكتشافاتي المؤسفة في تجربة السجن أن ضباط الشرطة عمومًا، والأمن الوطني خصوصًا، يجيدون الإصغاء والإنصات أكثر بكثير من غالبية الزملاء في الأوساط المدنية والحقوقية، والثورية سابقًا. ضربت، بيني وبين نفسي، ألف كفٍ بكف متعجبًا من حال من يدعون إلى الديمقراطية، التي تعني، بالضرورة، تبادل وجهات النظر، وتعني، حتمًا، حسن الاستماع والتشجيع على التعبير.
أعرف أن الدعوة إلى شيء لا تعني أن الداعي أفضل من يمارسها، فما أوضح مثال الوُعّاظ الذين يقولون ما لا يفعلون! لكن المفارقة القاسية أن مَنْ يصيخ السمع لنا، ليسوا أقرب الناس إلينا، بل الخصوم الذين نراهم في موضع العداوة للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان!
هنا لا أتحدث عن التنصت، بل الإنصات في المقابلات المباشرة، أو ما يسميه المتخصصون في التنمية الذاتية "الاستماع الفعّال"، الذي يحرص على التأكد من استيعاب ما يقوله المتحدث، ويتفاعل معه ليزيد من فهمه، من دون استعجال على الرد والتعليق.
مرت السنون وتوالت الذكريات التي فسّرت لي كثيرًا من التوتر الذي شاب علاقاتنا وأدى ببعضنا إلى الوقوع في براثن الشلّاحات. بالتوازي، رأيت نماذج متعددة لحسن استماع الضباط، بل والأفراد من أمناء شرطة والمساعدين، بغض النظر عن حسن الأداء بعد ذلك. وهو ما دعاني للتأمل...
سؤال استفهامي وليس استنكاريًا
تجاوزت مراحل التعجب واستنكار كيف يجيد الخصوم الاستماع أفضل من الحلفاء والشركاء، وحاولت فهم الأسباب. ووجدت أن ثمة طريقتين؛ استسهالية وجادة.
من السهل القول إنهم يستمعون إلينا لأنهم مدربون على ذلك جيدًا؛ ليتصيّدوا ما يبنون عليه شغلهم، الذي هو، في الأغلب الأعم، مؤذٍ لنا، وضدنا. فهم لا يشجّعون أحدنا على الكلام والتعبير إلا على أمل الحصول على معلومة، تُستخدم، على الأرجح، في تقويض أنشطتنا. وهكذا، نستسهل شيطنة ما يفعلونه، دون أن نجيب عن السؤال البديهي: ولماذا لا نفعل مثلهم، أو أحسن، بنوايا حسنة تكون مقوية لنا، لا مناهضة؟!
هذه الطريقة الاستسهالية ليست مستساغة لديّ، إذ تحوي قدرًا هائلًا من التسطيح والشعبوية الثورية، التي تشيطن أجهزة السلطة وكأن الحل في إلغاء وجودها! أو كأنها لا تفعل شيئًا سوى الأمن السياسي للأنظمة، وأن أداءها المهني مكرّس لمحاربتنا، وهو، بالمناسبة، غير دقيق وغير صحيح!
لذلك، أميل إلى تحليل المفارقة بين السلوكين النقيضين، بيننا وبينهم. وربما يكون الضميران "نحن" و"هم" أول مفاتيح الإجابة. فهم ليسوا نحن، ونحن لسنا هم؛ أي أنهم ليسوا طرفًا شخصيًا في خلافاتنا الفكرية والحركية. ونحن بالنسبة إليهم "الآخر"، الذين يريدون دراسته لأغراض الدفاع والهجوم، الاحتواء والتقويض، والتحييد أحيانًا.
فهل يمكن اعتبار المسافة التي تبعدهم عنا، اجتماعيًا وإنسانيًا وماليًا، من أسباب عدم استنفارهم ضد ما نقول استنفارًا يدفعهم إلى مقاطعتنا؟
لا تكون، في العادة، بين الضابط والناشط علاقة اجتماعية من أي نوع، لا قرابة ولا زمالة قديمة ولا جيرة، ولا علاقة مالية كذلك. ولا يكون الضابط، في الأغلب، ذا اهتمامات فكرية عميقة تستدعي خلافًا أيديولوجيًا شبيهًا بالمناظرة التي يريد كل طرف الانتصار فيها على غريمه. أما حركيًا، فهما على طرفي نقيض.
فإذا تورط الضابط أثناء "المناقشة" في انتهاكات، ألا يكون ذلك، غالبًا، بسبب شخصنة الأمور واعتبار الناشط أو أفكاره تهديدًا شخصيًا أو اجتماعيًا أو مهنيًا له؟
وعلى الجانب المقابل، ألا يخرج الناشط من غرفة الضابط ويدخل زنزانته الضيقة، أو سجن الوطن الأوسع قليلًا، فيجد نفسه في صراعات حامية الوطيس مع الأقران والمنافسين في المجال ذاته؟ هل يمكن أن تنفصل الذكريات الشخصية والتشابكات الاجتماعية والمالية بين أبناء "الكار" الواحد عن سوء استماع بعضهم لبعض؟
الإنصات والتحرر من التروما
التروما، أو الصدمة مشكلة شائعة، تنتج عن التعرض لحادثة أو سلسلة من الأحداث المزعجة عاطفيًا، أو المهددة للحياة، مع آثار سلبية ممتدة على أداء الفرد، وسوائه العقلي والجسدي والاجتماعي والعاطفي و/أو الروحي.
تتنوع أسباب التروما من العنف الجسدي والجنسي والعاطفي، إلى التجاهل في مرحلة الطفولة، مرورًا بالفراق المفاجيء للأحبة. وقد تكون بسبب معاناة الفقر، أو التمييز، أو القهر، بما في ذلك السجن. وكذلك المعاناة من العنف المجتمعي أو الحروب أو الإرهاب.
قلّما يكون أحدٌ الحالمين بأحلام يناير قد نجا من التروما، بأي من أشكالها. لكن الوعي تزايد في السنوات الأخيرة بأهمية متابعة الطبيب أو المعالج النفسي، لعلاج آثار الترومات المختلفة. وبقدر ما هو محزن، فإن الوعي أهم أركان العلاج.
الضباط يستمعون إلينا وهم مهيئون للاستماع إلى "الآخر"، وربما يكون الفضول والتطلع هما الغالبين على أذهانهم وقت "المناقشة"
ومن مظاهر التروما التي صورتها السينما بشكل كاريكاتيري، أي مبالغ في رسم أبعاده، عبارة شويكار الشهيرة "أنت بتقول عز؟ يبقى أنت اللي قتلت بابايا!" حتى لو كان المتحدث يقول "في عز الحر"، أي ذروته. فكلمة واحدة، يتشابه لفظها مع اسم أبيها، رغم ابتعاد المعنى، وعدم اقترابه من القتل أو الموت، الذي نكتشف في نهاية الفيلم أنه لم يحدث أصلًا، كان كافيًا لاستدعاء التروما عند الشخصية السينمائية.
وهكذا، يقول أحدنا كلمة أو عبارة، ربما يجانبه التوفيق في صياغتها أو اختيار اللفظ المناسب، فإذا بالمكلومين يستدعون كل ما تمثله الكلمة من معانٍ ودلالات، لديهم هم، لم يقصدها المتحدث وربما لم يقترب منها. حينها يجد المتكلم نفسه في مرمى النيران، ويتهم الآخرين بالتربص والترصد. ويُفقد الأمل في أي استماع مرجو.
تدور عجلة الاتهامات المتبادلة وتتوسع لتشمل مكنون الضمير والنوايا، وتُصمّ الآذان عن أي توضيحات، ويصير الأمر، كما يقال، حوارَ طرشان. وعلى النقيض، فالضباط يستمعون إلينا وهم مهيئون للاستماع إلى "الآخر"، وربما يكون الفضول والتطلع هما الغالبيْن على أذهانهم وقت "المناقشة".
ومهما وُثقت انتهاكات وجرائم تعذيب، فلا يمكنني التسليم بأنها الأصل في أداء جهاز بهذه الضخامة والانتشار، وإن كان الأصل لديه، واقعيًا، هو عدم الجدية في مواجهة الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها.
أجادل أن هذا الجهاز قد درب أعضاءه على الاستماع الجيد. وبحكم الهرمية فإن كل فرد فيه يظل طيلة حياته المهنية يستمع جيدًا لمن هو أعلى منه. فإذا أراد استعمال هذه المهارة، المصقلة دائمًا، مع المواطن مقدم البلاغ أو المصدر أو الشاهد أو المتهم، فلن تخذله لياقته. خصوصًا حين يكون حديث أحدنا إليه بعيدًا عن تروماته المحتملة!
لكن الحوار الجيد يفسد الحفلة!
حكى لي الزميل حسام السكري كيف بدأت تجربة "حوارات بي بي سي" و"نقطة حوار"، وكيف آمن بأهمية خلق بيئة حوارية مفتقدة في العالم العربي، بسبب أن الناس لا يستمعون!
عجزنا عن مواجهة السلطة جعلنا نستسهل تحويل بعضنا بعضًا إلى لوحات للتنشين
بدأت التجربة بمناظرة بين طرفين عراقيين؛ أحدهما يؤيد التدخل الأمريكي لعزل صدام حسين، والثاني يرفض التغيير من الخارج بالاستعانة بالأجنبي. حجة المؤيد أن الفاعلين في الداخل العراقي عاجزون عن إزاحة ذلك الطاغية الذي كثرت جرائمه، فيحتاجون إلى دعم أجنبي. وحجة الرافض أن الآثار المترتبة على الاحتلال الأمريكي ستفوق جرائم المستبد الوطني.
لكن أيًا من الطرفين لم يناقش حجة الآخر، بل اتهم المؤيدون الرافضين بأنهم أذناب للنظام البعثي المجرم. ورد الرافضون بأنهم عملاء الإمبريالية. لم يتناول المتناظريْن شيئًا مما قاله الخصم، بل رددوا ما ينتظر جمهور كل منهم أن يسمعه بحماس!
وهنا مربط آخر للإشكال إذن؛ أننا نقرر قبل بداية الحوار ما سنقوله، بغض النظر عما يقوله الطرف الآخر. فهل هناك طرف آخر أصلًا؟!
وفي عالم السوشيال ميديا يتعقد الأمر كثيرًا. فالتفاعل المفتوح يجعل من أي صوت قابع وراء الكيبورد ندًّا لأي صوت آخر من حيث الفرصة. أما من حيث السلوكيات، فالصخب هو السيد. وصوت العقل يُفْسد الحفلة.
المؤسف بحق أن عجزنا عن مواجهة السلطة جعلنا نستسهل تحويل بعضنا بعضًا إلى لوحات للتنشين. فهل نستمع إلى لوحة للتصويب؟ وهل تنطق مرامي النيران إلا بأصداء أصواتنا؟!
والبؤس كله في أن نستنكف عن المراجعة أو التراجع، أو نستكثر الإعذار أو الاعتذار. وكأننا رضينا بأن نصنع ميدانًا بديلًا لساحات النضال الأصلية، لنحقق أية انتصارات وهمية وأية مكاسب افتراضية من أعداد الإعجابات والتعليقات والمشاركات.
وهذه نقطة اختلاف أخرى "بيننا وبينهم". فنحن نعمل في العلن حيث الأضواء، وهم جهاز يعمل في السر والإضاءة الخافتة حريصًا على عدم بزوغ أسماء رجاله، إلا بحسبان. لذلك، فصدامهم العلني معنا لا يكون إلا باستخدام أدواتهم المشهورة من خارجهم، أما الصدام والمواجهات المباشرة بينهم وبيننا، نحن السلميين البعيدين عن العنف، فيكون في غرف ومكاتب مغلقة، بلا جمهور.
أخيرًا وليس آخرًا، فإن الفارق الجوهري بين استماعهم الجيد واستماع أغلبنا الرديء هو أن استماعهم احترافي مدفوع الأجر، فهو جزء من تفرغهم لأداء عملهم الأمني. أما نحن، ومنا نشطاء الحوار بين الثقافات أنفسهم، فالأصل في العمل المدني أنه تطوعي وغير ربحي. ولو تفرغ بعضنا وحصل على راتب في مؤسسة ليعيش به، فإن مجمل أوساطنا متطوعون من المهنيين غير المتفرغين للعمل السياسي والمدني. وليس الهاوي كالمحترف، ولا المتطوع كالمتفرغ!