منذ خروجي من السجن، وكلما سألت عن بعض الأصدقاء والزملاء، فإن أكثر كلمة قد سمعتها هي أن كلًا منهم، على حدة أو مجموعات، ذهب إلى "الشلّاحات".
مع الوقت، أدركت حقيقتين مؤلمتين عن تلك الشلاحات التي ابتعلت منّا الكثيرين؛ أولًا: الشلاحات شاسعة، تتسع لأعداد غفيرة من الناس، وثانيًا: أن الذاهبين إلى الشلاحات يسافرون بتذكرة للذهاب فقط، بلا عودة.
والشلاحات كلمة مستحدثة في العامية المصرية، لها أصل معجمي فصيح، يُقصد بها حالة الضياع التي يشلح، أي يخلع وينزع، فيها الإنسان ما ارتداه أو تلبّس به، سابقًا، من أفكار وقيم وعلاقات ونمط حياة. وهي لا تعني التغيّر في المطلق، بل تعني، تحديدًا، التدهور وفقدان الاتجاه والمعيار، ودرجة كبيرة من العبث والعدمية.
أسباب الإحباط معروفة وواضحة. ودواعي الاكتئاب والانزواء متوفرة بدرجة تغري بتصديرها إلى الخارج. لكن الذين أخبروني بارتحال الكثيرين إلى الشلاحات لم يكونوا هم أنفسهم فيها، وإلا فما كان لي من سبيل إلى لقائهم، لأني لم أذهب ولا أريد ذلك. فلماذا ذهب كثيرون إلى الشلاحات ونجا أيضًا كثيرون؟
يسمعنا الضباط أحسن مما نستمع!
من الملاحظات اللافتة جدًا لي التي اكتشفتها خلال تجربة السجن، هي أن الضباط، خصوصًا ضباط الأمن الوطني، مدربّون جيدًا على الاستماع، وأنهم يطبقون ما تعلموه، لدرجة أن الضابط، مهما علت رتبته أو ارتفع منصبه، لا يستنكف أن يدوّن في مفكّرته بعض العبارات والنقاط في مقابلته للشخص/ المواطن/ المسجون. يعرفون متى وكيف يوقفون المتحدث، أو يغيّرون مجرى الحديث، لكنهم في العموم يجيدون الاستماع الفعّال؛ ذلك الذي يتأكد فيه المستمع أنه قد ألمّ بمضمون ما يقوله المتحدث إلمامًا وافيًا.
المحزن والمزعج في الأمر أني قارنت هذا الاستماع، وهو جزء من مقتضيات الوظيفة المدفوعة الأجر، الذي قد يترتب عليه ضرر بالغ بالمتحدث أو بغيره، بما نفتقده نحن في دوائرنا المهنية والحقوقية و"الثورية الينايرجية" من أبسط آداب الحوار الديمقراطي: حسن الاستماع! فأدركت أن جانبًا من الأذى الذي لحق بنا إنما أنزلناه بأنفسنا في أنفسنا، بوعي أو بدون وعي، عن عمد أو عن سهو.
نعيش في مجتمع لا يستمع الناس فيه بعضهم إلى بعض. لا يسمع الآباء والأمهات أولادهم، لاعتقاد راسخ أنهم يعرفون ما يحتاجه الأولاد، فلا ضرورة لأن يضيعوا وقتهم في سماع ما يريدون. وهي الحال نفسها في المدرسة، وفي الجامعة. أما في دور العبادة، فإن استئثار الشيخ أو القسيس بالحديث، وغياب العدالة في تبادل مواقع الاستماع، هما أشبه ما يكونان بحال الموظف الصغير مع مديره المتسلط. فإذا انخرط المواطن في عمل مدني أو حقوقي، أو اهتم بأنشطة مرتبطة بالحريات، فإن سقف توقعاته يختلف، بل يصل إلى نزعة تعويضية.
ربما يذكر أغلبنا أن الفترة التي تلت ثورة يناير وكثرت فيها الفعاليات والأحداث كان المشاركون يقبضون على دفة الحديث ولا يريدون أن يتوقفوا، بل لا يتوقفون فعلًا إلا بمقاطعتهم. كان الناس، ونحن منهم، في شوق إلى ممارسة حقهم في التعبير عن ذواتهم وأفكارهم. وكان الافتراض أن الثورة التي نادت بالحرية والعدالة الاجتماعية ستوفر أجواء يتمتع فيها الثوار ومؤيدو الثورة بحقهم في الكلام، حتى لو تعثر الفعل. لكن الإحباط بدأ بسلوكيات الأوساط الثورية، بعضهم إزاء بعض.
يتحدث المتحدث، فيقاطعه الحاضرون، أو تتكرر مقاطعته من قبل طرف محدد. يتضايق، لكنه لا يضع يده على موطن المشكلة؛ إذ أن سوء الاستماع أزمة عامة في المجتمع الذي نشأنا فيه، ولم ندرك، بعد، أبعادها وخطورة نتائجها. تتراكم المشاعر السلبية داخله. يجد نفسه مشحونًا ضد شخص، أو مجموعة، أو ضد دائرة داخل وسط، أو حتى ضد الوسط كله. يتفاعل هذا العامل مع عدة عوامل أخرى. تغلي المراجل داخل الصدور. يحدث موقف تافه، كالقشة، فيُقصم ظهر البعير. تتفجّر الخصومة، ويفجُر المتخاصمون.. فيذهب نصفهم إلى الشلاحات!
من حق القارئ أن يتشكك في هذا التشخيص، وأن يتهمه بالمبالغة. لكن يمكنني الدفاع عن مجادلتي بالإحالة إلى الأطباء النفسيين وسؤالهم عن علاقة أغلب المشكلات الأسرية والعائلية بعدم الاستماع، أو حتى بسوئه رغم وجوده. فلنا أن نسأل الخبراء والمتخصصين عن أثر سوء الاستماع، أو غيابه، في علاقة الأمهات والآباء ببناتهم وأبنائهم. ولنا أن نبحث في ارتباط سوء الاستماع وضعف الحوار بالمشكلات الزوجية، خصوصًا التي تنتهي بالطلاق. وهل يختلف الأمر كثيرًا في المجال المهني، أقصد في علاقة الموظف/العامل برئيسه في العمل؟
لسنا أبطالًا خارقين، إنما نحن بشر. يبهجنا منظر الفراشات، وتسعدنا مكالمات الأصدقاء الخالية من الغرض سوى السؤال علينا
معظم النار من مستصغر الشرر
نخدع أنفسنا، ولا يخدعنا أحد، حين نظن أن انشغالنا بالقضايا الكبرى والشؤون الاستراتيجية والنصوص الدستورية، وما شابه من أمور ضخمة فخمة، يجعلنا في حصانة من التأثر بصغائر الأمور. ألم نجرّب وجود حبة أرز أو عدس في جورب أحدنا، أو بين جوربه ونعل حذائه، فتكدّر عليه يومه وترهقه إرهاقًا بدنيًا ونفسيًا رهيبًا حتى ينزعها؟ أليس لحبّة الأرز اللعينة تلك أثر بالغ في سلامة اتخاذ قرار حساس بالبيع أو الشراء أو توقيع جزاء مثلاً؟
هل كنا نظن أن تنظيرنا في عظائم الأمور وتعقيدات الفكر والفلسفة والسياسات المقارنة وأدبيات حقوق الإنسان وتفسير التاريخ سيعفينا من حاجتنا إلى الطعام والشراب والإخراج والترفيه وقليل من التفاهة للحفاظ على اتزاننا النفسي والعقلي؟ الإجابة المؤسفة: نعم! كنا على قدر كبير من العته الكلاسيكي الذي يتصور أبطالاً خارقين، لا يأكلون الطعام ولا يمشون في الأسواق. فإذا لم نكن من الشجاعة الكافية بمكان يجعلنا نعبر عن تصوراتنا الساذجة بصراحة، فإننا كنا نستبطن كثيرًا من تلك القناعات، أو الآمال.
هي ليست فقط أزمة خيال سياسي واجتماعي، بل كارثة إنكار طفولي لاحتياجاتنا الأساسية البسيطة التي إذا غابت فقدنا الاتزان والاتجاه، وصرنا كالسائرين سكارى، لا نحتاج إلى هراوة لتسقطنا، بل نذهب بأقدامنا إلى أقرب عامود لترتطم به رؤوسنا، فنفقد وعينا .. في الشلاحات!
لسنا أبطالًا خارقين، إنما نحن بشر. يبهجنا منظر الفراشات، وتسعدنا مكالمات الأصدقاء الخالية من الغرض سوى السؤال علينا. نفتقر إلى الكلمة الطيبة، وإلى النظرة الحنون، وإلى الاستماع المتفهّم. في نفوسنا أدران قد لا يطهرها سوى الدموع، وفي حناجرنا كبت يتطلع إلى أفق رحيب لنصرخ. وحين نصرخ، فإننا نتوقع أن يتجاوب معنا الكون مرددا أصداء صرختنا، لا أن تُكتم أصواتنا بيد أقرب الناس إلينا، أو من نظنهم كذلك.
الآن فهمت معنىً جديدًا للحديث النبوي "تبسمك في وجه أخيك صدقة"! لقد بخلنا على أنفسنا، كمجتمع، وكدوائر وأوساط محدودة داخل المجتمع الكبير، بأبسط شيء لطيف لا يكلفنا سوى تحريك عضلات الوجه: الابتسامة.
وحين غابت مفردات اللطف البسيطة، وُجدت منغصات الحياة الأليمة، التافهة، الحقيرة، الهامشية، فكانت كشررٍ تطاير في أقفاصنا الصدرية المغلقة على قلوبنا الجريحة. طاول الشررُ القلوبَ السريعة الاشتعال، ونهشت النار نفوسنا وأجسادنا. نجا من نجا، لكن إخوةً لنا كثيرين وقعوا في براثن الشلاحات.