عند خروجي من السجن، وجدت أن كثيرًا من الأصدقاء والزملاء ذهبوا إلى "الشلّاحات". وأيقنت أننا نتحمل قدرًا من المسؤولية عما أنزلناه بأنفسنا طواعية، وكان لدينا متسع لنكون أرحم وأرأف بعضنا ببعض. وذكرت جانبًا من تشخيصي لأسباب الارتحال إلى الشلاحات في المقال السابق، ولكن بقي السؤال: لماذا لا يعودون من الشلاحات؟!
ربما نحتاج إلى المصارحة بأن رؤية من يذكّرنا بالحلم المغدور، والهزيمة المريرة، إنما يجر علينا شريط الذكريات الأليمة.
"أتريدني أن أعود إلى مقابلة فلان وعِلّان، ثم تأخذنا أقدامنا إلى أماكن الذكريات؟ تريدني أن أعود إلى الدائرة التي حلّقنا في سماء طموحاتها، وتحلّقنا فيها يومًا حول بذرة حالمة تخيّلناها شجرة مثمرة فإذا هي رصاصة قتلت أوهامنا؟ من أين لي بالطاقة النفسية والذهنية والمقدرة على أن أصنع بنفسي هذا؟!". هذا هو لسان حال الكثيرين من الذين ذهبوا ولم يعودوا، أو الذين توقفوا في منتصف قنطرة العبور إلى الشلاحات.
عودة إلى ألاعيب النفس
تعتمل داخل النفوس عوامل الشقاق والنفور، ولكننا لا نصارح أنفسنا، ولا نواجه الآخر. نترك أنفسنا كلوحة تنشين يصوّب الرائح والغادي نحوها سهامه. ونسدد، نحن أيضًا، سهامنا تجاههم. نتظاهر، زورًا، بعدم الاكتراث. نحافظ على الصورة الزائفة لأنفسنا أننا الخارقون للعادة، الذين لا تهز عواتي الرياح شعرة منهم. ثم يحدث موقف تافه، كالقطرة الساقطة فوق سطح الكوب الملآن، يتناثر من الإناء الرذاذ أولًا، ثم يفيض طوفان الغضب. تتناثر حمم البراكين، ويتساقط الضحايا في خريف الشلاحات.
هل نظن حقًا أن فلانًا هجر صديق عمره لأنه تأخر عليه ساعتين تاركًا إياه في الشارع، كعادتهما منذ سنوات طويلة؟ أم نصدق أن زميلتنا قاطعت صديقتها المقربة لأنها نسيت تهنئتها بعيد ميلادها؟ وهل يخسر أناسٌ، ممن انشغلوا بالتحول الديمقراطي وسعوا إليه، بعضهم بعضًا لأن أحدهم كتب تعليقًا سخيفًا على فيسبوك، فرد عليه آخر بتغريدة أشد سخافة على تويتر؟ هل نؤمن حقًا أن هذه هي الأسباب الفعلية؟ أم أنها مجرد أقنعة؟!
تهب رياح الغضب الجافة من الحوار والاستماع فتشتعل غابات علاقاتنا التي كانت عامرة بالأشجار المثمرة
علمتني تجربة السجن وسط الجنائيين أن الندرة النادرة من البشر هم الذين يشتبكون بصراحة مع أصل مشكلتهم. أما الغالبية الغالبة فهم واحدٌ من اثنين؛ إما كابت لنفسه يدفع تكلفة ذلك من صحته النفسية والبدنية، وإما مقاوم بالالتفاف حول مشكلته، وهو غالبًا ما يؤذي نفسه والآخرين بهذه الطريقة.
لماذا يخشى الناس من المواجهة؟ سؤال مهم، لكنه ليس الأهم هنا. فالمشكلة لا تتحول إلى أزمة، والأزمة لا تصير كارثة، إلا بسبب التفافنا حول أصول المشكلات.
أغضب من سلوك شخص، فأتعمد مضايقته بسلوك آخر في شأن مختلف عن الأمر الأول، من دون أن يفهم السبب. يغضب لمضايقتي إياه، فيردها إليّ بمضايقة ثالثة في أمر جديد، من دون حوار. تتراكم لديّ ولديه أسباب للخصومة، كامتلاء خزان الوقود. لا ينقصنا سوى شرارة متطايرة. تهب رياح الغضب الجافة من الحوار والاستماع والكلمة الطيبة، فتشتعل غابات علاقاتنا التي كانت عامرة بالأشجار المثمرة.
تأمّل صور حرائق الغابات، واعْلم إلامَ آلت أحوال كثيرين منا ومن شبكات علاقاتنا. هذه هي "الشلاحات"، فكيف يعود منها من حوصر بنيرانها؟!
لكنه يحيي الأرض بعد موتها
وكالغابات المحروقة، يعلمنا كوكب الأرض ألا نفقد الأمل في مطر يغسل آثار النيران، أو في غيث ينزل بالسكينة على الملهوفين. وعلاقاتنا ونفوسنا التي صار كثير منها كالأرض الموات قد تحيا من جديد، بعثًا من رقاد، أو بُرْءًا من اعتلال جسيم. وأول العلاج دقة التشخيص!
نحتاج، قبل الاعتذارات المتبادلة، إلى اعترافات؛ أن نعترف بأننا جزء من المشكلة، وأن معاول الهدم لا تصلح كروافع للبناء. فإذا أردنا أن نكون جزءًا من الحل علينا أن نغيّر من أنفسنا، ليس من وجودنا أو عدمه، وإنما من سلوكنا، أي من طريقة وجود أحدنا في حياة الآخر/ين.
الذين ذهبوا إنما آذونا قبل الرحيل، لكنهم أيضًا آذونا بالرحيل؛ إذْ ذهبوا ومعهم جزءٌ منا
أما الاعتذار، فمنه اللفظي، ومنه العملي. ولنا في معاني اللغة عزاء لكرامتنا التي نظنها قد تُجرح إذا قلنا إننا آسفون. فالأسف قد يكون ندمًا، وقد يكون حزنًا لما حل بالآخر، حتى لو لم نكن طرفًا فيه. فإذا أسِفْتُ لموت والد صديقي لا يعني هذا أني أعتذر عن مسؤوليتي عن ذلك. وبهذا المعنى، يمكننا أن نتجرأ، ثم نتعود، على الجهر بكلمة الأسف، التي لا يدرك كثيرون كم تداوي من الجراح!
يمكننا أن نستعيد الذين ذهبوا إلى الشلاحات كما تستعيد الأم ولدها الشارد؛ بالحب غير المشروط. أعلم أن الذين ذهبوا إنما آذونا قبل الرحيل، لكنهم أيضًا آذونا بالرحيل؛ إذْ ذهبوا ومعهم جزءٌ منا. ربما يكون الجزء الأكثر إيلامًا وضررًا وإضرارًا، لكن لماذا نظن أن خير العلاج البتر؟
نعم، هناك أناس يكون وجودهم في حياتنا كالضروس المنخورة بالسوس، ليس لهم إلا الخلع، أو "الشلح". لكننا أبدًا لا نحِنّ إلى ضرس فاسد خلعناه في حين نضبط أنفسنا كثيرًا نتوق إلى الذين ذهبوا ولم يعودوا، حتى لو لم يكن الحنين سوى إلى معاركنا معهم أو ضدهم. هم ذهبوا آسرين جزءًا من وجداننا ووعينا. وترك فينا رحيلهم ما يجعلنا قد نبدو، نحن المتماسكين، في شلاحات من نوع مختلف إذا تغيرت زاوية النظر. وآن لنا أن نحرر أسرانا!
الحب غير المشروط عطاءٌ لا يقدر عليه أكثر الناس، لكن من أوتي هذه المقدرة يفوز فوزًا عظيمًا لا يناله إلا القليل، بالسكينة والطمأنينة والسلام النفسي والاتساق مع الذات. ألا يُغرينا هذا المكسب بالمنافسة لأن نكون من هذه القلة، أو حتى المحاولة؟
دعونا نبدأ من التفكير فيما ينبغي أن يكون إذا زالت الغُمّة الاستبدادية الكبرى وسرنا في طريق التحول الديمقراطي. إذا كنّا واعين بحجم المظالم التي وقعت، فلا أظننا سنتجاهل تجارب الدول الإفريقية مع لجان "الحقيقة والمصالحة". فإذا استقر رأي العقلاء والحكماء أن حقن الدماء وتحويل النزاعات لن يتم إلا بالمصارحة والمصالحة بين المجتمع/المجتمعات والسلطة، ألّا نستحيّي تكرار أخطاءنا القديمة فنقترف بأيدينا ما نعيبه على الحكّام؟
ألا ينبغي أن نبادر بجلسات للحقيقة والمصالحة بعضنا مع بعض، ليس بغرض إحياء فعل سياسي لن يعود، ولا نحتاجه، ولا تحتمله الظروف الراهنة، وإنما بغرض التعافي النفسي؟ فإذا تبلّدت مشاعرنا وفقدنا تعاطفنا مع الذين ذهبوا إلى الشلاحات فلم نكترث لعودتهم، فهل يأمن أحدنا على نفسه أن يكون الضحية التالية؟ أفلا نتضامن ضد غولة الشلاحات محاولين استرداد أسرانا لديها لنحافظ على من تبقى منا بعيدًا عن طريقها، لكنهم لا يزالون في مرماها؟!
الشلاحات: كلمة مستحدثة في العامية المصرية، لها أصل معجمي فصيح، يُقصد بها حالة الضياع التي يشلح، أي يخلع وينزع، فيها الإنسان ما ارتداه أو تلبّس به، سابقًا، من أفكار وقيم وعلاقات ونمط حياة. وهي لا تعني التغيّر في المطلق، بل تعني، تحديدًا، التدهور وفقدان الاتجاه والمعيار، ودرجة كبيرة من العبث والعدمية.