قبيل القبض على الزميل كريم أسعد، عضو فريق منصة متصدقش المتخصصة في تدقيق المعلومات ومواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة، نشرت المنصة الفيسبوكية تقريرًا عن أكاذيب الأبواق الإخوانية حول سد النهضة. لكنَّ ذلك التقرير توارى في خضم الاهتمام الجارف بأزمة طائرة زامبيا، وانفرادهم بنشر بيانات بعض المصريين الموقوفين عليها في العاصمة لوكاسا.
عوضًا عن إتاحة المعلومات الصحيحة للرأي العام كبديل مستحق عن الشائعات والدعاية السوداء، اتجهت السلطات المصرية إلى معاقبة من يحاولون تقصي الحقائق، فألقت القبض على كريم أسعد بطريقة مروعة له ولزوجته، التي قالت إنها تعرضت للاعتداء اللفظي والبدني والتهديد بابنها الرضيع.
حينها، نشطت اللجان الإلكترونية التابعة للسلطة، ومعها من يريدون "رمي بياضهم" وإثبات ولائهم ابتغاء مرضاة الأجهزة، وشنوا جميعًا حملة شعواء على "متصدقش"، متهمين إياها بالتبعية للإخوان.
انفرجت أزمة كريم أسعد بسرعة غير متوقعة، وبضغط من نقابة الصحفيين وبعض الشخصيات الحقوقية، وباستجابة مشكورة من صوت العقل داخل النظام الذي يسود العبثُ سياساتِه. بالتوازي، كان هناك من يبحث في أرشيف متصدقش ليثبت استقلاليتها وموضوعيتها، وأنها تفضح أكاذيب الإخوان كما تفضح أكاذيب وتلفيقات التصريحات الرسمية، سواءً بسواء.
ظهر تقرير تفنيد الأكاذيب حول سد النهضة، وأُعيد نشره على نطاق واسع بالتزامن مع خروج كريم أسعد وبعدها بقليل، فانقلب الإخوان ومناصروهم على "متصدقش" التي وافقت هواهم بنشر المسكوت عنه من السلطة في قضية الطائرة، وأزعجتهم بتبرئة السيسي من اتهامات مرسلة وجهها له إعلام الإخوان.
انضم إلى الغاضبين بعض الشخصيات العامة غير الإخوانية، مثل الفنان عمرو واكد، الذي أعلن إلغاء متابعته "متصدقش" بسبب تقرير سد النهضة. وانهمرت الاتهامات على "متصدقش" بأنها نشرت ذلك التقرير كثمن لخروج كريم أسعد، رغم أن نشره كان قبل القبض عليه بيومين، بالتوازي مع تتابع نشر حلقات استقصاء قضية الطائرة.
كيف يصنع الإخوان الكذب في السجون؟
في بؤس الثنائيات التي لا تزال تطاردنا بمنطق "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، واستكثار الناس أن يكون بينهم مستقلون ليسوا ممن لا يتكلمون إلا إذا دُفِع لهم أو ابتزهم طرف ما، ولا ينشرون إلا إذا قَبَضوا أو قُبِض عليهم من جهة ما، فإننا ينبغي أن نتوقف قليلًا أمام صناعة الكذب عند الإخوان، كي لا يظن ساذج أن السلطة وحدها من تحتكر هذه الصناعة.
الآن يهاجم الإخوان "متصدقش" لأنها فضحت أكاذيبهم، التي بدأت من أبواقهم الدعائية ثم تسللت إلى المنصات المهنية، كشبكة الجزيرة القطرية، وكأن الخصومة السياسية والمظلومية الإنسانية تسوّغ لهم استباحة الكذب. ولكن لمَ العجب من كذب الهاربين خارج البلاد، المورّطين آلافًا في السجون بالتحريض على ما لا يشاركون فيه وهم الآمنون من الملاحقة، إذا كان الكذب يُمارسه ويصنعه الإخوان داخل مصر على إخوانهم في السجون؟!
إن رؤى السجن من أهم أصناف المخدرات التي يتعاطاها الإسلاميون بكثافة وإدمان
بسبب عدم تصنيفي من قبل الجهاز الأمني، رحمني الله من التسكين مع السياسيين أغلب فترة سجني، فكانت تجربتي الإنسانية والمعرفية مع الجنائيين ثرية وعميقة، على ما شابها من منغّصات. وفي الشهور الأخيرة، تم نقلي إلى غرفة سكنها إسلاميون سابقون ومتعاطفون مع الإخوان انضموا إلى أحد برامج المراجعات التي نظمتها مجموعة السجون بقطاع الأمن الوطني.
أغلب هؤلاء المتراجعين عن مواقفهم التنظيمية أو المتعاطفة/المؤيدة للإخوان، لم يُكْرِههم الضباط على تغيير موقفهم، وإنما أذهلتهم سلوكيات الجماعة داخل السجون، حتى نزعوا منهم آخر ذرة قبول سياسي أو اجتماعي لهم. يظل المشترك الإنساني قائمًا والتضامن الحقوقي والتعاطف مع المصاب الجلل موجودًا، لكنهم، في السجن، أدركوا جوانب اجتماعية خطيرة ومعتلّة ومؤذية تتجاوز الغباء السياسي والإخفاق التنظيمي.
ومن ذلك ما حكاه لي بعضهم عن اكتشافهم كيف يصنع الإخوان الكذب ويتلاعبون بأعضائهم داخل السجون بألعاب نفسية بهدف تصبيرهم بمسكّنات، يسميها السجناء "مخدرات" و"بنج". فإذا كنا نذكر السيرك البشري الذي أقيم على منصة اعتصام رابعة (قبل فضه الدموي المفرط في القتل بغير داع)، وإذا تذكرنا تخدير مشاعر المعتصمين برؤيا ادّعى راويها أن الملاك جبريل قد ظهر في مسجد رابعة العدوية، فإن رؤى السجن من أهم أصناف المخدرات التي يتعاطاها الإسلاميون بكثافة وإدمان.
فإذا ضعف تأثير الرؤى لجأوا إلى تلفيق الأخبار ونشر الشائعات، بدعوى التسريبات والنقل عن مصادر موثوقة. فلما تبين، مع مرور السنوات، فداحة الكذب والتلفيق، لم يستسلم الكاذبون، بل لجأوا إلى حيلة رخيصة يروّجون بها الكذب بهدف التماسك والصمود!
عرفوا أن "الهبد"، أي التخرّص بغير علم، ينفضح إذا انحسرت مصادره، فماذا يصنعون وهم العالمون بأنه يكفي الإنسان كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع، كما ورد في الحديث الشريف؟
يُرسلون "الأخوات" بأكذوبة يريدون لها أن تنتشر، ولتكن اقتراب حدوث مصالحة مع النظام، فتجلس "الأخت" وسط الأهالي أمام بوابة السجن، وتنشر الشائعة. تقوم من جوار هؤلاء لتجلس مع أولئك، وتُعيد الكرة مرات ومرات. تطول فترات الانتظار، وتتعدد كشوفات الزيارات، ويكون ذلك في مصلحة الشائعة!
يعود السجناء إلى زنازينهم، فينقلون الأخبار إلى المتلهّفين عليها الذين لم يخرجوا منها؛ إذْ يكون لديهم زيارة أو جلسة. يتشككون في الشائعة المريبة والغريبة. ينتظرون حتى اليوم التالي. يخرجون إلى التريض، يجدون الشائعة خبرًا مؤكدًا يتناقله كثيرون ممن لا يعرف أحدهم الآخر، وربما كانوا خصومًا في السجن أو من محافظات نائية بعضها عن بعض خارج السجن.
بعد مرور شهور وسنوات، وبعد تنقل ضحايا الشائعات الإخوانية بين عدد من السجون، اكتشفوا أن الإيحاء بانتشار "الخبر"، أو بالأدق: شيوع الشائعة، كان مخططًا بما يوصف على ألسنتهم في العامية المصرية بـ"رغي النسوان"، وهو وصف أقل إساءة مما يُستعمل في السجون. فيا له من "رغي نسوان" موجّه وهادف!
لكل هبّيد سمّيعة من المفكرين بالأماني!
التفكير بالأماني Wishful thinking أحد آفات الشعبوية وعقلية القطيع المعادية للتفكير النقدي والتحليلي. لا يرجّح المفكرون بالأماني السيناريو الأكثر واقعية ولا ينحازون إلى التحليل الأقرب إلى الموضوعية، وإنما يختارون دومًا ما يتمنونه، ويرجّحون ما يرجونه.
إن كان من ينشر رأيه يُتهم بنشر الأخبار الكاذبة، فذلك حريٌّ أن يحملنا على التدقيق، كي لا نكون تروسًا في آلات تزييف الوعي وتضليل الجماهير
إذا تفهّمنا عقلية الألتراس كاحتباس فكري في لحظة تعبئة سرمدية، تُعلي من قيمة الانتماء والولاء لكيان النادي الرياضي وما يمثله من رمزية لدى كل جمهور على حدة، بغض النظر عن انتصاراته وإخفاقاته، أو حتى سوء أدائه، فإن ذلك غير مقبول في العمل السياسي.
إذا كانت تكلفة السياسة في الدول الديمقراطية هي المخاطرة بخسارة محتملة للسلطة والنفوذ والتمويل وانحسار التأييد الجماهيري، وربما الملاحقة القانونية لبعض الفاسدين، فإن تكلفة العمل العام، وليس فقط السياسي، في الدول السلطوية الاستبدادية تطاول الرقاب والأعمار والأرزاق والحريات والكرامة. وهذا أدعى إلى العقلانية الحذرة في التعاطي مع الشأن العام في مثل هذه الدول ومثل تلك الظروف.
وإذا كان من ينشر الأخبار الصادقة في مصر يتهم بنشر الفتنة وتهديد السلم الاجتماعي، فضلًا عن الاتهام المبتذل بـ"الانضمام لجماعة إرهابية"، وإن كان من ينشر رأيه يُتهم بنشر الأخبار الكاذبة، فذلك حريٌّ أن يحملنا على التدقيق، كي لا نكون تروسًا في آلات تزييف الوعي وتضليل الجماهير. يستوي في ذلك أن يكون التضليل خادمًا لأغراض السلطة أو موافقًا لهوى المعارضة.
فلو علم "الهبّيدة" أن مستمعيهم سينقدون ما يهبدون ولن يتسامحوا مع الكذب والاستسهال والاستغفال، بل سيفضحون الكذب ويواجهونه ويقاطعون ناشريه ومروّجي الشائعات، لتوقف كثير من الهبد. لكن الهبّيدة مطمئنون إلى جماهيرهم الغفيرة من المفكرين بالأماني، الذين لا يصدّقون إلا ما يوافق آراءهم، ولا يحبون أن يسمعوا ما يمكن أن يهز قناعاتهم.
فإلى الزملاء في "متصدقش".. لا تأسوا ولا تحزنوا، فلا يزال بعض مدمني التصنيفات يوزّعون اتهاماتهم ويتنازعون تصنيف الشخص الواحد بكل شيء ونقيضه؛ وقد يتزامن اتهام الشخص نفسه بالدفاع عن الإخوان ودواعش سيناء، ويُصنّفه الإسلاميون علمانيًا ليبراليًا يساريًا، ويكفّره الدواعش، ويراه التقدميون عالقًا في أسانسير الرجعية، وتضعه بعض النسويات في خانة الخصم الذكوري، فيما ترى فيه "أخوات" كل ما هو عكس ذلك. كل هذا في التوقيت ذاته. ولا تنتهي التصنيفات في مجتمع أصمّ مأزوم، بلْ مكبوتٍ مهزوم!