انضم الناشر الصحفي هشام قاسم بداية هذا الأسبوع لقائمة تضم شخصيات عامة مصرية، رفضوا دفع الكفالة كشرط للإفراج عنهم، في انتظار محاكمتهم في قضايا سياسية، مفضلين الحبس عن الدفع، لا لعدم قدرة مالية، بل بقدرة عالية على المقاومة المعنوية لما يرونه ظلمًا ومساسًا بكرامتهم.
ورغم جسامة تأثير هذا القرار على صحتهم، فإنهم يثبتون، ولو بشكل رمزي، إصرارهم على أنهم لم يجرموا ليُعاقبوا في قضايا رأي من سلطة الادعاء قبل حكم القضاء، في ظل دستور يحظر أي أحكام تسلب حرية المتهمين في قضايا النشر!
الكفالة والمشروعية والقدرة
قرار حبس المتهم أو إطلاق سراحه بكفالة حتى البت في القضية، متروك لدينا حسب النظام الفرنسي لتقدير سلطة التحقيق، وعادة ما تكون النيابة، أي الادعاء العام، خلافًا للوضع في بريطانيا والولايات المتحدة إذ يكون للقاضي وحده، بعد سماع الدفاع والادعاء.
وعدا التهم الجنائية الكبرى كالقتل، يُفترض أن يبقى الشخص حرًا بعد تحقيقات النيابة بضمان مكان إقامته، أو حتى مع التحفظ على جواز سفره في حالات المخاوف الجدية من هروبه تجنبًا لعقوبة قاسية!
بالتالي، الأساس هو الحرية، ويُفترض ألا يدفع الشخص ثمنًا ولو رهنًا مؤقتًا للحصول عليها، طالما لم تصدر المحكمة حكمًا بالحبس، الذي لا ينبغي أن يكون عقابًا على سبٍّ أو قذف، فالغرامة والتعويض المالي هما سبيل العقاب على فاحش القول.
يُفترض أن يكون مبلغ الكفالة، عندما تكون ضرورية، ضمانًا ماليًا لن يضحي به المتهم بعدم ظهوره في المحكمة وباقي تحقيقات النيابة. بالتالي؛ يُفترض أنه مبلغ باهظ.
وصلت أعلى كفالة قررها قاضٍ أمريكي إلى ثلاثة مليارات دولار، للإفراج عن رجل الأعمال روبرت دورست في قضية قتل بولاية تكساس عام 2003، وذلك بعد هروبه من الشرطة من قبل. اعتبر الدفاع المبلغ تعجيزيًا واستأنف لتخفيضه إلى 450 ألف دولار.
لذلك كان وصف رجل الأعمال نجيب ساويرس مبلغ الكفالة الذي قررته النيابة للإفراج عن قاسم بأنه "غير منطقي"، وفي قضية لا تستدعي سلب الحرية. وقال إنه شخصيًا رفض وقت حكم مبارك دفع كفالة مشابهة للإفراج عنه، وأضاف على منصة إكس "خمسة آلاف جنيه لا تمنع من أي شيء لكن تجرح وتفتح الباب لتأويل أسباب القبض عليه".
ضد الكفالة رغم ضآلتها
مبلغ الكفالة، الخمسة آلاف جنيه، لم يتغير في أغلب الأحيان على مدى ثلاثة عقود في سجلات النيابة، مثلما لم تتغير مواقف بعض المعارضين الذين رفضوا مقايضتهم على حريتهم في شكاوى كيدية أو قضايا رأي. ما تغير هو قيمة هذه الكفالة.
لو حسبناها اليوم مقابل سعر الجنيه الرسمي أمام الدولار ستساوي نحو 160 دولارًا، فكم كانت من قبل؟!
حلمي مراد
في بداية التسعينيات، رفض الدكتور محمد حلمي مراد، وزير التعليم في عهد عبد الناصر، والأمين العام لحزب العمل المعارض في عهدي السادات ومبارك، أن يدفع كفالة للإفراج عنه، بعد اتهامه بالسب والقذف بسبب مقالاته في جريدة الشعب عن الفساد في وزارة البترول، ثم التلميح في مقال آخر لصلة علاء مبارك بصناعة البلاط.
وحين حاول أنصاره والحزب دفع الكفالة التي كانت تساوي وقتها نحو 1300 دولار، حيث تجاوز سعر الدولار الثلاثة جنيهات بقليل، رفقًا بسنه وصحته، كان قد نُقل لقسم النزهة دون الإعلان عن مكانه، بعد أن أغلقت النيابة أبوابها، لضمان أن يبيت الرجل السبعيني ليلته على بلاط الزنزانة رغم الصقيع وقتها، كقرصة أذن أو لسعة برد مباركية!
أيمن نور
بعد ستة أسابيع من القبض على المعارض ومؤسس حزب الغد أيمن نور بتهمة تزوير أوراق حزب الغد، أفرج نظام مبارك عنه في مارس/آذار 2005 بعد احتجاجات أمريكية، إذ أثارت وزيرة الخارجية آنذاك كونداليزا رايس الأمر مع نظيرها أحمد أبو الغيط خلال اجتماع في واشنطن، وفي مؤتمر صحفي في القاهرة.
قرار النائب العام كان الإفراج عن نور بشرط دفع كفالة عشرة آلاف جنيه (نحو 1700 دولار، قبيل أن يقفز من 5.75 جنيه إلى 6.50 جنيه). لكن المعارض المصري الذي سينافس مبارك لاحقًا في انتخابات الرئاسة رفض دفع الكفالة. وقال محاميه أمير سالم وقتها إن "الدكتور أيمن يرى أنها قضية سياسية"، و"ليس عليه أن يدفع شيئًا للحصول على حريته". ولكن أنصاره أقنعوه لاحقًا بالتراجع، ليخرج متوجهًا على الفور، بملابس السجن، لدائرته في باب الشعرية، مدشنًا حملته الانتخابية في مواجهة مبارك.
معارضو الرئيس مرسي
بعد مرور نحو عشرين سنة على كفالة حلمي مراد حيث الدولار بنحو ثلاثة جنيهات، وعشر سنوات على كفالة أيمن نور عندما بلغ الدولار ستة جنيهات، ظل مبلغ الكفالة "خمسة آلاف جنيه" و"عشرة آلاف".
فبعد ثورة 25 يناير وخلال السنة اليتيمة للرئيس محمد مرسي، حين كان الدولار بسبعة جنيهات، ظلت النيابة في عهد النائب العام طلعت عبد الله تُقر هذين المبلغين ضد المعارضين المتظاهرين من شباب الثورة، مع فارق أن التنظيمات التي تشكلت لتحدي النائب العام والتشكيك في شرعيته حينها، وجدت ترحيبًا من صفحات الصحف وشاشات التليفزيون داخل مصر، لنشر ما وثقوه من تجاوزات.
كان من بين هذه التنظيمات، حملة باسم "حقي يا دولة"، التي أشارت في مايو/أيار 2013 إلى قيام "النيابة بإعطاء كم من الكفالات التعجيزية للمعتقلين. وقامت النيابة بإخلاء سبيل 30 معتقلًا بكفالة 5000 جنيه لكل معتقل بما يبلغ 150 ألف جنيه".
سعد الكتاتني
لم يمر شهران على هذا التقرير، حتى انقلبت الأوضاع بعد الإطاحة بالرئيس مرسي، الذي واجه ضمن طائفة اتهامات أخرى، تهمة ازدراء القضاء، ومعه في الاتهام نفسه سعد الكتاتني، رئيس حزب الحرية والعدالة المنحل والرئيس الأسبق لمجلس الشعب قبل حله قضائيًا.
وفي حين أمرت النيابة بحبس المرشد العام للإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف لأربعة أيام قيد التحقيق في اليوم التالي لاعتقال الرئيس مرسي في قضية إهانة القضاء، أمرت بإخلاء سبيل الكتاتني في القضية ذاتها ولكن بكفالة "خمسة آلاف جنيه". ورفض الرجل دفع الكفالة فقررت النيابة حبسه في هذه القضية مع باقي القضايا المحبوس على ذمتها، التي أبقته في السجن لعشر سنوات حتى الآن.
قلاش ونقابة الصحفيين
في مايو 2016، وردًا على دعم مجلس نقابة الصحفيين لزميلين معتصمين اقتحمت الشرطة مقر النقابة للقبض عليهما، استدعت النيابة العامة يحيى قلاش النقيب آنذاك ومعه وكيل النقابة، والنقيب الحالي، خالد البلشي، والسكرتير العام للمجلس جمال عبد الرحيم، ووجهت لهم تهم التستر على متهمين و"نشر أخبار كاذبة" عن اقتحام الشرطة.
وقررت النيابة الإفراج عنهم بكفالة عشرة آلاف جنيه لكل منهم، وكان سعر الدولار 8.88 جنيه، ولكن سعره في السوق السوداء وقتها تجاوز هذا الرقم.
رفض قلاش وجمال والبلشي دفع الكفالة كشرط لعدم الحبس، لكن تدخل وسطاء وحلت الأزمة بدفع الكفالة في قسم قصر النيل مع الإفراج عنهم.
هشام جنينة
بعد أسبوع من موقف الصحفيين ضد الكفالة، كان المستشار هشام جنينة يتخذ موقفًا مشابهًا. فتصريحات الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات بأن تكلفة الفساد في مصر وصلت إلى نحو 600 مليون جنيه، لم تكلِّفه منصبه فحسب.
استُدعي المستشار جنينة في يونيو/حزيران 2016 أمام نيابة أمن الدولة العليا بتهم تكدير السلم العام ونشر أخبار كاذبة. وبعد التحقيق، أمرت النيابة بالإفراج عنه بكفالة عشرة آلاف جنيه، لكنه رفض أن يدفعها مؤكدًا تمسكه بسيادة القانون واستقلال القضاء.
غير أن تدخل أسرته انتهى بدفع الكفالة رفقًا به من الحبس. ولم يمر عامان حتى قُبض عليه بعدها في قضية أخرى تتعلق بصلاته بالمرشح الرئاسي الفريق سامي عنان. ليقضي حكمًا بالسجن لخمس سنوات، انتهت بإخلاء سبيله في فبراير/شباط الماضي.
هل شراء الحرية عادل؟
الحالات السابقة كانت لشخصيات حاولت أن تتخذ موقفًا مبدئيًا ضد ثنائية "الدفع أو الحبس" في قضايا الرأي، التي يعتبرونها ظلمًا وتسييسًا قبل الوصول إلى قاضيهم الطبيعي، لأن هذا يتم في مرحلة الادعاء العام، دون وجود حكم بين الدفاع مع المتهم والادعاء ممثلًا في النيابة كخصم، هم يعتبرون أنهم بذلك "مدانين إلى أن تثبت براءتهم" وليس العكس.
ولا تعد قيمة الكفالة في أغلب تلك الحالات إلا رمزية، هم قادرون ماليًا على دفعها.
لكن مشكلة الكفالة، حتى حين يصدرها قاضٍ كما هو الحال في أمريكا، أنها تثير معضلة القدرة الاقتصادية على الحرية والوصول للعدالة؛ ليس فقط في تكلفة المحامين والتقاضي، بل حتى في القدرة على دفع الكفالة. إذ إن نحو ثلث عدد المحبوسين في أمريكا في انتظار محاكمتهم من الفقراء الذين لا يملكون دفع كفالة بمتوسط عشرة آلاف دولار في تهم جنائية بالسرقة أو غيرها. ويلجأ الكثيرون منهم إلى قبول تسوية مع الادعاء بالاعتراف أمام القاضي بجرائم أقل ليقضوا فترات سجن أقل بدلًا من مواصلة الحبس.
تذكر نوارة نجم في كتابها إنت السبب يابا... أن والدها الشاعر أحمد فؤاد نجم لم ينسَ الكفالة التي قررتها النيابة شرطًا للإفراج عنه عام 1972، وكانت قيمتها تسعين جنيهًا ( أي نحو مائتي دولار أمريكي). وبعد أن جمع صديق تبرعات من محبيه، أنفقها ولم يدفع الكفالة. وحين لجأت والدتها صافي ناز كاظم للمخرج يوسف شاهين لدفع الكفالة ولو كمقابل لحق الأداء العلني لأغنية بهية في فيلم العصفور، اعتذر المخرج، بدعوى أنه "فقير" بالمثل!