وضعت المتبرعات أكياس الطعام والمساعدات جانبًا، وأخذن يتحدثن للفتيان والمراهقين الفقراء وأطفال الشوارع والجانحين عن القيم والأخلاق والدين. فما كان من أحد الشباب الأكثر جرأة والأقل صبرًا على هذه المحاضرات شبه الإجبارية إلا أن أوقف إحدى الشابات القائمات على تقديم المساعدات قائلًا:
"باقولك يا أبلة، ما تخلصي الوعظة بتاعتك دي. خلينا نتسمم اللقمة اللي انتِ جايباها! انتِ أصلا جاية تاخدي ثواب على قفانا! لو إحنا مش موجودين ما كنتيش انتِ بقيتِ ست المحسنة! وانتِ تخشي الجنة عشان بتاعة ربنا، واحنا نخش النار عشان حرامية و ..".
تصف الكاتبة المصرية نوّارة نجم هذا المشهد بأنه كان مثل لكمة نزلت على أنفها بعنف، وهي الضربة التي جعلتها تفكر، كما تقول في آخر فصول كتابها الصادر هذا العام في أن هذا الفتى كان مجرد صعلوك، مثل أبيها، يتيم الأب، شاعر العامية الشهير أحمد فؤاد نجم (الفاجومي)، والذي قضى بدوره عددًا من سنوات طفولته في مؤسسة اجتماعية.
ورغم أن الكتاب يحمل في عنوانه الفرعي اسم شهرة الشاعر الأب، فهو أيضًا، وأولًا، كتاب عن نوارة نفسها وعن عائلتها وعن التحولات السياسية والاجتماعية في البلاد بعيني طفلة وشابة وامرأة. كان "نصيب" نوارة أن تكون ابنة شاعر بوهيمي مزواج أقر هو نفسه أنه لم يكن أبًا جيدًا، وكاتبة وناقدة مسرحية شهيرة شديدة الصرامة والمحافظة الدينية.
وفي فصول الكتاب كافة تتعامل نوارة مع والديها ومع نفسها بحزم وصراحة وتشكك وتردد وغضب، لكن في وعاء عميق من الحب والتفهم، وتستعرض فترات يقينها وفترات ضعفها على قدم سواء.
لم تتبع نوارة أبيها في بوهيمية حياته ولكنها تأثرت أكثر بأمها، وخاصة فيما يتعلق بالملابس والطقوس، لفترة طويلة. وتوافقت مع أبويها في رابطة صوفية عميقة مع آل البيت، وخاصة "سيدنا الحسين". واتفق الثلاثة أيضًا على الاهتمام بالعمل العام بأشكال متعددة ومتنوعة، ومتعارضة أحيانًا.
من الخوف إلى التحدي
يأتي كتاب نوارة بعد عدة كتب صدرت في العامين الماضيين عن، أو بقلم، نساء مصريات تحكين عن قصص حياة تتشابك بعمق مع التحولات السياسية والاجتماعية في البلاد خلال العقود القليلة الماضية.
هكذا، إضافة لصدور كتاب نوارة، وانت السبب يابا... الفاجومي وأنا، في 2022 عن دار الكرمة، صدر جبل الرمل، لرندا شعث في 2020 عن الدار نفسها، ومذكرات عزة فهمي: أحلام لا تنتهي في 2022 عن الدار المصرية اللبنانية، وإبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا لسامية محرز عن دار الشروق في 2021، وأمينة رشيد أو العبور إلى الآخر لسلمى مبارك عن دار المرايا في 2023، وأخيرًا من الخوف إلى الحرية سيرة ذاتية روتها عفاف محفوظ وكتبها كاتب المقال وصدرت في 2023 عن الكتب خان.
وفي السنوات القليلة السابقة برز كتاب المولودة لنادية كامل، وفي العقود السابقة اغتنت المكتبة العربية بالكتابات الذاتية التي تمزج بين سيرة الحياة وتحولات الوطن، مع نوال السعداوي، وأروى صالح، ولطيفة الزيات، ورضوى عاشور، وإنجي أفلاطون، ... وغيرهن.
تقدم هذه الكتابات شهادات مهمة حول التحولات الاجتماعية والسياسية والفنية في مصر منذ أربعينيات القرن العشرين وعلى مسار السبعين عامًا التالية. وهي العقود شهدت تحولات عميقة في الدولة المصرية ما بعد الاستعمار، كذلك في الصراع بين التيارات التحديثية والمحافظة، والقومية والدينية، كما شهدت تغوّل ثم سيطرة المؤسسات الأمنية على الدولة والمجتمع، وانهيار مشاريع التنمية في كل الوطن العربي وضياع حلم "تحرير" فلسطين.
ورغم التآكل النسبي في سيطرة القيم المحافظة، والمؤسسة الأبوية المتسربلة بقيم تقليدية ومسوغات دينية، ما زالت النساء تواجه فضاءً عامًا معاديًا، بل قاتلًا في أحيان كثيرة. شهدت مصر مؤخرًا أعمال قتل وحشية في الشارع بسبب رفض الضحايا الارتباط بقاتليهن، أو مطاردات أخلاقية شرسة لفتيات الطبقات الوسطى الساعيات للحصول على المال والاستقلال عن طريق تطبيقات مثل تيك توك.
تبدو هذه الهجمات مثلها مثل الثورات المضادة والحروب الأهلية التي ضربت معظم البلدان العربية التي سعت جماهيرها في انتفاضات عفوية في مطلع العقد الماضي للتخلص من أنظمتها السياسية المترهلة والفاسدة والقمعية.
ومثلما ردت هذه الأنظمة بشراسة يبدو أن قطاعًا كبيرًا نسبيًا من الرجال صار مستنفرًا إزاء الخسارة المحدقة بمكانتهم وسلطتهم في المجتمع، والتي فقدت بعضًا من أدواتها أو تعرضت لهجمات وانتقادات متتالية وخاصة على صعيد التعامل مع جسد المرأة، و"شرفها"، ومؤسسات الزواج، ورعاية الأولاد بما يشمله من الطلاق والحضانة والولاية.
ومن هنا تبرز أهمية هذه الكتب التي تقدم رؤية متنوعة وعريضة من موقع المرأة والنسوية لكل هذه التطورات على مدى عدة عقود. وهي كتب تثير الشجن، والخوف، ولكنها تبعث على الأمل والتحدي.
من الحب للقسوة.. للحب
في وانت السبب يابا تستعرض نوارة نموها ونضجها في خلفية الحياة الصاخبة المضطربة لأبيها الشاعر الصعلوك وأمها الكاتبة العنيدة الصلبة المثقفة المبدئية، صافي ناز كاظم، وكيف تجاذباها في اتجاهات متعارضة حينًا وربما متكاملة حينًا.
وفي الكتاب فوائد للمعنيين بحياة نجم وكاظم والمثقفين المصريين عمومًا، خاصة اليساريين التقدميين منهم، منذ السبعينيات وحتى ثورة 2011. لكن قيمته الاستثنائية، مثله مثل كتاب المولودة لنادية كامل، وجبل الرمل لشعث، ومن الخوف إلى الحرية لعفاف محفوظ، تكمن في تشريح علاقة أجيال متعاقبة من البنات بهؤلاء الآباء والأمهات؛ كيف أحبوهن، وكيف قمعوهن، وكيف مكنوهن ومنحوهن القدرة على الطيران، وكيف قيدوهن.
كانت صافي ناز كاظم تصر على أن تناديها نوارة بـ"حضرتك"، وهو أمر كان مزعجًا لها للغاية.
"كنت طفلة طيعة ومراهقة متقفل عليها، ولم أتسبب لأمي في مشاكل، ولم يُستدع ولي أمري إلى المدرسة، ولم أرسب في الامتحانات. لم أكن طفلة مغامرة تقدم على القفز من النوافذ، ولم أحظ في مراهقتي بأي فرصة للشقاوة. باختصار، لم يكن هناك سبب يستدعي التحديف بالشباشب ومقاطعتي لمدة يوم كامل وأحيانًا يومين سوى أني كنت أنسى وأقول لأمي "أنتِ" بدلًا من "حضرتك". وكان بيتنا يشتهر بين الجيران في العباسية باسم "عيلة حضرتك"، و"حضرتك" هذه كانت قصة طويلة مما دفعني إلى منع أبنائي قسرًا من نطق هذه الكلمة البغيضة التي عكرت علي طفولتي ومراهقتي".
ربما تتمكن الكاتبات من الحديث عن قسوة الأم لأنهن تكتبن من موقع حب وتفهم في معظم الوقت، أو ربما يفعلن هذا للتخفيف من وطأة ما تكتبن. في جبل الرمل كتبت رندا شعث أنها ظنت في طفولتها أن مبعث قسوة أمها عليها "أنها قد تكون وجدتني رضيعة في الشارع. لا أتذكر أنها حضنتني أو قبلتني يومًا، أتذكر صرامة قوانينها: النوم قسرًا بعد الظهر، النوم مبكرًا حتى في الإجازة الصيفية، بقائي أسيرة أمام كوب الحليب أو عشائي حتى أنتهي منه".
وبعد سنوات في الحياة، وفقرات عدّة في الكتاب، تضيف رندا كيف كانت أمها تحضر "مجلس الآباء في المدرسة، تعلم بما أحتاجه من ملبس أو أدوات وتأتي به قبل أن أطلبه... تراعي كل تفصيلة عملية في حياتنا وتحاول حمايتنا من تقلبات الصراعات السياسية التي يعاني منها أبي، ومن مخاوفنا في ظل سفره المستمر".
هذا السفر وهذا الاختفاء كانا أيضًا سلوكًا مستمرًا لدى فؤاد نجم، أحيانًا رغمًا عنه بسبب السجن وأحيانًا أكثر لعدم تنازله عن رغباته واهتماماته من أجل العناية بابنته، أو حضور مناسبات تهمها. وللمفارقة فقد تحولت نوارة في سنوات نجم الأخيرة لممارسة دور أمومي ورعائي له، وهو المريض المهمل الرافض لنصائح الأطباء.
ورغم أنهما كانا على طرفي نقيض بعد زواجهما القصير، فإن صافي ناز كاظم حرصت دائمًا على إبقاء علاقة قوية بين نوارة ونجم. بل إجباره أحيانًا على القيام بواجبات الأبوة، ليس تخفيفًا لبعض الأعباء عن كاهلها بل من أجل الوفاء باحتياجات نوارة العاطفية.
وتذكر نوارة كيف أن البعض انتقد أمها بشأن منهجها قائلين "هو ما يستاهلش" فردت عليهم صافي ناز "بس بنتي تستاهل". وفي فقرة بديعة تقر نوارة بفضل أمها في هذا الصدد.
"كونه يستحق أن تكون له ابنة تبره وتوده وتحبه أم لا، فهذا أمر عليه خلاف. وكوني أستحق أن أسير مع أمي في الطرقات أبحث عن أبي، مع ما يحمله كل ذلك من ألم يثقل قلبي الصغير ويشعرني أني لست محبوبة ولا مرغوبة بما يكفي من أبي، فهذا أمر عليه خلاف أيضًا. أما بشأن أن هذه التضحيات لا مردود لها، قولًا واحدًا: لا، بل لها مردود كبير. لقد سعدت جدًا وتألمت جدًا وضحكت جدًا وبكيت جدًا... بسبب العلاقة مع أبي".
غير أن هذا الشد والجذب بين طريقة حياة نجم والمبادئ الحاكمة لسلوك صافي ناز سببت أذى كبيرًا لمشاعر نوارة، مثلما حدث بعد أن ارتدت الحجاب وهي فتاة صغيرة تحت تأثير أمها التي حذرتها من "معصية الله"، ثم نالت سخرية من أبيها "إيه يا بت اللحاف اللي أنت لابساه على دماغك دا".
يبدو الآباء في معظم هذه الكتب مشغولين أكثر بحياتهم المهنية والعملية، وبأنفسهم، رغم مشاعر الحب والرعاية الواضحة تجاه بناتهم. في أحد مشاهد جبل الرمل يدق هاتف رندا. تقول لوالدها على الجانب الآخر من الهاتف أنها تنتظر موعدها عند الطبيب. يشكو لها من مرضه المفاجئ بالبرد. تتمنى له بالشفاء. انتهت المكالمة دون حتى أن يسألها لماذا تزور الطبيب!