مثلما فعلت نوارة مع أبيها الشاعر أحمد فؤاد نجم، حين استنقذت سيرته من صورة الموهوب الصعلوك سليط اللسان المزواج، وقدمته في كتابها وانت السبب يابا إنسانًا من دم ولحم وخوف وتطلع ونجاح وفشل وخيبة أمل لنفسه ومن حوله؛ ها هي سامية محرز تقوم بعمل لا يقل طموحًا وبراعة، مع واحد من أهم مثقفي مصر في النصف الأول من القرن العشرين في كتابها إبراهيم ناجي: زيارة حميمة تأخرت كثيرًا.
ومحرز هي حفيدة إبراهيم ناجي (1898- 1953)، سجين صورة الشاعر الرومانسي الباكي على الأطلال، وعلى صروح حب بناها ثم دكها الحظ أو الزمن. و"الزيارة" في عُرف الكاتبة متأخرة، لأنها تكتب عن جدها الذي هيمن ظله على سنوات حياتها، ولكنها تحاشته، بل وتجنبت حتى ذكر علاقتها به في المدرسة، عندما تعيّن على صفها دراسة أحد قصائده من الشعر العمودي الموزون، وهي القصائد التي يصعب على الطلبة في مصر حتى الآن فهمها، ناهيك عن امتلاك الحساسية اللازمة للشعور بموسيقاها ومراميها، بسبب طرق تقديمها وشرحها.
وإلى أن عثرت على أوراقه الشخصية، كان ناجي في حياة سامية محرز عبارة عن صورة ضخمة في مدخل البيت. كانت تلك الصورة "جزءًا لا يتجزّأ من المنزل وجدرانه: حاضرة وغائبة في آنٍ. لا تستوقفني أبدًا في تنقلاتي داخل المنزل، بل إنني لم أكنْ أحبها.. كنت أتجاهل وجودها".
صرحًا من خيال
لا يقتل الكتاب تمامًا صورة ناجي الرومانسية، المنتمية إلى قصيدته الأطلال التي غنتها أم كلثوم في عام 1966 للمرة الأولى، بعد 13 عامًا من وفاته. ولكنه يكسوها لحمًا ودمًا وأخطاء ونجاحًا وفشلًا. يكشف الكتاب، بفضل مذكرات ناجي وخطاباته، عن رجل له جوانب غنية متعددة؛ إنسان عاش في سياق تاريخي معين، وعانى داخل مؤسسات بيروقراطية معينة، ودخل في صراعات ثقافية معينة، وعاش علاقات غرامية متعددة، وشكا لنفسه، ولمن حوله، معاناته المستمرة من قلة موارده وكثرة مصروفاته.
يقدم الكتاب في المقام الأول سيرة جزئية عن مصر في النصف الأول من القرن العشرين، تتناول جوانبًا اجتماعية وسياسية وبيروقراطية واقتصادية متنوعة، من منظور رجل مثقف من الطبقة الوسطى، ويقدم في المقام الثاني المؤلفة ذاتها، وكيف تتعرف على جوانب مخفية في عائلتها، وربما في نفسها.
يعود الفضل في خلق الكتاب بصفة أساسية للأوراق التي حصلت عليها الكاتبة بعد وفاة خالتها، التي احتفظت بمذكرات وترجمات لأبيها. وظلت الأوراق في حوزة الخالة، المقيمة في الولايات المتحدة، أكثر من خمسين عامًا تقريبًا، خططت أثناءها لنشر بعضها، ولكنها لم تفعل. ومن ناحية أخرى اعتمد الكتاب أيضًا على خطابات وأوراق شخصية، كانت تحتفظ بها الابنة الكبرى لناجي؛ أم المؤلفة.
ريما لم تنشر الخالة مذكرات أبيها حرجًا من بعض المقاطع، أو لانشغالها بحياتها العملية والخاصة، ولكنها كتبت أن هذه المذكرات تضم "مقاطع شخصية للغاية"، كما أن بعض الأوراق كان بها أشعارًا غير موزونة، وكانت هذه أغنيات وليام شيكسبير مترجمة للعربية، وتحديدًا أربعين أغنية منها.
ولحسن الحظ، ولأنها مفكرة نقدية، تخلت محرز عن تقاليد العائلة في نشر الملائم فقط من هذا التراث، لأنها ببساطة لم ترد أن تخرج على العالم "بمسخ يُضاف إلى كل المسخ الذي ابتدعناه لرموزنا السياسية والثقافية والفنية والغنائية والسينمائية، محولين كل هؤلاء إلى آلهة معصومة من الخطأ والخوف والهوان والندم، ومحرومة من البهجة واللعب والعشق والنشوى، بل من الحياة نفسها".
فعلت محرز هذا لأن الصورة الرومانسية المبجلة، أو ما أسمته عن حق بالمسخ، كان "هو السبب الأول للجفاء بيني وبين جدي".
علاقات ناجي
كتب ناجي عن علاقاته الغرامية بشكل مبتور ومبهم، ورغم أن المؤلفة لا تتشكك في وجود هذه العلاقات فهي تعتقد أن معظمها "مكمل لصورة ما يأملها لنفسه". وترى فيه نموذج رجل "ذكوري" يكتب عن عشيقاته ويفكر فيهن كما فعل مُجايلوه، طه حسين والعقاد والرافعي وغيرهم، في علاقتهم بالكاتبة مي زيادة.
يقول ناجي عن علاقته بإحدى النساء "كنت أغامر في لقائها، أعطتني كل شيء. وآخر لقاء كان بيني وبينها كان في الحلمية بالاس. كانت تستعد للزفاف فجاءتني بثوب العرس. ولكننا تغاضبنا، وقضينا ليلة سيئة. بعد هذا مرِضت وسافرَت إلى الإسكندرية".
وبالصدفة اكتشفت محرز تفاصيل وشخصية عليّة الطوير، معشوقة ناجي الأولى، عن طريق أحد أحفادها، وهو المؤرخ حسين عمر، لنكتشف أن ناجي تقدم للزواج من عليّة، بنت أحد جيرانهم في شبرا، في أوائل عشرينيات القرن الماضي.
لم تقبله الأسرة وفقًا لإحدى الروايات، لتتزوج عليّة في نهاية المطاف من دبلوماسي مصري، وتذهب معه إلى ليفربول حيث مرضت بشدة، واضطرا للعودة للقاهرة. وعليّة الطوير، هي في الأغلب من أهدى لها ناجي عددًا من كتاباته، ومَن كتب في مذكراته أنه عندما التقاها ثانية، وهو في أواخر الأربعينات من العمر، كان يوّد لو قبّل "يديها وقدميها وكل جزء منها".
وهناك قصص أخرى مبهمة عن حبيبات أخريات، مثل هنرييت التي اتضح أن لها زوج وأولاد، وجيرمين التي أرسلت له خطابًا فيه صورة زوجها، وبهيجة، وجاكلين، وفريدة، وحكم، وفلك... حتى معشوقته الأخيرة زازا. كلها كانت قصص تعبّر، كما تقول محرز، عن "أزمة حقيقية، فكلها غير مكتمل، وكثير منها مع نساء يعرف جدي جيدًا ومسبقًا أن قصته معهن لن تكتمل".
ماتضيعش فلوسك على الكتب!
تفتح مذكرات ناجي وخطاباته نافذة على حياة الطبقة الوسطى المصرية وتحولات القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين. انتقلت عائلة ناجي من قلب القاهرة القديمة، الغورية والأزهر، إلى ضاحية خضراء ريفية الطابع شمال القاهرة في مطلع القرن. ويصف ناجي هذا الحي، حيث عاش طفولته، بأنه كان "كالزمردة الصافية تزهو باليانع الأخضر"، واصفًا المزارع التي أحاطت بمنزلهم هم وعدد قليل من العائلات التي انتقلت هناك.
وفي الثلاثينيات، اختفت هذه الصورة الرومانسية وصارت مكانًا حزينًا "شبرا الجميلة... اكتظت اليوم بالمساكن المتلاصقة، وأفسدتها المدينة الجديدة ونزح إليها خلقٌ كثيرون، اشتروا تلك المروج البديعة ابتنوا بها مساكنهم الصغيرة المتقاربة".
ومن القاهرة انتقل ناجي لمدينة المنصورة، حيث افتتح عيادة في 1927 إلى جانب عمله رئيسًا للقسم الطبي لسكك حديد مصر في المدينة. وبسبب مرضها، أو مللها من الإقامة وحيدة في المنصورة مع زوج مشغول بالعمل وأنشطته الأدبية، عادت زوجته لتقيم بالقاهرة مع أهلها، وبالقرب من معارفها، حيث كانت تتلقى خطابات منتظمة من ناجي. وصل ليد المؤلفة 28 خطابًا، منها ما كُتب على أوراق مراسلات القسم الطبي لسكك حديد مصر، أو على روشتات عيادته الخاصة.
كتب ناجي أول خطاباته لزوجته بالفرنسية وبرومانسية مفرطة "أنا بعيد عنك، وحيد، محطم، شارد، وضائع... مضى اليوم الأول بدون أن أتلقى كلمة واحدة منك... كيف عساي أن أقضي يوم غد بدون كلماتك الرقيقة، بدون الحديث اليومي الساحر؟".
وتتساءل محرز محقة عن اختيار هذه الكلمات التي تبدو "ثقيلة لا تناسب خطابًا يخطه لعروسه، وليس لشخصية في رواية رومنسية. أم أن جدي الحالم كان قد نسج لنفسه تصورّات وهمية لعلاقته بزوجته الشابة؟" ولم ترد الزوجة بالفرنسية، بل بعربية بها بعض الأخطاء الإملائية، ودعته لأن يصغي لنصيحتها "أقبل نصيحتي يا حبيبي إن ماتضيعش فلوسك على الكتب، بزيادة اللي عندك".
ومع الوقت، تهاوى صرح الخيال الرومانسي هذا، وجفت علاقة ناجي مع زوجته لتنتهي أيام كان يناديها باسم الدلع "سومة" لتصبح "سامية" أو "الزوجة"، بل ويتشاجر معها. يقول في مذكراته أنها كانت "كريهة ومتجهمة لأنني قلت لها إن النقود شحيحة اليوم. معي عشرون جنيهًا رصدتها كلها لطلباتها وطلبات بناتها... لا تفكر إلا في مصالحها".
وربما بقي ناجي في مؤسسة الزواج خوفًا من تبعات الطلاق، أو حبًا لبناته الثلاث. ولم يعد ليتلطف مع زوجته في مذكراته سوى بعد مساندتها إياه خلال محنته الطبية والمادية في أواخر سنوات عمره القصير. يقول في أحد آخر تدويناته "فيها جانب طيب جدًا لم أكن أفطن إليه، في نفسها جمال كان متواريًا عني، وسبب ذلك إني كنت مبتعدًا عنها، أما الآن فإني أحبها. أحبها جدًا ونادم على إساءاتي إليها. نادم جدًا".
المثقف الموسوعي
كان ناجي قارئًا شرهًا، وترك مكتبة كبيرة متنوعة باعها الورثة بسبعين جنيهًا في منتصف الخمسينيات من أجل سداد ديونه. وكان يقرأ بعدة لغات، منها الإنجليزية والفرنسية وربما الإيطالية، ويطلع على أحدث المؤلفات في علم النفس والأدب، حيث نعرف من خطاباته لزوجته أنه قرأ رواية الكاتبة الإيطالية جراتسيا ديليدا بعد فوزها بجائزة نوبل بعام، في أواخر العشرينيات في المنصورة.
وكتب ناجي وحاضر في مواضيع وأماكن عديدة: عن سيكولوجية المرأة لجمعية نشر الثقافة في المنصورة، عن سيكولوجية السياسة في دار الأبحاث في القاهرة، وعن سيكولوجية الجنس في الجمعية الإكلينيكية في القاهرة، ثم عن الارتعاشات والغدد والأنيميا في مستشفى فؤاد، وعن الكاتب الروسي دوستويفسكي في المعهد البريطاني في المنيا... محاضرات لا تنتهي عن الأدب ومذاهبه وأعلامه.
وتنوعت قراءاته من شعراء العرب القُدامى حسان بن ثابت، وعمرو بن كلثوم، إلى كتّاب معاصرين مثل الأديب الأمريكي مارك توين والمحلل النفسي الإنجليزي إرنست جونز. وإضافة للشعر والرواية والمقالات، نشر ناجي عدة كتب نثرية ونقدية، وأعد كتابًا عن طب العائلة.
ليس من غير الشائع وجود هذا النوع من المثقفين الموسوعيين في تلك الحقبة، ولكن ما يميز ناجي أنه جمع إلى جانب الولع بالقراءة الشغف بالكتابة والإنتاج والمحاضرة في عدة مجالات.
انتقام البيروقراطية
يتمنى المرء لو كتب نجيب محفوظ أكثر عن عمله في جهاز الرقابة على السينما، أو كتب صلاح عبد الصبور أكثر عن عمله في وزارة الثقافة. تخيّل أنك تقرأ شعر المتنبي دون أن تعرف أنه كان يعتمد في العيش على ما يناله من مديح الملوك والسلاطين، وهجائهم إن لم يدفعوا.
ومن هنا تأتي أهمية التفاصيل المادية في حياة ناجي، التي يكشفها هذا الكتاب بما فيها عرائض الشكوى لرؤساء وزارة بسبب تخطيه في الترقية، أو قصائد مدح لوزراء ساعدوه، وعلاقات خاصة مع مسؤولين "ضمنت له في لحظات عابرة اعترافًا استثنائيًا متمثلًا في ترقية ما أو درجة أعلى في السلم الوظيفي".
ويجرؤ ناجي على الاستقالة في منتصف مارس/آذار 1945، ويكتب "أنا الآن حر، أتنفس الصعداء"، ولكنه يفشل في العثور على عمل، ويعود منكسرًا للوزارة في منتصف مايو/أيار "كلا لست حرًا... عدت إلى العمل وكتبت صك مذلّتي بيدي. عدت في الدرجة الرابعة مفتش فني. عدت ولا مكتب ولا مكان ولا شيء. مرت عليّ أشهر من أسوأ ما مرّ في حياتي".
وتتدهور حياة ناجي وصحته بعد هذا، فيصاب بالسل وهو يواصل مقاضاة وزارة الأوقاف، ويكتب في 1948 "كانت محنة المرض قاسية جدًا عليّ. وقد مررت بها بمعجزة... أعرف أن صدري لا يزال على شفا جرف. أعرف أني أسير على حرف هاوية. ولكن عليّ أن أكافح وأن أقوم بتكاليف الحياة، وأن أسدد ديوني، وأن أهزم أعدائي، وأن أربي أولادي... كل هذا عليّ أنا المتعب المسكين".
ويكتب عن أهم ما كان يؤرقه تلك الفترة، وهو التكاليف المادية، "لا أنسى أن الوزارة صرفت لي "ستريبتومايسين" (مضاد حيوي) على حسابها، ثم عادت فكدرت كل ذلك الجميل بالمن وأفسدته بالنذالة والكذب والتجريح".
ويستغيث ناجي برئيس الوزراء النقراشي باشا في مذكرة طويلة، يفصّل فيها صراعاته البيروقراطية وأحقيته كطبيب وشاعر، سعى لدراسة علوم النفس وما يتصل بها من أدب واجتماع، لكي يكون طبيبًا مكتملًا. لا تهم الوزارة مثل هذه المقاربة للطب وممارسته، وستفصله في نهاية المطاف، قبل وفاته بعام واحد، أو في 1952.
وتُقدم محرز تحليلًا ألمعيًا لاضطهاد ناجي وظيفيًا، وتُرجعه إلى أنه لم يستوف شروط المجال الطبي والبيروقراطي الحكومي، حيث التميز في مجالات أخرى مثل الأدب وعلم النفس لا يفيد، بل قد يضر. ترى محرز أن المحزن في حياة ناجي أن المؤسسة البيروقراطية عاملته بقسوة معظم الوقت، لأن إسهاماته ككاتب وأديب خارج حدود المهنة، بينما تناسى الأدباء أعماله النثرية المجددة والمثيرة في مجال طب الأسرة، لأنها خارج نطاق الأدب.
وهكذا، كان الجميع يشطرونه ويستغنون عما لا يهمهم، بينما حاول هو طوال الوقت أن يعيش مكتملًا أو "يطبب" هذا الانشطار.
هم الديون
مات ناجي مديونًا، هو المهموم معظم حياته بتأمين احتياجات أسرته المادية. كان يكتب مصاريفه في مذكراته ويوبخ نفسه أحيانًا على إسرافه. في خطاب في أغسطس/آب 1928 من المنصورة يكتب عن سعيه لزيادة موارده، حيث وافق على الكشف على مرضى إضافيين في عيادة صديق في طنطا، الواقعة على بعد خمسين كيلومترًا من المنصورة، علاوة على عمله بعيادته الخاصة، وبالقسم الطبي بالسكة الحديد.
وفي موقع آخر يكتب عن مصروفات يومه قائلًا "مصروفي كتير من غير مناسبة وكله ضايع في فنجان قهوة ومسح جزمة وجرنال وكلام فاضي، وأحسب حسابات آخر النهار ألقى نفسي صارف 8 جنيه". وكانت تسعيرة الكشف في عيادته أيامها نحو عشرين قرشًا، أي أنه يحتاج أربعين مريضًا ليحصل على هذه الجنيهات الثمانية.
وبعدها بنحو 15 عامًا صار ناجي في حال أسوأ بكثير، وهو يصفها بإيجاز ووضوح "الأمور المالية: زفت. فقد شارفت أحيانًا على الإفلاس التام". ويشكو في أوائل عام 1946 "لم أدفع مصاريف المدرسة للبنات. لأول مرة في حياتي (قسطين) البقال لم يُدفع. قسط التليفون لم يُدفع. بلاعة البيت مفتوحة".
الأطلال
لولا أغنية الأطلال، التي شدت بها أم كلثوم من كلمات وسطور مقتطعة من قصيدة ناجي الطويلة، لم يكن الطبيب الأديب ليحصل على كل هذه الشهرة. صارت الأطلال أشهر أغاني سيدة الغناء العربي، خاصة في حفلاتها المتتالية في تونس والمغرب وفرنسا لجمع التبرعات للجيش المصري بعد هزيمة 1967.
والأغنية مزيج من قصيدتي الأطلال والوداع، مع اختصارات وتبديلات في بعض الكلمات. القصيدة الأصلية مؤلفة من 134 بيتًا، بينما لا تزيد الأغنية عن 31 بيتًا. وقام الشاعر أحمد رامي، الذي ألّف عشرات الأغاني لأم كلثوم، بعمل مدهش في الاختصار والإضافة والحذف، لتصل القصيدة لطول مناسب للأغنية دون كلمات صعبة أو مهجورة.
لماذا نكتب
نجح جهد سامية محرز الأكاديمي وشغفها بتتبع القصة في كشف وتحليل جوانب من حياة ناجي، اختفت في كتابات صالح جودت ووديع فلسطين غير الدقيقة، التي أطّرت ناجي في صورة مجرد شاعر رقيق مرهف ورومانسي.
وهكذا منحت محرز جدّها حياة جديدة وشخصية أكثر ثراءً، وربما أيضًا تصالحت هي ذاتها مع تراثه وتفهمت، وأفهمتنا، نحن قراؤه، سياقاته المركبة. وهذا كله لا شك أفضل للمعنيين برؤية جذور الحاضر في الماضي، وكذلك قطيعته معه، مما فعلته الأم أو الخالة، حيث عجزت الأولى عن نشر ترجماته ولم تحب نشر مذكراته، بينما انتقت الثانية من بين خطاباته، خاصة ما كتبه لزوجته في أول شهور علاقتهم عن حبه وتعلقه بها، كي تنفي من المجال العام الأقاويل والشائعات عن علاقاته العاطفية.
خافت الخالة من نشر تفاصيل حياة ناجي الشخصية بينما نشرت الأم ما رأت فقط أنه أمر مشرف، يثبت وفاء ناجي لزوجته (أمها) ومناهضة من ادعين أنهن كن معشوقاته وملهمات لشِعره.
لمّا طالت الكتابة بمحرز سألتها أمها "بتكتبي إيه كل ده؟ وبعدين مين اللي حا يقرا الكتاب ده؟ ده الناس كلها ماتت خلاص!"، غير أن الناس كلها لا تموت، وهناك ما يكفي من المهتمين بإعادة النظر فيما جرى، وكيف اُستعملت نسخ مبتسرة من التاريخ من أجل اختزال الماضي في قوالب معينة تؤدي، عن قصد أو عن جهل، لتبرير قراءات قاصرة له تُبرر بعض ما يجري في الحاضر.
- صدر كتاب "إبراهيم ناجي: زيارة حميمة تأخرت كثيرًا" لمؤلفته سامية محرز عن دار الشروق، 2021، ويقع في 274 صفحة من القطع المتوسط.
- تشمل أعمال إبراهيم ناجي دواوين "وراء الغمام"، و"ليالي القاهرة"، و"الطائر الجريح"؛ وسبع كتب نثرية منها "مدينة الأحلام"، و"كيف تفهم الناس"، و"أدركني يا دكتور"، و"رسالة الحياة"، و"عالم الأسرة".