يتخلل عنوان جبل الرمل الذي اختارته رندا شعث لسيرتها كل فصول كتابها، تتسرب حياتها مثل الرمل بين أصابعنا، في دقائق أو سنوات، دون ملاحظة مرور الزمن سوى في لحظات الفرح والأمل القليلة، أو في فترات الضربات الموجعة المتعددة، وخاصة خيبة توقعاتها في الحياة السياسية والاجتماعية أو من الضربة الأكبر، الموت.
تنغرز أقدام الأطفال في الرمل ورندا تلعب معهم قرب بيت المندرة على شاطئ المتوسط، فيصرخون ويواصلون اللعب، غير أن آثار أقدامهم الواضحة في الرمل سرعان ما تنمحي. وما تفعله رندا ببراعة مع الكلمات القابضة على هذه اللحظات الزمنية المتوالية نابع في الأغلب من قدراتها الفائقة كمصورة، وهو القبض على الزمن والمكان في لحظة مناسبة وتخليدها بمعنى ما.
تكتب رندا كما لو أنها تحمل كاميرا، فهناك وصف مادي دقيق وعاطفي مستفيض لمشاعرها ولأشخاصٍ ومبانٍ وشوارعٍ وطبخاتٍ واجتماعاتٍ وأثاثٍ وسياراتٍ ونجاحاتٍ وإخفاقاتٍ وصداقاتٍ وزيجاتٍ وخيانات. مشاعر ذهبت جميعها ومعظمها في ظروفٍ حزينة سواء أجرى هذا على مدى سنوات وعقود كما وقع لبيتِ العائلة في المندرة الذي دهسته التحولات الاقتصادية، أو لكارثةٍ تحل فتغير العالم في ثوانٍ كما فعلت الأزمة القلبية المفاجئة التي أودت بحياة شقيقها الأصغر علي.
ولمن يريد أن يعرف كيف عاشت أسرة متعددة الثقافات العربية من الطبقة المتوسطة العليا منذ ستينيات وحتى نهاية تسعينيات القرن العشرين في مصر، بأدق التفاصيل، سيكون كتاب رندا كنزًا متعدد الطبقات. بل أنه يذهب بنا إلى ثلاثينيات القرن العشرين، أيام كان يمكن للواحد أن يستقل قطارًا في بيروت ويهبط منه في الإسكندرية، مرورًا بالقدس وغزة.
يمضي الكتاب إلى خيبات الأمل التالية لثورة يناير كما عبر عنها أحد أصدقاءها قائلًا وهما يُطلان على ميدان التحرير من شرفة شقته ليشاهدا سيارات تدور بلا هدف حول "خازوق العلم الذي يتوسط الكعكة الحجرية" قائلًا "هنموت ومش هنشوف حاجة تانية". ويكون رد فعل رندا، حماية لنفسها ربما من حزن كاسح، هو أن تخلع نظارتها الطبية "لتشويش الرؤية الواضحة أمامي"، لمحو هذا الواقع المؤلم.
تذكّرنا ملاحظات رندا عن مشاعر من حلموا وتطلعوا لمستقبل مختلف في مصر ببعض ما كتبته أروى صالح في المبتسرون حول الحلم الذي مسها سحره ثم راح وترك مرارة وألمًا. ولكن على عكسها تترك رندا المستقبل مفتوحًا حيث "البحر لا ينتهي" خلف مرآة الجدة في بيت المندرة رغم أن البيت ذهب، وراح جبل الرمل وبات البحر مختبئًا خلف عماراتٍ شاهقة شائهة.
رحيل دائم
وبسبب عمل الأب، نبيل شعث، في منظمة التحرير الفلسطينية، تنتقل الأسرة لتعيش في بيروت في السنوات السابقة على الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي. ويقيم معهم في البيت حارس مدجج بمدفع رشاش بعد أن جرى اغتيال ثلاثة من كبار قادة المنظمة في بيوتهم على يد فرق قتل إسرائيلية: كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف.
تحكي رندا عن سلة جاهزة موضوعة تحت سريرها لتأخذها معها للمخبأ إذا استدعى الأمر، تضع فيها شمعة وعلبة كبريت ورواية لمؤلفة سويسرية تعيش فيها بنت مع جدها في جبال الألب في قلب الطبيعة الجميلة أبعد ما يكون عما يجري في بيروت وخطر الموت المحدق.
ومثل كثير منا عندما نغادر مكان في طفولتنا معتقدين أننا سنعود له مرة واثنتين حسبما نرغب، فنصحب معنا بعض أثاره، غادرت رندا بيروت بسبب تدهور الوضع الأمني في خريف 1975:
"في علبة بنفسجية صغيرة، مزينة بزهور جاردينيا مطبوعة، خبأت بعناية، بعيدًا عن الأعين المتطفلة، رموز ما تبقى من ذكريات طفولتي. ورقة صغيرة بها عنوان ناقص، قطعة لبان أعطاني إياها صالح ابن الجيران، خاتم فضي رفيع كان لصديقاتي الثلاثة دينا وهدى وليلى مثله في البناية التي أسكنها، رسائل طفولة تبادلناها نحن الأربعة لنؤكد أننا نحب بعضنا البعض وأننا لن نفترق أبدًا، خصلة شعر بُنية لصديقتي دينا بادلتها بأخرى سوداء من شعري، سوار معدني مكسور كان يخص جدة زميلتي كارون في المدرسة، بعض الصور ..."
على هامش السياسة.. وفي قلبها
رغم وقوعها في قلب السياسة، فإن ذكريات رندا لا تتعرض لأي عملٍ مباشر منظم في المجال السياسي. تصف بدقة الأثمان والخسائر التي تكبدتها هي وأسرتها وأصدقائها، ومحاولات المقاومة المستميتة لتطاير أحلام التحرر الوطني في الثمانينيات والتسعينيات.
في 1982 انطلقت قافلة سيارات من القاهرة لشاطئ قناة السويس تلوح بالأعلام والأغاني للسفن الحاملة للمقاتلين الفلسطينيين الذين تم إجلاؤهم من بيروت بعد الغزو الإسرائيلي. وبعد قضاء شطر من الليل في الصحراء والهتاف في قلب الليل "ثورة ثورة حتى النصر" لسفينة مقاتلين عابرة في الظلام، تمكنت رندا من الصعود لمتن إحدى سفن الترحيل في بورسعيد حيث أعطاها مقاتلون كثيرون خطابات بعناوينهم وأسمائهم لتُطمئن أهاليهم، ثم ودعها دليلها على السفينة وهو يعطيها "مشط الرصاص من بندقيته... وقال لي: سنلتقي في القدس".
لم تذهب رندا للقدس حتى عام 1990، مستخدمةً جواز سفر أمريكي حصلت عليه بفضل مولدها في الولايات المتحدة عندما كان أبيها يدرس هناك لدرجة الدكتوراه. تصف رندا جذورها في المكان والزمان بفرح وشجن:
"أمشي فوق السور العتيق، وكأنني عصفورة طائرة فوق القباب والمآذن وأبراج الأجراس. أكاد ألمس قبة الصخرة الذهبية، أقرص نفسي عشرات المرات، غير مصدقة أنني هنا. يشير زياد ... إلى موقع مدرسة تيرا سانتا للرهبان الفرانسيسكان في القدس. درس بها جدي علي في المرحلة الثانوية قبل أن يتخرج معلمًا في الجامعة الأمريكية في بيروت. صار ناظرًا وتنقل في مدن فلسطينية كثيرة: صفد حيث وُلد أبي، الخليل حيث وُلدت عماتي، ويافا حيث وُلد عمي، المحطة الأخيرة قبل رحيلهم إلى الإسكندرية.
أخطو كل خطوة فوق السور، أحمل معي في قلبي حكايات جدتي وأبي. سكنت قلبي خريطة، وفي خيالي وصف تفصيلي للبيوت والشجر والطعام، عبر السنين جمعت كل القصص التي يمكن جمعها، كلما قابلت أحدًا من هناك طلبت منه أن يحكي وأن يصف. سمعت مئات القصص التي صارت جزءًا من ذاكرتي. اكتسبت خريطتي تفاصيل وروائح وملمسًا".
بحثت رندا عن بقايا محطة قطار غزة التي عبر بها جدها علي الفلسطيني وجدتها سميحة اللبنانية ولم تجد شيئًا
وهذا ما تفعله رندا ببراعة في معظم الكتاب عندما تصف روائح وملمس الأشياء والعلاقات، المربى، كعك العيد، الكسكسي، تذكير نخل البلح، ومشاعر البهجة العارمة بالانتصارات القليلة قصيرة الأمد، مثلما فعلت في زيارتها لقطاع غزة في 1994:
"ليلة خروج جيش الاحتلال الإسرائيلي من غزة، لأول مرة منذ احتلالها في 1967، وكل ليلة لأكثر من شهر بعدها، بقى الناس في الشوارع حتى الفجر. كان حظر التجول أثناء سنوات الاحتلال يبدأ يوميًا في السادسة مساء. أخرج الناس كراسي البيوت إلى الشوارع وجلسوا وتبادلوا الحلوى والتهنئة.. وكنت أنا وأبي، وأخي علي وزوجته دينا، ونبيل ابنهما الرضيع، أول من وصل إلى غزة من عائلتي. أسبوع بعد دخول وحدات الشرطة الفلسطينية وشهر قبل عودة ياسر عرفات.
زحفت الجماهير باتجاه البحر تعويضًا عن حرمان سنوات. انتصبت آلاف الخيم والمظلات الملونة بطول الشاطئ للحماية من الشمس... زينت أعلام فلسطين كل أكشاك المقاهي الصغيرة التي انتشرت بين الخيم، وظللّت طائرات ورقية بألوان العلم ما تبقى من السماء الصافية. الخيول أيضًا أخذت نصيبها وسبحت".
بحثت رندا عن بقايا محطة قطار غزة التي عبر بها جدها علي الفلسطيني وجدتها سميحة اللبنانية في طريقهما من بيروت إلى الإسكندرية في ثلاثينيات القرن الماضي، ولم تجد شيئًا. ذهبت القضبان لتحصين خط بارليف الإسرائيلي الذي اكتسحه الجيش المصري في حرب 1973، واستخدم الفلسطينيون بعض المتبقي من الحديد في تحصين أسوار بيوتهم، بينما اختفت محطة القطار ذاتها.
وعلى عكس التفاؤل المبثوث في ثنايا كتاب نوارة نجم وانت السبب يابا رغم قسوة بعض مشاهد الكتاب، فهناك إحساس عارم بالفقد والضياع الأبدي في كتاب رندا، وصولًا لاختفاء جبل الرمل ذاته الذي كان يقوم عليه منزل الجدة فاطمة في المندرة، في مكان كان شبه صحراء، يطل على البحر بمفرده في السبعينيات.
"كان جبل الرمل قد انهار حين بدأ حفر أساسات عمارة على حافة السور البحري. بيعت الرمال البيضاء، واختفى الجبل تمامًا بعد بناء ثلاث عمارات ملتصقة على الصف نفسه... صار الجبل مسكنًا لمئات العائلات.. تعبت (جدتي) من الحر والرطوبة حتى في غرفتها البحرية، حاصرتها من كل الجهات عمارات عشوائية عالية سدت منافذ الهواء، أصابتها حالة ارتباك... تنظر من شباك غرفتها البحرية وتسأل: هو المكوجي اللي كان هنا راح فين؟ العبارة الأكثر ترديدا صارت "أنا عايزة أرجع البيت – رجعوني البيت".