
جدة العالم الغامضة.. مصر في كتاب مجهول لألكسندر دوما
ارتبط اسم الروائي الفرنسي ألكسندر دوما (1802-1870) بالرواية الشهيرة الكونت دي مونت كريستو (1844)، إلى جانب الفرسان الثلاثة التي صدرت في العام نفسه وحظيت بشهرة واسعة فيما بعد، وغيرها من الروايات والكتب التي تعرف العالم من خلالها على هذا الكاتب المميز.
بين هذه المؤلفات، كتابٌ مجهولٌ لدوما عن مصر، يقودنا إلى فترة تاريخية مهمة شهدت فيها البلاد العديد من الأحداث الكبرى التي رسمت مسارها في العقود التالية.
محمد علي يتولى حكم مصر
في عام 1805، أحكم محمد علي قبضته على مصر، ونتيجة لحالة الاستقرار التي عاشتها البلاد، بدأت الوفود السياحية والأثرية في التوافد على البلاد خصوصًا مع التسهيلات الهائلة التي منحها الباشا للأجانب.
رغب محمد على في كسب ود الأوروبيين ليساعدوه في بناء دولته الجديدة، لذلك منحهم امتيازات واسعة، من بينها الفرمانات والتصريحات التي أتاحت لهم التنقيب عن الآثار بحرية تامة والاحتفاظ بما يجدونه لأنفسهم.
بمرور الوقت تحول وادي النيل إلى ساحة صراع بين الإنجليز والفرنسيين الذين تنافسوا للظفر بالمجموعات الأثرية المبهرة وإرسالها إلى متاحف بلدانهم، ولعبت البعثات القنصلية دورًا مهمًا في هذا الصراع، فالقناصل أنفسهم كانوا يقودون عمليات الحفر وينسقون مع الوفود الأجنبية المختلفة.
بالرغم من تقديم الباشا التسهيلات المطلوبة لكلا الفريقين، فإنه كان يحمل تقديرًا خاصًا للفرنسيين الذين أراد رد الجميل إليهم بكل السبل الممكنة، وانتهزوا هم بالمقابل الفرصة لجمع كل ما يستطيعون حمله من الآثار المصرية القديمة.
الأصدقاء في الإسكندرية
في 22 أبريل/نيسان 1830، وصلت إلى ميناء الإسكندرية بعثة فرنسية يقودها البارون تايلور، وهو دبلوماسي ومسرحي، يرافقه الرسام أدريان دوزات الذي اعتاد السفر معه في رحلاته المختلفة، وكانت الحياة في الشرق موضوعًا للعديد من لوحاته.
جاءت البعثة للتفاوض مع الباشا حول حصول فرنسا على مسلتين أثريتين، لكن الأهمية التي تمتع بها هذا الوفد دون غيره تعود في الحقيقة إلى ارتباطه بالروائي الفرنسي الشهير ألكسندر دوما.
كتاب "15 يومًا في سيناء" تناول رحلة دوزات ورفيقه تايلور إلى مصر في قالب قصصي صاغته يد ألكسندر دوما
كان تايلور المفوض الملكي لمسرح الكوميدي فرانسيز الذي قدم دوما إلى الجمهور لأول مرة من خلال مسرحية شجاعة الملك.. هنري الثالث وبلاطه. وبعد أن توثقت العلاقة بين الرجلين، عرّف تايلور، دوما، على الرسام أدريان دوزات رفيق رحلاته. وكانت ثمرة الصداقة بين دوما ودوزات كتاب "خمسة عشر يومًا في سيناء" الذي صدر عام 1839 جزءًا من سلسلة انطباعات السفر/Impressions de voyage، وتناول رحلة دوزات ورفيقه تايلور إلى مصر في قالب قصصي صاغته يد ألكسندر دوما.
لا يحظى هذا الكتاب بشهرة كبيرة، ولا يبدو أنه تُرجم إلى العربية على نطاق واسع، لكن قراءة سريعة باستخدام أدوات الترجمة الذكية للنسخة المتاحة عبر موقع المكتبة الوطنية الفرنسية تكشف لنا عن نص ممتع يحمل توثيقًا للحياة في مصر في القرن التاسع عشر، وإن كانت بعض تفاصيله قد تحمل طابعًا خياليًا، مع الأخذ في الاعتبار أيضًا أن الترجمة الآلية قد تترك اختلافًا طفيفًا في بعض المعاني.
الجدة الغامضة للعالم
تتقاطع علاقة دوما مع مصر في مساحات مختلفة؛ فوالده كان جنرالًا في جيش نابليون بونابرت الذي دخل القاهرة عام 1798.
كما أنه كان مولعًا بـ "الشرق وسحره"، لذلك يصف مصر في بداية كتابه بأنها جدة غامضة للعالم، أورثته لغز حضارتها التي لم يتبق منها سوى بعض الأطلال.
كما أن مدينة الإسكندرية القديمة، التي كانت منارة حضارية، اختفت تحت طبقات الإسكندرية الحالية ذات الشوارع الطينية التي ترش بالماء خمس أو ست مرات يوميًا بسبب الحر الشديد.
وفي إطار إبراز غرابة الشرق، يحتفظ دوما بروحه المرحة التي تظهر في جميع أعماله، حيث يصف تجربة دخول حمامات الإسكندرية العامة بشكل طريف.
كما يضفي أجواء من الفكاهة عند سرد تجربة ركوب الجمال، والسفر عبر الصحراء، وتسلق الأهرامات، وغيرها من التجارب المختلفة التي يخوضها الأوروبيون في بلاد الشرق.
الحاضر مسرحًا للماضي
تظهر مصر في الكتاب مسرحًا واسعًا يختلط فيه الواقع والخيال والتاريخ، حيث جعل دوما من محطات الرحلة التي تقوم بها البعثة مفتاحًا لسرد مجموعة من الأحداث والحكايات المثيرة مثل خروج بني إسرائيل والحملة الصليبية السابعة التي نزلت في دمياط عام 1249، ثم حملة نابليون بونابرت على مصر والشام عام 1798، انتهاءً بمذبحة القلعة التي رسخت حكم محمد على عام 1811.
ينتقل دوما بين هذه المحطات بسلاسة شديدة، ويربط بين حركة التاريخ ومظاهر العمران في مدينة القاهرة، وبالرغم من جنسيته الفرنسية فإنه يحتفظ بنبرة معتدلة عند تناول الحملات الحربية الفرنسية على الشرق، وإن مال إلى الرواية الوطنية عند سرد أحداث الحملة الصليبية السابعة التي يستند في معظم وقائعها إلى مؤرخها الأهم جان دي جوانفيل صاحب كتاب تاريخ القديس لويس.
هذا الاعتدال الذي يميل إلى الانحياز أحيانًا يظهر في حديث دوما عن الشرق بشكل عام، فبينما يكن له احترامًا كبيرًا في بعض المواضع، فإنه يكون حريصًا على إبراز التناقضات بينه وبين الغرب في مواضع أخرى. على سبيل المثال، يصف دوما المرأة في بلاد العرب بأنها "جارية تعيش حياة سجينة لا يقترب منها سوى سيدها، وتزداد معاناتها كلما ازدادت جمالًا، فإذا رفعت حجابها طار رأسها".
مشاهدات مميزة
بين الإسكندرية ودمنهور ورشيد، يوثق دوما على لسان أبطال الرحلة مشاهدات مختلفة ذات مدلولات ثقافية واجتماعية بدءًا من إلحاح الحمالين في ميناء الإسكندرية وتسابقهم للظفر بزبون جديد، مرورًا بدفع رشوة للحامية التركية على حاجز في الطريق إلى دمنهور حتى يتمكنوا من العبور بالرغم من خلو جوازات سفرهم من بعض الأختام، وانتهاءً برجل عارٍ تمامًا يجلس على درجات مسجد ويقدسه الناس!
أما مدينة القاهرة فتظهر مقسمة إلى أربعة أحياء كما كان حال المدن الأوروبية في العصور الوسطى؛ حي العرب، حي اليونانيين، حي اليهود، وحي المسيحيين، لكن الفرق وفقًا للراوي يكمن في أن كل حي مفصول ببوابات يحرسها جنود أثناء الليل.
بطبيعة الحال، كان أفراد البعثة متمركزين في الحي المسيحي المعروف بالحي الفرنجي، الذي من الخطر على سكانه مغادرته مرتدين اللباس الأوروبي.
وفقًا للكتاب، كان عدد سكان المدينة في ذلك الوقت 300 ألف نسمة يملؤون الشوارع والأسواق التي قسمت بحيث يكون كل سوق مخصص لنوع واحد من البضائع؛ سوق الملابس، سوق الطعام، وسوق النساء الذي تقف فيه الجواري عاريات، ومصنفات حسب اللون والجنسية والعمر.
طريق العظام
لعل من أكثر المشاهد قسوة في كتاب دوما سقوط الحجاج وجمالهم من شدة التعب والحر في الطريق إلى الأراضي المقدسة، ثم تحولهم بمرور الوقت إلى هياكل عظمية متناثرة في الصحراء تصنع مسارات من العظام يميزها المسافرون إلى شبه جزيرة سيناء. لكن عظام الحجاج لم تكن الوحيدة المختلطة بالرمال المصرية التي ضمت أيضًا رفات قطعان بشرية كانت في طريقها من السودان إلى القاهرة، وهذه قصة أخرى مؤلمة.
كل ثلاث أو أربع سنوات، كان الباشا يرسل حملات لجلب العبيد من دارفور وكردفان. تعمد تلك الحملات إلى خطف ما تيسر من رجال ونساء القبائل البدوية ثم فرزهم وتسييرهم ضمن قوافل إلى مصر. خلال الطريق يسقط المرضى والنساء من التعب وتلتهمهم الذئاب، أما البقية من السادة والعبيد فيواجهون الحر والعواصف المميتة حتى يصلوا إلى القاهرة منهكي القوى، فاقدين ثلث أو نصف عددهم في بعض الأحيان.
يحكي لنا دوما هذه القصص الحزينة، بينما يتجه أبطال رحلته إلى دير سانت كاترين المحصن، وبعد زيارة جبل موسى، واستعراض الدير وملحقاته وكنائسه الصغيرة، تعود البعثة إلى دمياط وتركب البحر حتى يافا ومنها إلى القدس ودمشق، لتنتهي بذلك رحلة مثيرة في الأراضي المصرية أسفرت عن مجموعة كبيرة من اللوحات وثق من خلالها الرسام دوزات الحياة في مدن مصر المختلفة.
دوما في مصر.. رحلة لم تتم
في سنواته الأخيرة، تضاءلت شعبية دوما في باريس وتزايدت مشكلاته المالية، حيث أدت التطورات السياسية في فرنسا حينها إلى توقف الصحف عن نشر قصصه المسلسلة، كما عانى مسرحه الخاص Théâtre Historique من خسائر فادحة أغلقت أبوابه في النهاية. وبالرغم من كل ذلك، فإنه احتفظ بروح المغامرة التي لازمته طوال حياته.
وفي عام 1860 قرر القيام بجولة في البحر المتوسط تشمل مصر وإسبرطة وأثينا وكورنث، وموقع طروادة القديمة وأبيدوس والقسطنطينية، لكنه تخلى عن الفكرة في اللحظات الأخيرة، ليبقى كتاب 15 يومًا في سيناء اللقاء الوحيد الافتراضي بين صاحب الكونت دي مونت كريستو وهذه الأرض الصاخبة التي شغلت العالم لعقود طويلة.