حلت قبل أيام، تحديدًا في الثالث من يونيو/حزيران الجاري، الذكرى المئوية لوفاة فرانتس (أو فرانز) كافكا، كما مرت مائة وواحد وأربعون سنة إلا شهرًا على ميلاده في 3 يوليو/تموز 1883. بهذه المناسبة، احتفلت الدوائر الثقافية في معظم بلاد العالم، خاصة ألمانيا والتشيك والنمسا، وضمن إطار هذه الفعاليات أقيمت "ليلة كافكا" التي تحدث فيها عدد كبير من الأدباء والفنانين والنقاد والمثقفين، من بلاد مختلفة، حول علاقتهم بالرجل.
اللقاء الأول في كلية الألسن
تعود علاقتي الشخصية بكافكا إلى أربعين عامًا مضت!
في قسم اللغة الألمانية بكلية الألسن، التقيت بفرانتس للمرة الأولى. كنت قرأت اسمه قبلها في مقال هنا أو هناك يتعرض لأعماله، ربما كان مقالًا لطه حسين أو كاتب آخر، لا أذكر على وجه التحديد. لكني لم أكن قرأت أيًا من أعماله بعد.
كان رئيس قسم اللغة الألمانية آنذاك، الدكتور مصطفى ماهر، أحد رواد ترجمة الأدب الألماني إلى العربية، وهو أحد الذين ترجموا روايتَيْ القضية (أو المحاكمة) والقصر، وقصتّي الحكم والتحول (أو المسخ)، وهي أشهر أعمال كافكا، بجانب بعض النصوص الأخرى المتناثرة.
لم يكن الدكتور مصطفى ماهر مجرد أستاذ جامعي، بل أحد الملهمين لطلبته، على الأقل المهتمون منهم بالثقافة والفنون.
أتذكر أحاديثه عن الموسيقى الكلاسيكية والفن التشكيلي أكثر من دروسه في الألمانية. في الحقيقة كانت الملحوظة التي يرددها بعض الطلبة والطالبات حوله أنه "يشرد" عن المنهج، ويظل يتحدث في أشياء لا علاقة لها بتاريخ الأدب الألماني، المادة التي كان يدرسها لنا. لكنني، شخصيًا، وقليل من زملاء الدفعة المهتمين بالثقافة، ومن بينهم المترجم اللامع سمير جريس، كنا نستمتع بمحاضراته ونحرص عليها أكثر من أي شيء آخر في الكلية.
بجانب بعض المقاطع القصيرة من نصوص بعض أشهر الأدباء والشعراء الألمان، كلَّفنا مصطفى ماهر بقراءة ودراسة رواية "القضية" كجزء من مقررنا الدراسي، ونظرًا لعدم توفر نسخ أصلية من الرواية، وزع علينا نسخًا رديئة التصوير. لم أزل للآن أحتفظ بنسختي، بالتعليقات والملحوظات التي كتبتها على هوامشها.
منذ السطور الأولى لقراءة "القضية" كفّت عن أن تكون "مقررًا دراسيًا"، لتصبح لغزًا يغويني بفك طلاسمه، ومصدر قلق ممتع ومتعة مقلقة، لطالما عدت إليها مرات خلال العقود التالية، سواء في لغتها الأصلية أو ترجماتها المختلفة.
في قبضة السحر
"لا بد أنَّ أحدًا قد وشى بجوزيف ك. فقد اعتُقل ذات صباح دون أن يكون قد ارتكب أي جرم"!
هكذا تبدأ "القضية"، بعبارة قوية مشوقة وموجزة تلخص فكرة الرواية كلها، وهي سمة تميّز أعمال كافكا بشكل استثنائي.
تبدأ قصة "التحول" أيضًا بعبارة أخرى شهيرة؛ "استيقظ جريجور سامسا ذات صباح ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة"!
العبارتان دخلتا تاريخ الأدب والثقافة الأدبية الشعبية، وأصبحتا، مع مواقف أخرى من أعمال كافكا، تعبران عن ملايين القراء الذين شعروا fأنهم مثل شخصيات هذا العالم، بالإضافة إلى أنهما ساهمتا في تحرير خيال مئات المبدعين في مختلف المجالات. ولعلهما، مع قصص كافكا الأخرى، أطلقا بذرة الخيال السريالي قبل سنوات من ظهور السريالية.
يقول جابريل جارثيا ماركيز إنه عندما قرأ العبارة التي تبدأ بها قصة "التحول"، لم يكن يعرف أنَّ بإمكان الناس أن تكتب هكذا، وبدأ منذ تلك اللحظة في كتابة القصص.
أعتقد أنَّ ما حدث لماركيز هو نفسه ما حدث لي عندما قرأت السطور الأولى من "القضية"، ولمعظم من يقرأون كافكا.
العابر في العصور
من الغريب أنه في ذلك الزمن البعيد الذي قرأت فيه كافكا للمرة الأولى، لم يكن اسمه معروفًا على نطاق واسع في مصر، ولم تكن أعماله القليلة المترجمة تحظى باهتمام يذكر، مقارنة، مثلًا، بأعمال الروس دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، أو الفرنسيين بلزاك وزولا وكامو وسارتر وبودلير، أو الأمريكيين همنجواي وفوكنر وشتاينبك، وغيرهم من أدباء الغرب والشرق الذين تُرجمت أعمالهم وكُتب عنهم في مصر بغزارة.
اليوم يفوق كافكا كلَّ هؤلاء شعبية بين القراء المصريين الشباب، وتعرض أعماله في المكتبات الورقية والإلكترونية وكذلك على الأرصفة، ويتلقفها القراء في كل مكان. بل حتى على السوشيال ميديا يتردد اسمه على نطاق واسع، ولطالما حملت "الهاشتاجات" اسمه في سياقات أدبية واجتماعية وسياسية ونفسية.
مسألة مفرحة، بقدر ما هي مدهشة بالنسبة لي. ولكن كافكا، بعد مرور قرن على وفاته، يبدو أنه أكثر "عصرية" من أي وقت مضى!
أيام وحكايات معه
وقعت في حب كافكا من الجملة الأولى لرواية "القضية". وكتبت مشروع تخرجي في السنة الرابعة عن "الإنسان في عالم كافكا"، وهو موضوع طالما دبجت فيه المقالات والدراسات النقدية. هناك "عالم" يحمل خصائص شديدة الخصوصية يمكن أن يطلق عليه "عالم كافكا"، وهناك إنسان يحمل صفات محددة تتكرر في أعماله، سجينًا، عابثًا، ومعذبًا، داخل هذا العالم. إنسان محمل بالشعور القاهر بالذنب، رغم براءته، وبسبب هذا الشعور بالذنب، فهو دائمًا مدان وملعون و"مسخوط" من قبل هذا العالم.
بعد سنوات من التخرج، عندما عملت صحفيًا في مجلة روز اليوسف، وامتدت علاقتي بكافكا وتجلَّت في نشاطات عدة، قمت بترجمة بعض قصصه القصيرة التي لم تكن تُرجمت بعد، وقتها، ومنها أقصوصة بديعة اعتبرها من أجمل ما قرأت على الإطلاق بعنوان "من الشرفة".
كذلك كتبت دراسة مقارنة بين قصته تحريات كلب وقصة يحيى الطاهر عبد الله حكاية على لسان كلب، وكلتاهما على لسان كلب، وعن يوميات كلب في عالم الكلاب، تحملان رموزًا وإحالات إلى عالم البشر. لا أعتقد أنَّ الطاهر عبد الله قرأ قصة كافكا، ولكنهما يتشابهان في أشياء كثيرة.
لم أكتب، ولكنني فكرت في عقد مقارنة أخرى بين روايتي اللجنة لصنع الله إبراهيم و"القضية" لكافكا، وكلاهما تحمل تشابهات ملفتة.
في الدورة الثانية من مهرجان المسرح التجريبي عام 1989، على ما أتذكر، التقيت بالأستاذ حسن الجريتلي، مؤسس فرقة "الورشة"، وأعضائها الرائعين. وكان منهم عبلة كامل، وأحمد كمال، وسيد رجب، وأحمد مختار، ومجدي كامل.
كانت الفرقة تعد مسرحية عن قصة في مستعمرة العقاب لكافكا. ولا أذكر التفاصيل، لكنني كتبت مقدمة لـ"بامفلت" المسرحية بعنوان "هل يمكن مسرحة كافكا؟". وكانت عن الإشكاليات التقنية التي قد تحول دون اقتباس أدب كافكا على المسرح.
بعد سنوات، واجهني السؤال نفسه حول تحويل أعمال كافكا إلى السينما، عندما شاهدت فيلم المحاكمة (1962) لـ أورسون ويلز، وفيلم كافكا (1991) لـ ستيفن سودربرج. شاهدت معظم الأفلام التي اقتبست عن أعماله، ولكن لا يوجد فيلمٌ منها يحمل ذلك التأثير وتلك الشحنة الفريدة التي توجد في نصوصه. ربما أفضلها فيلم سودربرج الذي يمزج بين سيرته وبعض أعماله في سرد واحد.
سينمائي أكثر من السينما؟!
ربما لم تستطع السينما أن تعبر عن عالم كافكا كما ينبغي، وربما نحن في انتظار أعمال أفضل، ولكن أعتقد أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.
تحمل أعمال كافكا بذرة السوريالية التي تستمد صورها من اللاوعي والأحلام، في حالة من الانفصال عن الواقع، كما تحمل بذرة الواقعية السحرية، التي ترى الواقع جيدًا، ولكن بعين "حالمة"، كأنَّ المبدع استيقظ من نومه للتو.
من المدهش أنَّ قصص كافكا شديدة "السينمائية"، هل نقول أكثر من السينما نفسها؟ ملحوظة يمكن أن نقولها أيضًا عن أعمال ماركيز وروايات الواقعية السحرية بشكل عام، التي فشلت السينما في تقديم عمل واحد منها يرقى إلى مستوى وتأثير هذه الروايات!
ربما تحتاج إجابة هذا السؤال إلى بحث خاص، ولكن بغض النظر عن ذلك، فقد تركت أعمال كافكا تأثيرًا على السينما العالمية، كما تركت روايات الواقعية السحرية تأثيرًا على السينما اللاتينية أكثر من أي أعمال أدبية أخرى، ولكن بشكل يختلف عن الاقتباس المباشر والمدرسي لهذه الأعمال.