أواجه ارتباكًا نفسيًا وأنا أكتب عن الفيلم التسجيلي أبو زعبل 89، إذ تتزاحم الأفكار وأركض خلفها لأعيدها إلى صف التنسيق. ذلك لأن الفيلم مسَّ آلامًا شخصية شديدة الخصوصية. خرجت منه بعد جولة عارمة من البكاء والضحك، أحملق في اللاشيء ولا أقوى على الحديث أو حتى الابتسام.
انغرس الفيلم في تلك المنطقة الحدودية الفاصلة بين القلب والحجاب الحاجز. هذا واحد من الأفلام التي تظل تؤرقك بعد انتهاء العرض. إنه فيلم يترك أثرًا.
يعتقد أحد أبطال الفيلم؛ الأستاذ محمود مرتضى، أنه ينتمي لجيل مهزوم، ربما لأنه يحمل في قلبه شعورًا بالذنب على جريمة "الألم الفائق" الذي أعاقه عن القيام بما يحلم به تجاه من يحب. لكنني لم أرَ هزيمةً على الإطلاق.
من زاوية شخصية، ينطلق مخرج الفيلم بسام مرتضى ليوثق حقبةً من تاريخ مصر الذي لخصه سيد حجاب بجملة "وآجي أحقق الحلم ألقى موج عالي عالي عالي طاح بي". ينطلق من اعتصام عمال الحديد والصلب ويستعرض ما تلاه، وتبعات ذلك على كل من شارك فيه، أو دَعَمه، أو ناصره، وعلى أسرهم، وأبنائهم، ومستقبلهم.
بدأ اعتصام عمال الحديد والصلب في أغسطس/آب عام 1989، احتجاجًا على قرارات وقف عضوين منتخبين في مجلس إدارة المصنع، توطئة لتمرير قرارات مجحفة تتعلق بظروف العمل، ووضع العمال. لكن قوات الأمن حينها اقتحمت المصنع، بعد مداهمة العمال مكتب رئيس مجلس الإدارة مطالبين بإبلاغ وزير الصناعة باحتجاجهم على وقف العضوين، ومطالباتهم برفع العلاوة وتحسين شروط العمل في المصنع.
في ذلك الوقت كان زكي بدر هو وزير الداخلية. وكونه واحدًا من أعنف من مرَّوا على هذا المنصب في مصر طوال تاريخها الحديث، فقد أقحم قواته الخاصة وكان قوامها خمسة آلاف فرد أمن مدججين بالسلاح، تحت غطاء مروحيات كانت تحلق فوق المصنع، وكأنهم بصدد مطاردة تنظيم إرهابي أو ميليشيا مسلحة لا اعتصامًا سلميًا. جاءت أوامر السيد الوزير بفتح الرصاص الحي، الأمر الذي أدى إلى وفاة العامل عبد الحي محمد السيد، وإصابة عدد من العمال.
قُبِض على عدد كبير من العمال المعتصمين، وقيادات عمالية، ومناصرين للاعتصام، من بينهم مجموعة وُجه لها الاتهام بتأسيس تنظيم شيوعي سري يدعم الاعتصام العمالي في مصنع الحديد والصلب.
وكعادة أحلام المصريين بتحسين شروط الحياة، التي تواجَه دومًا بالموج العالي العالي العالي الذي يطيح بها، اتخذت السلطة إجراءات عقابية تنوعت بين الفصل التعسفي، وخصخصة المصنع للتخلص منه، ووأد المطالب العمالية في مهدها.
هذه هي القصة الكئيبة باختصار. قد تكون هناك آراء وتعليقات من قبيل "وهم إيه اللي وداهم هناك؟"، أو "شوية عالم يسارجية سُكَريَّة صُيَّع"، أو "قرار الخصخصة كان أفضل قرارات مبارك". لا بأس، فهذا ليس موضوعنا بالأساس، لأننا الآن بصدد قصة طفل كان والده ضمن المتهمين بالانضمام إلى التنظيم الشيوعي السري إياه.
تعبت يا بابا من تطفلي
في محاولة للتخلص من عبء الطفل الذي يتعلق بمنكبيه ويشده إلى الخلف، وقف كاتب ومخرج الفيلم، السينمائي بسام مرتضى أمام صورته وهو طفل يراقب أمه فردوس البهنسي وهي تعد طبلية السجن لأبيه محمود مرتضى، زوجها في ذلك الحين، تمهيدًا للزيارة.
نبقى مع صوت الأم تتحدث عن حيرتها وهي تبحث عن تفسير لانتزاع أبٍ من طفله؛ "قلت لك أبوك كان بيساند عمال الحديد والصلب". لكن بسام يتذكر "بس فاكر إنك قلتي لي مش عايزاك تطلع زيه".
عينا الطفل تتابع قصته، ثم قصة والدته، ثم قصة والده. تشظّت الأسرة بعدما تعرض له الأب من تعذيب دامٍ، دافع عنه زكي بدر معلقًا في الصحف أن "التعذيب لن يوقف مسيرة مصر الديمقراطية". لكن ذاك السجن والتعذيب مزَّقا الأم بين عملها، وتربية طفلها، ومساندة زوجها، بل ومساندة زملائه في السجن، مؤكدة أن "إللي بره السجن بيتعب أكتر من اللي جواه".
انتهى الأمر عقب خروج الأب من السجن بتفتت الأسرة وتحطمها. في طفولة مبكرة، حلّ الابن محل أبيه. طوال طفولته لم يَبُح بما يختلج مشاعره، ظن الوالدان أن ابنهما يغط في نوم عميق أثناء اعتقال والده، لكنه يفصح، بعد عقود، بأنه كان يتظاهر بالنوم كي لا يضيف عبئًا إضافيًا على والديه.
الصدق جميل لكنه وحده لا يخلق فنًا وهذا فيلم يتمتع بكل خصائص الفن الجميل
بين قياس أيهما تعب أكثر؛ هل مَن تعرض جسده للتعذيب في السجن حتى لم يبقَ فيه مكان سليم، كما قال الممثل والحكّاء سيد رجب خلال المشاهد التي ظهر فيها في الفيلم في مونولوج فني شديد الروعة، "كل مرة أقول أكيد مش هتوجع تاني، عشان أنا أكيد مت"، أم الزوجات اللاتي كن يتعرضن لأشكال أخرى من التعذيب النفسي، والإرهاق البدني، مثقلات بواجبات تنوء بها الجبال؟
هذا القياس أدى إلى توقعات لدى كل طرف، فبعد أن حزم أمره في زنزانة التأديب، خرج محمود مرتضى توَّاقًا لأن ينهل من رحيق الدنيا دون حسابات، مُتوقعًا أن يتفهَّم من حوله أنه يلعق جراحه. أما فردوس، فبعدما حملته في سجنه كجنين في حمل مرهق، توقعت أن تزداد علاقتهما التحامًا واقترابًا، وأن يعوضها عن شهور الألم. أما الطفل بسام، فلم تكن له أمنيات، بل يشعر طوال الوقت بالحرج، وبرغبة في أن يختفي، علَّ ذلك يخفف من ثقل الحياة على والديه المتعبين. ثم يعود ليستشعر الواجب، فيرغب بشدة في الوجود، وإثبات الحضور للمؤازرة وتحمل المسؤولية، ثم يعود ليحتار.
عندما يروي الأب، يحاول الابن أن يعايش ما رواه أبوه، فيذهب إلى زنزانة انفرادية ويتمدد على أرضها، ثم يلقي بنفسه في حوض متخم بالمياه القذرة كالذي ألقوا فيه أباه. هذه المحاولات لتجسيد الألم، أو "التطفل على حكايتك" كما يقول بسام، ما هي إلا محاولات لمداواة جراح الطفل الذي لم يبح بألمه قط، ودأب على الكتمان، وملاحقة التسامح والتشبث به.
لكنه جميل
تبدو قصة الفيلم قاتمةً يكاد يفر منها المرء، خاصة مع مرارة الواقع الحالي الذي يدفعنا للهروب من استحضار ماضٍ يزيد آلامنا. ولكن رغم استشعارك الألم مع بسام حين تمدد على أرض الزنزانة الانفرادية، ورغم شعورك بالسقوط معه في الحوض المليء بالمياه القذرة في مشاهد إعادة تمثيل ما حدث لأبيه، ورغم تعلقك معه بقضبان شرفة منزله موشكًا على السقوط في الشارع، في مشهد إعادة تمثيل كابوسه المتكرر، فإن الفيلم أبعد ما يكون عن القتامة.
إنه فيلم منضبط. كيف دخل بك المخرج إلى سراديب الألم وهو يمسك يدك برفق ويربّت عليها؟ كيف خرج بك بسرعة قبل أن تصيح "خرجني من هنا"؟ كيف ابتسمت تعجبًا، وضحكت على المأساة، وخفق قلبك عشقًا كلما وَقَعت عيناك على لوحة تلقي بظلالها على قصة حب استمدت خلودها من عدم اكتمالها؟ كيف بكيتَ الطفل والأم والأب والأحلام، ثم عدتَ لتضحك مرة أخرى والدموع تغرق وجهك؟
الصدق جميل، لكن وحده لا يخلق فنًا. وهذا فيلم يتمتع بكل خصائص الفن الجميل، إيقاع منضبط، نقلات ناعمة، جمل حوارية تصاحبك في الأيام التالية على مشاهدته.
أظن أن الفن يعني أن يخرج منك أجمل ما فيك. وعندما شاهدته لم أرَ هزيمةً على الإطلاق.
رأيت نصرًا مظفرًا اسمه بسام مرتضى.