هذا هو الجزء الثالث من مجموعة مقالات تحلل وجود أو غياب ثورة يناير عن السينما. الأول؛ عن فيلم جمعة الغضب، والثاني عن أفلامها الروائية.
خلال أحداث محمد محمود الأولي، نوفمبر/ تشرين الأول 2011، حين كانت السياسة والثورة هما الموضوعان الوحيدان للحوار، تبادلت مع سائق تاكسي كلامًا فيه الكثير من المراوغة، فكلانا يحاول معرفة موقف الآخر السياسي تجاه المواجهات الجديدة، وكان السائق يتجنب الإدلاء برأيه صراحة، ومع احتداد الحوار رد السائق بهدوء على سؤالي إن كان قد شارك في الثورة، بكلمة واحدة "طبعًا"، فكان سؤالي التالي إن كان قد نزل للتظاهر في التحرير، فأجاب بأنه لم يدخل الميدان أبدًا وقت الثورة، وبأن دوره اقتصر على ما يجيده "أنا سواق تاكسي بعرف في العربيات، عملت اللي بعرف أعمله، في دقيقتين عربية الشرطة من دول كانت بتبقى مولعة".
هل لاحظ القارئ هذه الطريقة المختزلة في الكتابة، وأيضًا في الحوار مع السائق؟ لقد ربطت تعبير الثورة بمكان محدد، الميدان، بالرغم من اشتعالها في أغلب أنحاء مصر، وربطته أيضًا بزمان محدد، الثمانية عشر يومًا الأولى من مسار ثوري امتد لشهور طويلة. لنترك ملاحظة النقد الذاتي تلك مؤقتًا، فسنعود إليها لاحقًا.
بعد أيام قليلة من إسقاط مبارك، عُرض على شاشة الـABC تقريرًا تلفزيونيًا طويلًا بعنوان سلمى في الميدان، وكان من أوائل المنتجات البصرية/السمعية التي تعرض عن الثورة المصرية متجاوزة حدود التقارير الإخبارية.
يتابع التقرير/الفيلم يوميات المخرجة سلمى الطرزي في ميدان التحرير، باعتبارها الشخصية الأساسية، ويبدو أن اختيارها قد جاء عشوائيًا بحكم معرفة فريق الإعداد بها، وكان من الممكن أن يختاروا أي شخصية أخري شبيهة بسلمى، ممن شاركوا في الثورة بقرار إرادي وواع مؤسس على موقف سياسي واجتماعي، وليس بناءً على انفعال لحظي.
لكن ذلك الاختيار الذي يبدو عشوائيًا لشخصية البطلة، هو في الوقت نفسه اختيار واع أيضًا، فمن خلال ملامحها ولغتها وثقافتها يتم تقديمها للمتفرج غير المصري باعتبارها البطلة التي يستطيع أن يتوحد معها بسهولة: امرأة، مثقفة، نسوية، من الطبقة الوسطي، منفتحة، وتتحدث الإنجليزية بطلاقة. بينما سائق التاكسي المشار إليه في مقدمة المقال لا يصلح للعب ذلك الدور إن أردت مخاطبة الجمهور الأوروبي المنبهر بصورة "السلمية" التي تم تسويق الثورة المصرية من خلالها، ولن يصلح كذلك كبطل يقدم لمتفرج الطبقة الوسطي المصري، بالرغم من أن هذا المتفرج يعلم أنها لم تكن "سلمية" تماما، لكنه يريد أن يراها كثورته هو، ثورة الطبقة الوسطي، ويستطيع أن يجد في سلمى النموذج الذي يستطيع فهمه، ويعبر عنه.
المفارقة الغريبة في هذا التقرير، وبالرغم من أن بطلته تملك كل السمات التي تؤهلها لدور البطولة، وبالرغم من أن التقرير يحمل اسمها، لكن فريق العمل لم يكتف بها أو بأصدقائها أو أخيها أو ببقية ناس الميدان الذين احتلوه بداية من مساء 28 يناير/كانون الثاني، فينقلنا فجأة إلى الصالون الأنيق للمرشح الرئاسي السابق أيمن نور، كي يفسر لهذا الجمهور الأجنبي الثورة ومستقبلها، وكأن كلام المشاركة في الشارع، البالغة من العمر وقتها ثلاثة وثلاثون عامًا، وما يراقبه فريق الفيلم بنفسه في الميدان، غير كافيين لفهم الثورة، فلجئوا إلى النخب الشهيرة، إلى نخبة النخبة، كي يقدموا هم تفسيراتهم ومروياتهم، التي ستصبح معتمدة فيما بعد كسردية وحيدة للثورة، حتى وإن كانت متناقضة فيما بينها، فستختار أنت السردية المناسبة لك بناءً على موقفك السياسي والأيديولوجي من معسكرات الثورة المختلفة.
"الجمهور عايز كده"
في المقال السابق، وفي سياق الحديث عن السينما الروائية وتناولها ليناير، استخدمت تعبير "نخبنة الثورة" كمنهج رؤية طغى على أغلب هذه الأفلام، وهو المنهج الذي سنجده أيضًا في السينما التسجيلية، حيث تم بناء الصورة الذهنية لثورة يناير لدى من لم يشاركوا فيها من مصريين وغير مصريين، وإعادة بناء وتعديل صورتها الذهنية لدي من شاركوا فيها، بحيث تبتعد تدريجيا عن صورها الحقيقية الكثيرة والمتعددة، ويتم حصرها في صورة "ثورة الطبقة الوسطي"، وكأنها كانت تستهدف بعض الحرية وفقط، دون تعريف هذه الحرية المطلوبة.
لا علاقة لهذه المسألة بنظريات المؤامرة والأجندات المزعومة، وكأن السينمائيين تلقوا تعليمات بترسيخ صورة معينة للثورة لدي الجمهور غير المشارك وغير الواع بتفاصيلها، أو لإعادة بناء الصورة الذهنية لدي من شارك فيها وتعديلها. بل أن عملية "نخبنة الثورة" حدثت كتعبير طبيعي عن موقف اجتماعي وثقافي يخص هذه الطبقة الوسطي التي تصنع السينما، وتتلقاها، في بحثها عما يرضيها، وعما تستطيع فهمه، وهي أيضا مسألة متعلقة أحيانًا بالاختيارات البرجماتية لصناع الأفلام في محاولة خلق تعاطف الجمهور، المصري أو الأوروبي أو الأمريكي، مع الثورة، عبر تقديم نماذج درامية يستطيع أن يفهمها ويتوحد معها بسهولة.
ربما يصلح سائق التاكسي أو سامبو الذي اختطف بندقية الشرطي ليدافع بها عن المتظاهرين، كشخصيات درامية في فيلم روائي، لكن بتقديمهما كنماذج للبطل في فيلم تسجيلي عن ثورة صنعت عنها جداريات السلمية والشبابية، فإن ذلك من شأنه أن يثير القلق؛ هو قلق شبيه بذلك الذي صارحتني به مدرسة للغة والثقافة العربية في واحدة من الجامعات الإسبانية، حين شاهدت فيلم مارك ألمودوفار عن جمعة الغضب لترى إن كان ملائمًا للعرض على طلابها، ثم أخبرتني بأنه غير ملائم، فلن يفهم طلابها من هم هؤلاء الذين يصرخون أمام الكاميرات بجمل قصيرة وعابرة في عز الصخب والمذبحة، وأن الفيلم مصنوع للمتفرج المصري الذي يعرف جمعة الغضب وشارك فيها.
إلي من يتوجه الفيلم؟ يبدو السؤال مدرسيًا، لكنه ليس كذلك، فوعي المبدع بجمهوره المحدد الذي يتوجه إليه بمنتجه الفني، أيا كان نوع هذا المنتج الفني، هو واحد من الأسس التي يقف عليها المبدع كي يتخذ سلسلة شديدة الاتساع من القرارات خلال تنفيذه لعمله.
ربما يمكننا توضيح هذه الفكرة أكثر إن خرجنا من سياق الفيلم التسجيلي في جملة اعتراضية طويلة، ولجئنا لنموذجين روائيين شهيرين، والاثنان يحملان توقيع المخرج نفسه، ويفصل بينهما سنة واحدة فقط من حيث تاريخ الإنتاج، وهما فيلمي الأرض (1969) والاختيار (1970) لـيوسف شاهين.
يتوجه الأرض لعامة المصريين المجروحين بعد هزيمة 1967، فيقدم لهم قصة خطية دون نقلات زمنية مفاجئة، وبتكنيك سينمائي غير معقد أو مركب؛ هو فيلم يقف على أرضية تصور سياسي واضح وهو دعوة المصريين للمقاومة والتمسك بأرضهم وتجاوز الهزيمة، بالرغم من نهايته غير المتفائلة.
لكن جمهور الاختيار لم يكن عموم المصريين، بل كان مثقفي الخمسينات والستينات الذين عانوا من الانفصام في واقع مشوه، وهم مادة الفيلم الدرامية وأبطاله، ويشاركهم المخرج التساؤلات حول موقعهم، وعلاقتهم بمجتمعهم، وعلاقتهم بالسلطة، ومسألة الحرية، ولأن يوسف شاهين كان واعيًا بأن موضوع فيلمه ليس للاستهلاك العام، يترك لنفسه الحرية على مستوي التكنيك والشكل والحوار السينمائي أيضًا، مع نقلات مونتاجية بين عدة خطوط تتوازي وتتقاطع، ليصنع شكلًا سينمائيًا مركبًا ومناسب للجمهور الذي اختاره.
وإن كانت تخيلات وفانتازيا السينمائي حول الواقع قد لعبت دورًا هامًا في تحديد شكل ومضمون الأفلام الروائية التي تناولت الثورة، فإن نوعية الجمهور كانت العامل الحاسم في تحديد شكل ومضمون الأفلام التسجيلية، ولكننا لن نستطيع تناول كل هذه النوعية من الأفلام التي اقتربت من الثورة، وسنكتفي بنموذجين أساسيين لشكل الاقتراب من حدث تاريخي، وعملية صراع اجتماعي وسياسي ثوري استمرتا لعامين ونصف، مع تجاهل طوفان الريبورتاجات والتقارير التسجيلية التي أنتجتها القنوات التلفزيونية، وبالذات الجزيرة، كون أغلبها ليس أفلامًا سينمائية، بل تقع في محيط التقارير الصحفية ذات الصبغة الأيديولوجية الدعائية.
الفيلمان اللذان سنتناولهما مختلفان من حيث إمكانيات الإنتاج المتاحة، وتصورات صناعهما عن نوعية الجمهور الذي سيتلقى هذه الأفلام، بالرغم من بداية تصويرهما في الوقت نفسه تقريبًا، على الأقل بعض مادتهما. الأول تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي (2011)، الذي سيتم إنجازه سريعًا ليخرج بعد شهور قليلة من سقوط مبارك، ويضم ثلاثة أفلام قصيرة ومنفصلة؛ يخرج الطيب، المقصود به المواطن المشارك في الثورة، المخرج تامر عزت، وتخرج آيتن أمين الشرس، المقصود به ضابط الشرطة، أما السياسي فيخرجه عمرو سلامة.
والفيلم الثاني هو الميدان (2013)، للمخرجة المصرية/الأمريكية جيهان نجيم، الذي يبدو كمشروع أمريكي بامتياز، من حيث وصفة الإنتاج، والإمكانيات المتاحة التي سمحت بالتصوير خلال عامين ونصف، وصولًا لاعتصام رابعة، وكذلك من حيث الرؤية، والنوع الدرامي، والجمهور الذي يخاطبه.
إعادة ترتيب
يتوجه فيلم الطيب والشرس والسياسي إلى الطبقة الوسطي المصرية، يقدم لها التشكيلة الاجتماعية التي تناسبها، ففي فيلم تامر عزت الطيب، نبدأ بالصوت الشبابي الإخواني، الطالب الجامعي الشجاع المشارك في الثورة، لكن المواطن الطيب ليس فقط الإخواني، هو أيضا نازلي حسين بملامحها وطريقة ملبسها التي تنتمي لطبقة أعلى اجتماعيًا، وأكثر انفتاحًا ثقافيًا، وسنجد أحد الشخصيات التي ستتكرر في الفيلم الآخر، المغني الشاب رامي عصام، وسنجد مصور يترك منحته الدراسية في الدنمارك كي يشارك في الثورة، ومثقف أخر يشتري الألواح البيضاء كي يمنح ناس الميدان فرصة أن يكتبوا ما يريدون، سواء في الميدان أو فيما بعد في ساقية عبد المنعم الصاوي، وهي نماذج لن تبتعد عن مخيلة الطبقة الوسطي عن صناع الثورة، وبالذات في أيامها الأولى، وتكتمل في هذا الفيلم
وفي فيلم الميدان بموقع أو مكان نخبوي، وهو الشرفة العالية لشقة الراحل بيير سيوفي، محطة الصحفيين والإعلاميين والنخب الثقافية المتمردة، المطلة على الميدان، التي ستظهر فيما بعد في فيلم الميدان، مكتسبة مساحة أكبر، حيث يرد ذكر بيير سيوفي والتصوير في شقته مرات متعددة، دون أن تهتم المخرجة بأن تقول لمتفرجها من هو بيير سيوفي، أو ما هوية هذه الشقة، أو من هؤلاء الذين يتجمعون فيها ويتحدث أغلبهم بالإنجليزية.
وبينما ينحصر فيلم الطيب في صناعة سردية بطولية للمواطنين في مكان محدد وهو الميدان، وفي زمان محدد، الثمانية عشر يومًا الأولى من الثورة، تضعنا آيتن أمين في الفيلم اللاحق الشرس، في مواجهة سؤالين إشكاليين لا يتم حلهما فيلميًا أو دراميا: "لماذا يتحول الضباط الآن تحديدا إلى أبطال فيلم عن الثورة؟ ومدى مصداقية مروياتهم أو صحتها أو دقتها"؟ خاصة وأننا لا نرى وجوه أغلبهم، أم أنها محاولة لخلق توازن بين وجهات النظر المتعارضة داخل الفيلم؟ لكن الأفلام مثلها مثل بقية الأنواع الفنية، مختلفة عن التقارير الصحفية والتلفزيونية، لا تبحث عن التوازن، ولا تحاول تقديم عينات مجتمعية مثلما تفعل الإحصائيات، بل أنها تطرح وجهات نظر ورؤى صناعها.، وإن كان المقصود هو صناعة فيلم من نوعية الفيلم كورال: الفيلم متعدد الأصوات، فهو مختلف تماما عن هذا الشكل، فالفيلم متعدد الأصوات تتلاقى أصواته المتعددة في لحظة الذروة، أو تتلاقي في صوت وتصور ورؤية محددة، هي رؤية صانعه.
المربك أيضا في الشرس هو أن المخرجة لا تتوقف بما يكفي أمام عدد من الجمل الدعائية التي يطلقها الضباط، مثل "ظابط الشرطة فيكي يا مصر هو أضعف موظف في الدولة". أو سرد مسألة حرق الأقسام باعتبارها مؤامرة، دون أن تفند ذلك التصور، أو عبارة أخرى مثل "مش بجرحك يا آيتن، الغاز كنت بشمه زيي زيك، والمية مش هاتموتك"، في تزييف لوقائع مذبحة استمرت خلال الأيام الأولى للثورة وكان ضحيتها ما يقارب الألف شهيد، ولم تتوقف عند استخدام المياه وقنابل الغاز، فتشعر هنا بأنك قد وقعت في فخ "الموضوعية" لتخرج منه بسردية معاناة الضباط، وتنسي شراستهم الحقيقية.
لكن الفيلم الثالث الذي يخرجه عمرو سلامة هو النموذج الأوضح لهذه الثورة التي لا تقرأ ولا تفسر ولا تفهم إلا عبر النخب التلفزيونية والسياسية والثقافية، على طراز الاستعانة بأيمن نور في فيلم كان بطلاه سلمى الطرزي والميدان؛ في أقل من ثمانية وعشرون دقيقة يروي لنا عمرو سلامة قصة نظام فاسد، وثورة اندلعت ضده، بتلخيص هذا النظام في شخصية رجل واحد، ألا وهو مبارك، وكأنها كانت ضده وفقط، عبر جمل قصيرة لهؤلاء المشاهير الذين يلقون شهاداتهم السريعة الساخرة من مبارك، بالرغم من عمل بعضهم لخدمته قبل إسقاطه، ويتم خلطهم بوجوه انتسبت للثورة، ولتتأمل هذه الأسماء: مصطفي الفقي، المستشار السابق لمبارك، محمد البرادعي، بلال فضل، علاء الأسواني، حسام بدراوي، قطب الحزب الوطني وأخر أمين عام له قبل سقوط مبارك، أحمد عكاشة الخبير النفسي التلفزيوني، الإعلامي والإذاعي وجدي الحكيم، سامي عبد العزيز عضو لجنة السياسات، يسري فودة، الوزير السابق أحمد درويش، مصور الرئاسة، وغيرهم، في غياب كامل للمواطن الذي يسير في الشارع أسفل هذه الأماكن الفاخرة التي تم التصوير فيها، وفي إخلاص أيضًا لتصور مغلوط مفاده أن السياسة للسياسيين والمثقفين، وليست للعامة أو للمواطنين، بالرغم من إثبات الثورة عبر ملايين التفاصيل التي لمسناها جميعًا، أن السياسة قد أصبحت للجميع، ولو مؤقتًا.
يبدو من عنوان الفيلم الطيب والشرس والسياسي ترتيب الرواية؛ المواطن الثوري "الطيب" يبدئها بكلماته العفوية، ويتلوه "الشرس" الذي يقمعه لصالح "السياسي" بتقديم رواية أخرى، ويختتم السرد ذلك "السياسي"، صاحب الكلمة الأخيرة. ماذا لو كان الترتيب قد تغير، بحيث يكون المواطن الطيب هو صاحب الكلمة الأخيرة؟ للأسف لن نعلم الإجابة إلا بإعادة مونتاج الفيلم، وربما لن نعلم أبدا لماذا سمي المواطن بتوصيف "الطيب"، ولم يسمي مثلا بـ"المواطن" أو بـ"الثوري".
الإخواني والفنان والحرفوش
يُخلص فيلم الميدان للموديل الأمريكي للسينما التسجيلية، في شكلها الأكثر تقليدية وقبولا، هذا الإخلاص ليس اتهامًا أو إدانة، هو بالفعل النموذج الأكثر انتشارًا بين الجمهور، هناك ازدحام مشكل من شخصيات كثيرة تتواجد كخلفية، أو كشخصيات ثانوية تلعب أدوار السنيدة للأبطال الذين يتم اختيارهم من بينهم، وهم في أغلبهم نماذج نخبوية تختلف قليلًا عن الواردة في الطيب والشرس والسياسي، فأغلب من يظهرون فيه هم من الفنانين والشباب النشطين، وينتمون للشرائح العليا للطبقة المتوسطة.
الأبطال الثلاثة الأساسيين من الذكور، في فيلم من إنتاج أمريكي مفترض فيه الانتباه "الجندري"، ولمخرجة امرأة، وعن ثورة كانت النساء تشكل على الأقل نصف قوتها، لكنهن يتحولن في فيلم الميدان إلى ما يشبه الكومبارس، وبناء على الموديل الأمريكي فعلى الأبطال المختارون أن يعبروا عن شرائح وفئات اجتماعية مختلفة، أو على نماذج ثقافية مختلفة، وبناء على المخيلة الأمريكية للثورة يتوزعون على فئات ثلاثة: الحرفوش، المواطن الفقير الذي يتحول اجتماعيًا مع الوقت، والمثقف أوالفنان الذي يبدو ليبراليًا، ويتصور عن دوره حجمًا أكبر من حجمه الحقيقي، ويخوض معركة سيزيفية، نسبة لبطل الأسطورة الإغريقية الذي يحمل الصخرة فوق ظهره إلى أعلي الجبل، تتدحرج إلى الوادي، فينزل ليحملها من جديد، والإخواني الضحية، الوحيد الذي يكمل الثورة منفردًا، بعد أن فارقه رفاق الميدان، وهو ضحية قياداته التي ربما تكون قد أخطأت، وضحية هؤلاء الرفاق الذين تركوه وحيدًا.
بالإضافة إلى "مجدي" الإخواني الجدع، سنجد خالد عبدالله، الممثل القادم من إنجلترا، الذي لا نعرف لماذا يتصور هو وزملائه وأصدقاءه أن لهم دورًا أساسيًا في إدارة الصراعات الثورية، رغم عزلتهم الواضحة عن قنوات اتخاذ القرار السياسي، ويتواصل مع أبيه عبر شاشة الكمبيوتر وكأنه من القيادات، وهناك "أحمد" المتحول اجتماعيا، الشاب ابن الفقراء الذي يشارك في الثورة بإخلاص، فيتحول عبر مسارها ليصبح "هيبي" يطيل شعره، يغير طريقة كلامه، يحمل في يده كاميرا غالية، وينفعل ويصرخ في الجميع باعتباره معبرًا عن الحقيقة، ويظهر في أماكن مريحة وأنيقة لا نعرف كيف وصل إليها، في حين أننا لا نعرف له وظيفة واضحة.
والشخصيات التي يتم اختيارها من ضمن الزحام كي تلعب دور البطولة يتم متابعتها عبر الزمن، لمحاولة تصوير تغيرات درامية في تركيبتها أو شكلها، وكونها تنتمي لشرائح وفئات مختلفة يضمن وجود الخلافات بينها، ليتم اللعب على شرط التطوير الدرامي الكلاسيكي وهو "الصراع". بالإضافة لبعض اللمسات العاطفية الإنسانية التي تهم القطاعات الواسعة من المتفرجين، يتم إدخال مشاهد للصراخ والعراك من حين لآخر، كشرط درامي أخر يخص ذلك الموديل التسجيلي الأمريكي، ومفاده إن لم يكن لديك صراعات درامية حقيقية تحدث أمام الكاميرا، أو أنها موجودة وأنت عاجز عن ترجمتها سينمائيًا، عليك إذا افتعالها، خلقها وتضخيمها، كي يتم إيهام المتفرج طيلة الوقت بأنه أمام صراعات ودراما كبري، فيلهث وراء أبطال الفيلم، وينفعل معهم، دون أن يتأمل ما يشاهده ليصل لتصورات وأفكار جديدة..
في 2012 قدم بسام مرتضي فيلمُا بعنوان الثورة خبر لصالح صحيفة المصري اليوم، يرصد من خلاله حكاية ثلاث من الصحفيات وثلاثة من الصحفيين العاملين في الموقع، تواجدوا في أماكن مختلفة خلال الثمانية عشر يومًا الأولي من الثورة، التي نري يومياتها عبر المادة التي قاموا هم أنفسهم بتصويرها في تلك الأماكن.
طغى على الفيلم الطابع الصحفي أكثر من الطابع السينمائي، غالبًا بحكم أنه مصنوع لموقع صحفي يحتاج إلى شكل وبناء درامي محدد مناسب لجمهوره، ورغم هذه السطوة للغة الصحفية لكنك تتعرف على بعض أبطال الصفوف الأولى القريبين من عدسات كاميرات الشخصيات الست، وتتعرف أيضا عليهم هم أنفسهم كأبطال، صحفيين وصحفيات يخاطرون لتوثيق لحظات كبرى كي يراها العالم دون أن يتم تزييفها، يواجهون جميعهم صراعًا درامي داخلي بين دورهم المهني وبين كونهم مصريون لهم موقفهم السياسي ويرغبون في المشاركة، أو يواجهون صراع أخر متعلق بالقدرة على الاحتمال وتصوير مذابح وأجساد الشهداء عن قرب عبر أيام متتالية، ويعبرون عن صراعاتهم تلك بكلمات بسيطة.
لا يحتاج بسام مرتضي في فيلمه للمبالغة الدرامية التي تلجأ إليها كثير من الأفلام التسجيلية الأمريكية، فالدراما حاضرة فعلًا، ولا تحتاج إلى أي مبالغات، لكن جيهان نجيم تجعل أحمد/الحرفوش راو لفيلمها الميدان، يقول كلًاما يبدو في أحيان كثيرة وكأنه مكتوب من قبل آخرين كي يتلوه كتعليق أو كرواية للأحداث، وبأداء تمثيلي، رغم أن ما نسمعه بصوته كراو لا يشبه لغته الحقيقية وطريقته في النقاش التي نراها في المشاهد التلقائية غير المعدة سلفًا، وتجعله يتحول إلى ممثل، يصرخ، ويبكي، وينام، ويحلم، ويهلوس خلال الحلم، وينهض ليخوض المواجهات الدموية بعد تلك الغفوة مباشرة.
في أحد المشاهد، وخلال حشد إسلامي هائل في ميدان التحرير، يقرر أحمد أن يواجه عشرات الآلاف وحيدًا، يذهب إلى مدخل الميدان ليواجههم بعار تحالفهم مع المجلس العسكري، ويذكرهم بعدم مشاركتهم في اليوم الأول للثورة قبلها بسنة، ليصرخ في الجميع، وكأنه "رامبو" الذي يواجه الأشرار "خدوا الميدان، واعملوا اللي أنتوا عايزينه، والثورة جاية جاية، غصب عن أي حد".
بعد انتهاءك من مشاهدة الفيلم، ورغم تأثرك في بعض المشاهد بسبب رؤيتك لبعض أصدقاءك وبعض شركاء الميدان، واستعادتك لمعارك ربما تكون ممن شاركوا فيها، لكنه من المحتمل أن تكتشف في لحظة النهاية وكأن بلاستيك شفاف يغلف هذه الشخصيات الفيلمية، أو زجاج رقيق تم وضعه ليفصلك عنها، فلا تتمكن من لمسها وحبها حقيقة، رغم أن كل منها يملك سمات تبرر هذا الحب أو التعاطف أو التوحد، خالد بصدقه ورغبته في لعب دور مؤثر وبإخلاص، والإخواني المحب لشركاء الميدان الأصلي، والرافض لمواجهتهم أثناء حكم مرسي، الذي يؤنب ابنه أمام الكاميرا على المشاركة في الاعتداء على المتظاهرين أمام الاتحادية، وأحمد ابن الناس الغلابة بوجهه الشعبي المحبب وتلقائيته، وربما كان الزجاج الذي يفصلنا عنهم هو نفسه عملية تحول أحمد اجتماعيًا، دون أن نعي كمتفرجين كيف تحول، فنشعر وكأنه تلوث بالآخرين، عبر سلسلة من المبالغات الدرامية المتتالية.
الكلمة الحمراء
في اللحظة نفسها التي انطلقت ماكينات صناعة الأفلام التسجيلية لرصد جوانب من الثورة المصرية، كانت هناك في تونس فرق تصوير تقوم بالشيء نفسه لحكي ثورتهم، ومع بعض الفروقات تتعدي مقارنات الجودة السينمائية والفنية النسبية بطبيعتها بين الحالتين، يلفت النظر فيلم الكلمة الحمراء للمخرج إلياس بكار، الذي يبدأ تصويره بعد سقوط بن على بأيام قليلة، مستعيدًا بعض المادة الأرشيفية للأيام الأولي للثورة كمقدمة أو كمدخل، لكنه يتجاوز سريعًا سرديات الأيام الأولى، بوعي أن تظاهرات واشتباكات الشهر الذي انتهي بإسقاط بن علي ليست هي الثورة، بل بداية عملية ثورية ستمتد لفترة زمنية طويلة، فيحكي بعضًا من قصص الثورة التونسية خلال الأسابيع والشهور القليلة التي جاءت بعد ذلك السقوط.
تتطور القصة دراميا كي تتجه إلى مسار واضح يحدد موقع السينمائي من الحدث، فنبدأ بتونس العاصمة، بصخب وعراك المثقفين والصحفيين والفنانين فيما يخص شؤون مهنهم وتطويرها في مناخ الحرية الجديد، لكن كاميرا إلياس بكار تهجر العاصمة، وتهجر المثقفين والفنانين، لتحملنا إلى خارجها بحثا عن حكايات الهامش، وإن عادت إليها فتعود لالتقاط قصص الأبطال غير المرئيين في الاعتصامات والاحتجاجات المختلفة، فيتشكل البطل الأساسي والوحيد من موزايك شخصيات الشوارع والحواري والمقاهي ومواقع العمل؛ عمال المناجم، والصيادين في الجزر الصغيرة، والفلاحين في القرى البعيدة، والجالسون على المقاهي من كهول، أو شباب بدون عمل، وجميعهم ممن لا يظهرون على الفضائيات، وبعين غير تفاؤلية يسجل إلياس بكار وجوههم وكلماتهم وأفعالهم، بتمهل و"بتون" أقرب إلى الحزن، وليس الاحتفالية، وكأنه يشعر مبكرًا بمحدودية مستقبل تلك الثورة.
هو نموذج سينمائي افتقدناه نحن كسينمائيين مصريين، فإن كان على المستوي الفني سنجد في حالتنا غلبة النوع التلفزيوني على السينمائي، ربما لسطوة الفضائيات، ولوعي السينمائيين التسجيليين المصريين بأن قناة الجزيرة وبعض القنوات الأخرى القليلة، هي مطمحنا الوحيد كي نعرض أفلامنا التسجيلية، بينما في تونس هناك نواد وجمعيات هواة السينما، وبعض القاعات في الأحياء التي مازالت تعرض أفلاما سينمائية تسجيلية.
الفضائيات لها موديلاتها لما تسميه بالتسجيلي، وإن أراد السينمائي أن ينال فرصة إنتاجها، أو مجرد عرضها، فعليه التوائم مع هذه الموديلات. والتواؤم المطلوب ليس فقط مع الشكل الفني، أو ما نسميه بـ "الفورمات"، بل مطلوب أيضا التواؤم مع مركزية الثمانية عشر يوما التي أسقطت مبارك، كنهاية للعملية الثورية وختام لها، وليس كبداية لعملية صراع اجتماعي وسياسي طويلة، فيتم الاكتفاء في أغلب أفلامنا التسجيلية ببطولات الثمانية عشر يومًا، المطلوبة إعلاميا ومهرجاناتيا، وكأنها المبتدأ والخبر في جملة مفيدة لعب عليها الإعلام الرسمي والخاص لوأد الثورة مبكرًا، وهو ما يبدو بشكل كاريكاتيري في رمزية المانشيت الرئيسي لجريدة الأهرام يوم 12 فبراير 2011، "الشعب أسقط النظام"، باستخدام الفعل الماضي، التي تنبه إلى زيفها مبكرًا الصحفي كارم يحيي.
بتوازي مع هذه المركزية الزمنية، التي لا أنظر إليها بحسن نية، كانت هناك المركزية المكانية، ممثلة في ميدان التحرير، ليتم تدريجيًا تلخيص الثورة واختزالها فيه، فتحولت أغلب المرويات الفنية المصرية فيما يخص الثورة إلى حيز بضعة مئات من الأمتار في وسط البلد القاهري، تختصر الثورة وترمزها، في تجاهل لعشرات الآلاف من المبادرات والمعارك خارج وسط البلد، وخارج العاصمة.
الفروق بين الحالتين المصرية والتونسية لا تتوقف عند ما هو سينمائي وفني، أو عند سطوة الفضائيات، ونوعية المنتجات التي تطلبها وتقبلها، أو عند مطبات المركزية التي وقعنا فيها، بل تمتد إلى ما هو سياسي أيضًا، ويؤثر في مجمل عملية الإنتاج الثقافي والفني. فالنضالات الفئوية التي يرصدها إلياس بكار في فيلمه التونسي، تم تجريمها عندنا مبكرًا، وتحملت قطاعات واسعة من النخب الثقافية المصرية مهمة وضع علامات التشكيك فيها، وكأنها دخيلة على الثورة، وليست استكمالًا لها، مع غياب للأحزاب والنقابات القادرة على دفع هذه النضالات الفئوية وتقويتها، وحماية من يصنعون أفلاما عنها. بينما في تونس لديهم الاتحاد العام للشغل المستقل عن الدولة، والدافع في طريق نضالات مستقلة يستطيع السينمائي أن يلتقطها ويجعلها مادة روايته.
كسرت ثورة تونس الشرطة، جهاز القمع الأساسي، ولم يكن هناك جيشًا يملك القدرة أو التاريخ كي يحتل كرسي سلطة القمع الشاغر، فحظي السينمائيون وغيرهم بحيز من الحرية الحقيقية، سمح لهم بالعمل والمناورة طيلة سنوات، لكن في حالتنا المصرية كان هناك السلطات الأخرى التي تتصارع على الكرسي ومن اللحظة الأولي؛ النظام القديم، العديد من الأجهزة الأمنية، المؤسسة العسكرية، شبكات رجال الأعمال الفاسدة ببلطجيتهم، والإخوان. مسارنا كان مسار المذابح المجهلة، مسار الرعب ومنع التوثيق الحقيقي والإعلام الثوري.
هو أيضا مسار سيطرة شركات إنتاج أقرب للأجهزة، حاولت احتكار الثورة لصالحها وكأنها "منتج منفذ" لها، ومعبر وحيد عنها، ليظل الكثيرون من السينمائيون بمحاولاتهم على الهامش، هو حصاد ستون عاما من تأميم الثقافة وجلب المثقفين للحظيرة، فتحول وضع الكثيرون خلال بضعة شهور من سينمائيون ثائرون يقفون على ناصية من نواصي التحرير ليشاركوا شعبهم ثورته، إلى سينمائيين واقفين على ناصية البطالة، ممنوعون من العمل، أو مشردون في الخارج، إن لم يشهروا علامات السمع والطاعة، والأهم، علامات الندم العلني على الثورة التي شاركوا بها، وهو موضوع المقال القادم.