تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة
بدون أي صخب، قاد زياد الانقلاب الناعم على كل ما كان معتادًا قبله

صديقي زياد.. كيف بتعمل هيك؟

منشور الثلاثاء 5 أغسطس 2025

دائمًا ما أدهشنا صاحب الحضور الاستثنائي، وصاحب نوبات الغياب التي تمتد أعوامًا. لكنه في غيابه الأخير كان أكثر إدهاشًا، وفجَّر رحيله طوفانًا من المشاعر التي كنتُ أظنها طُمرتْ تحت وطأة ما يناهز عامين من بشاعة أخبار الموت اليومي في غزة. كأنما من بعد غزة جفَّ القلبُ وتوقف عن الخفقان. تقلصت مساحة الحزن المخصص للموت الفردي والفقد الشخصي.

ثم مات زياد.

شلال الحزن الذي فاض من بيروت للقاهرة لغزة ذاتها جمع مريديه في كل مكان. نزل الخبر علينا صدمةً كهربائيةً تُوقظ القلبَ الميت كما يحدث في غرف الإنعاش. ننعي زياد، فنتذكر أنفسنا ومشاعرنا وقصصنا، ورحلات بحثنا عن المعنى.

زلمة شيوعي بيألّف موسيقى

تربع زياد رفيقًا للروح في جيله وفي الأجيال التي تلت؛ يصف نفسه بتبسيط مخل "أنا زلمة شيوعي وبألّف موسيقى"، لكنَّه بالنسبة لنا كان أكبر من ذلك كثيرًا.

مع سبق الإصرار والترصد، كَسر الهالةَ التي ينصبها الفنانون وحتى أنصاف الفنانين حول أنفسهم؛ محا أي مسافة بينه وبين الجمهور. هو موجود دائمًا وقريب جدًا، يتحدث مطولًا ويحكي صادقًا؛ في وثائقي هدوء نسبي يأخذنا الشاب الموهوب ليشرح لنا بحماسٍ أفكاره عن الموسيقى ومراحل صناعتها والتجديد الذي يريد بثه فيها، متهكمًا تحديدًا على حالة الغموض التي تحيط عادة بتأليف الموسيقى. 

https://youtu.be/nF4yr4WTlHM?si=AxMGFXNh1Jq9C6m0

منذ ذلك الحين حمل زياد عصا سحرية يحول بها مفردات الحياة اليومية والسياسة وحكايات الناس؛ حكاياتنا وحكاياته، قطعًا فنيةً متفردةً، وصار هو من يحكي لنا كل شيء. وليس أبلغ مما خاطبته به سحر مندور في رثائها له "فوّتنا على راسك وفتت أنت قعدت براسنا. واستقرت العلاقة على هذه الحال".

بيروت التي وقعتُ في غرامها هي بيروت زياد؛ شارع الحمرا ومطعم البارومتر وبار أبو إيلي والبلو نوت. في كل المرات التي زرت فيها المدينة كان يمكن أن ألتقيه مصادفة في أماكنه التي صارت أماكني أنا أيضًا هناك. كان يعجبني ذلك الاحتمال الوارد جدًا، وإن لم يتحقق.

اللي بيعرج بيمشي

بدون أي صخب، قاد زياد الانقلاب الناعم على كل ما كان معتادًا قبله، بما في ذلك نهج الرحابنة. بكلماته وموسيقاه ورهافة حسه، نفخ من روحه المتوهجة في فيروز، فسطر لها حياة جديدة. بتلك الروح صارت فيروز تغني للصابون واليانسون والكميون فتُبكينا.

حمل زياد تلك العصا السحرية وأنجز كل ذلك الإبداع الفريد من نوعه دون ذرة استحقاق أو تكبر. وظل يحكي لنا كل شيء بصراحة وبساطة وعفوية، وبكل الصدق.

صاحب الحب اليساري حكى لنا عن قصص حبه التي كانت فعلًا "بَلا ولا شي". حكى عن خيباته العاطفية، وعن الخذلان والوحدة. شاركنا تفاصيل مناسبات كتابته لكلمات الكثير من الأغاني، أخبرنا مثلًا عن صبية "كان مغروم فيها" حين كان بعد تلميذًا ينتظر باص المدرسة، مصرية اسمها ليلى، هي عالية التي كتب لها ع هدير البوسطة، ولكن غير اسمها حتى لا يخفيها عن أهله.

حكى لنا ببساطة كيف ثار وقاوم وثابر وانهزم، دون أن يحاضر أو يعظ. فقط ذكَّرنا إن "اللي بيعرج بيمشي.. بس بيمشي أبطأ".

أكيد خسرت.. بس آخر همي

زياد الساخر جدًا الجاد جدًا، المشغول بالإتقان والزاهد في النوم، غير المكترث بأثر صوته الآسر في نفوسنا، يحكي لنا أن الغناء لم يكن جزءًا من مشروعه الفني، وأنه فقط اضطر إليه حين غاب جوزيف صقر. يحكي أنه أراد للشيخ إمام أن يغني أنا مش كافر بدلًا منه.

يدهشنا مجددًا فيكتب كلمات أمريكا مين باللهجة المصرية ويلحنها ليغنيها حازم شاهين، الذي اصطفاه رفيقًا لمشروعه الفني على مدار أكثر من عقد مشيدًا بإحساسه، غير مكترث لسؤال "يعني ما لقيت مطرب لبناني؟".

ببساطة يخبرنا أنه لا يجمع المال، ويتعمد أن تكون أسعارُ تذاكر حفلاته في متناول عموم الناس. "أكيد خسرت.. بس آخر همي"، يقصد خسارات البشر "وقت الحرب خسرت نص لبنان"، وهو ما يَصدُق أيضًا على الخسارات المادية.

https://youtu.be/SQJIaYy39EE?si=sas9n3r3nrMcXsU4

خذلني موقفه من الثورة السورية؟ نعم. لكن لم يكن هذا أول ما تذكرته في لحظة الرحيل. لو أن الحظ أسعدني والتقيته في الحمرا، ربما كنت سأذكّره بأن أول الثورة السورية كان الغناء للحرية، وأول الغناء كان مستلهمًا من ألحانه هو عايشة وحدها (سوريا) بَلَاك. ربما كان سيذكّرني أنه قاطع سوريا الأسد منذ السبعينيات حتى عام 2008، حين قصد دمشق مكتشفًا جمهوره السوري، بعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة.

يحثنا زياد على مواصلة الابتسام حتى وإن أسمعنا أحدهم ما لا يعجبنا، "بدك تعمل مشكل على نكتة بايخة؟ اضحك لأنها بايخة"؛ بعد كل الهزائم، ببساطة يعيد تعريف الانتصار "أنا ما عم جرّب غيّر البلد، ولا عم جرّب غيّر شي. أنا عم جرّب بس ما خلّي ها البلد يغيرني. هيدي وحدا إذا بتظبط معي، يعني انتصار. انتصار لنفسي أوّلًا، وبعدين ع شو ما بدّك".

صاحب لولا فسحة الأمل أوصانا أن نفتش عن الأمل في ثنايا الخيبات "أوقات بيطلع من ملل".

نحاول مثلك يا زياد ألَّا نجعل "ها البلد" وغيره من البلاد يغيرنا، نحاول أن نبتسم في وجه كل النكات البايخة لهذا العالم، نفتش عن الأمل مثل الباحث عن إبرة في كوم القش. لكن كل ذلك سيكون أصعبَ بدونك. سنظل نلتمس قبسًا من روحك المتوهجة في إرثك الساحر.

زياد.. يا رفيق الروح.. كيف بتعمل هيك؟