
يوم وداع زياد الرحباني بكنيسة رقاد السيدة في بلدة المحيدثة بكفيا، قبيل جنازته المهيبة، تلمَّس الشاعر طلال حيدر نعش الفتى كمن يتعلّق بأهدابه. طرقه بيأس، ولام صاحبه، ودعاه للقيام؛ "قوم.. قووم". كررها أربعًا مختنقًا بالدموع والأنين، ثم قبَّل التابوت ومضى.
الفجيعة التي أمسكت بطلال لم تكن فجيعة شخص فقد صديق عمره، لكن فجيعة بشر وأجيال ووطن وزمن وأغان وموسيقى وتمرد وخروج.. إنها فجيعتنا كلنا. وزياد يبدو أنه استمع لنصيحة خليله وقام؛ قام قيامة الفنان في موته؛ قيامة الأبد، حيث لا تعود "ليكن ذكره مؤبدًا" التي تقال في مجالس العزاء رطانة لغوية تحمل وعودًا لن يحفظها أحد، بل تأكيد لما هو مؤكد.
سيظل ذكره مؤبدًا!
لم يمت زياد لحظةً. لأنه وكما لم يغب في حياته، سجَّل في موته حضورًا كاملًا؛ فما إن سُجي جسده الضئيل في النعش حتى أفاق الفتى، انتعش، مسح عن عينيه أثر السُّهاد، وجرى إلى حضن أمه وألقى قبلة، وسلم على أبيه وعمّه، اللذين أكمل مجدهما بخروجه عليهما.
لم يكن زياد رحبانيًّا ثالثًا بل قمة هرم ضلعاه والده وعمه.. أعلى الذرى كان.. نقطة التقاء الإبداع والشجن بموسيقى الضيعة والجداول والطبيعة والعصافير والجبال والمطر بالخروج والتمرد والصراخ والسخرية والحقيقة.
وفيروز تمثلت كل شيء. أي أمٍّ هي؟!
مظاهرة كاملة في يوم موته وما تلاه؛ مئات المقالات، آلاف المرثيات، عشرات الآلاف من النقرات على أغان ولقاءات، اكتشافات جديدة لمن اندهش أن هذه الأغنية لفيروز أو غيرها هي لزياد ومحسوبة على الرحابنة.
شبان وشابات ربما أصبحوا آباءً وأمهات أو أجدادًا وجدات، سمعوا بالنعي فعرفوا أن زمنًا مضى؛ زمن "بحبك بلا ولا شي"، زمن الحب اليساري الذي ولا ممكن فيه ليرات، ولا ممكن فيه أراضي، ولا فيه مجوهرات. هل مضى كل شيء ولم نرث إلا الهزائم والموت والقتل والعالم المدجج بالمال والمادة التي تحرمنا حتى من شجرة نستظل بفيِّها ونحن نظنُّ مثل زياد -خطأً- إنو "مش لحدا هالفي"؟!
حزن عشناه جميعًا، كلّ مع حاله فردًا، وكلنا جماعة؛ حال الأوطان وغزة وحرب الإبادة.. كان زياد فوهة بندقية ولسانًا حادًا وقلبًا قويًا بلغ من الرقة والهزال ما بلغ من العنفوان والعاصفة. حضوره وغناؤه وكلامه دائمًا على مستوى اللحظة؛ أسعفنا في كل وقت وظرف.. ربما نختلف مع تقديره في قضايا وانحيازات.. لكننه نحترمه لأننا دائمًا نختلف معه، لا مع من يُسيّره!
سخر زياد من كل شيء، من نفسه أولًا، ومن عائلته، هدم كل كهنوت حاول الإمساك به؛ عاش حرًا ومات حرًا، فودعناه كما أحبَّ في الهواء الطلق والفضاء الذي اعتمرته أغانيه وموسيقاه بكل أطوارها؛ سواء بفيروزياته أو غيرها.
ندعوكم في المنصة للتنزه في حدائق زياد الرحباني، مصدقين في وعوده بأنه لن يتركنا أبدًا؛ وإن غاب قليلًا فنحن في الانتظار، فهو من وعدنا إنو بكرا بيرجع يوقف معنا، وإذا مش بكرا الـ بعده أكيد. بنحكيك وبنعرف إنك سامعنا، حتى لولا الصوت بعيد.