هذا أسخف أعمالك يا زياد!

لماذا نحب هذا الساخر المتشائل المتألم؟

منشور الاثنين 4 أغسطس 2025

في السادس والعشرين من شهر يوليو/تموز الماضي، فُجع العالم العربي بخبرٍ لم نحسب حسابه، ولم نتوقعه رغم أن كل حي زائل ولا دائم إلا وجه الله: وفاة زياد الرحباني.

اختلطت بداخلي مشاعر تتراوح بين الإنكار والصدمة، إلى الغضب، ثم الرغبة في الوصول لرقمه والتشاجر معه، إلى الحزن الأسيف، إلى الضحك على هذا "المقلب" الساخن. خبر لم أنتظره ولم أتوقعه، ولم أرغب في سماعه.

غادر مبكرًا عن عمر يناهز التاسعة والستين، بعد مشوار فني حافل، ثري، غزير، متطور، متفرد، مختلف، متجذر، دامَ لمدة تزيد عن 55 عامًا. نعم، كما قرأت، بدأ مشواره الفني الاحترافي وهو أقل من 14 سنة، ليس كما يبدأ الناس عادةً؛ محاولات، وتجارب، ثم نضج. بل بدأ طفلًا ناضجًا وكبيرًا.

الحديث عن زياد شديد الصعوبة رغم سهولة الرجل. هذا النحيل صغير الحجم، يمثل عدة وجوه وزوايا، ويؤثر على أجيال من الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج، بدءًا من شباب السبعينيات وحتى شباب الألفية. لكن جمهوره دائمًا شاب، حتى من أصبح كهلًا، يعود به زياد إلى الشباب.

يتنازل الأب عن مكانته

بدأ زياد مشواره بتأليف ديوان شعر صديقي الله في أواخر الستينيات، أي وهو بين العاشرة والحادية عشرة من عمره، وصدر عام 1971. وكان ينبئ بمشروع شاعر كبير لولا انشغاله بتأليف الموسيقى، والتأليف والإخراج المسرحي، والتمثيل، وبرنامجه الإذاعي، والمقالات السياسية، والنضال المعادي للطائفية والظلم الاجتماعي والإمبريالية، ونضاله في دعم قضايا التحرر الوطني، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

أول عمل فنِّي لزياد خرج إلى النور عام 1971، ضلّي حبيني يا لوزية من كلماته وألحانه وغناء خالته هدى حداد، وهو في الخامسة عشرة. استقبل الجمهور الأغنية بترحاب، محتفيًا بانضمام عضو جديد لمجموعة الرحابنة. دخل منظومة عائلته الفنية التي أحبها الناس وفتنوا ببساطتها ونقائها وملائكيتها وأجوائها المبهجة الملونة المضيئة، التي تبث الحلم والحب في نفوس جمهورها.

غير أن زيادَ بادر إلى تحدي توقعات الجمهور، والأسرة أيضًا، حين ألَّف مسرحية سهرية، ليعلن بشكل مبكر وصادم خروجه من عباءة الرحابنة، وتقديم نفسه بوصفه زياد وفقط.

أعدَّ زياد المسرحية في عام 1972، أي بعد عام واحد من استبشار الجمهور خيرًا بنمو الكيان الرحباني، حيث ألّف النص ووضع الأغاني والألحان، وقدم العرض بإخراج المخرج المسرحي اللبناني الكبير نيقولا أبو سمح، وبطولة عدد كبير من الفنانين الذين لا ينتمون إلى فرقة الرحباني.

تدور أحداث المسرحية التي عُرضت للمرة الأولى عام 1973 حول صاحب مقهى يغني للزبائن، تقدّم العمر به فراح يبحث عن خليفة له، حتى ظهر شاب صوته أجمل لدرجة جعلت الغيرة الفنية تستبد بصاحب المقهى، فأنكر عليه موهبته. وأخيرًا، بعدما وقعت ابنة صاحب المقهى في حب الشاب، يتنازل الأب عن مكانته.

رغم بساطة القصة، ورمزيتها، ورغم أن زيادَ قدم قوالبَ موسيقيةً أقرب إلى الأرض والواقع، لا ينكر فيها تأثره بوالده دون إغفال الروافد الموسيقية الأخرى التي تأثر بها عربية ولبنانية وغربية؛ فقد حقق العمل نجاحًا باهرًا، وراجت العديد من أغنياته التي تحيا معنا حتى هذه اللحظة، مثل أغانيه الأشهر؛ دلّوني على عيونه السود، والحالة تعبانة يا ليلى، وغيرهما.

https://youtu.be/o-TWNFumBS0?si=Lk7wX7iGFZOMcSmY

كانت مسرحية سهرية هي التعاون الأول بين زياد الرحباني وصديقه ورفيق رحلته الفنان جوزيف صقر، الذي كان صوته المُعبِّر عن كلمات وألحان زياد في جل مسرحياته التي تلت هذا العمل.

بينما كان الناس يشاهدون المسرحية في تعجب من ثورته المبكرة على والده، كان الابن يكتب مسرحيته الثورية نزل السرور، التي قدمته مؤلفًا وملحنًا وممثلًا وثوريًا، بل ومتنبئًا بالحرب الأهلية اللبنانية وهو بعد في سن السابعة عشرة.

في إطار كوميدي سوداوي، يحذر زياد اللبنانيين من الاستمرار في خداع أنفسهم بالسعادة الزائفة، بينما النار تحت الرماد تكاد تُفجِّر الوضع، مبشرًا بمقتل الجميع إذا لم ينتفضوا بالثورة التي ستنقذهم من التحزبات الطائفية، في مشهد النهاية الرمزي حيث يموت الكل ولا يتبقى سوى المحشش والراقصة.

لم يكن للعرض مخرجٌ معلنٌ، واعتمد زياد الرحباني على أن يُخرِجَ النصُ نفسَه. عُرضت المسرحية عام 1974، أي قبل عام واحد من نشوب الحرب الأهلية. قوبل العرض في حينه بردود أفعال متباينة، بين الصدمة والإعجاب والهجاء، فقد أمسك زياد بمرآة ضخمة ووضعها أمام المجتمع اللبناني ليرى نفسه بوضوح.

لم يكن فنًّا مُلطَّفًا ولا مُخففًا، ولا مستدعيًا لماضٍ تليد ولا محفزًا على الأمل، بل صفعة قاسية ونداءات مقرعة لا تخفف الخبر المشؤوم، وهو توجه معاكس تمامًا لما تبناه الرحبانة في مسرحياتهم. لم يخفوا الحقيقة، لكنهم لم يصفعوا الجمهور، ولم يجعلوه يغادر مسرحياتهم مصابًا بالهلع.

منذ تلك السنة، وزياد الرحباني يقوم بدور زرقاء اليمامة التي تستخدم لهجة قاسية، تفسد على الناس استمتاعهم بالحياة وهم يجلسون في المطاعم، محذرًا من "فاتورة الغدا"، مستعدًا لدفع أثمان الهجوم عليه، أولًا، ثم التنبه لصدق نبوءاته بعد وقوع الطامة.

https://youtu.be/uE3MZqxL670?si=ES8zd0OmGZPBaSFK

طفل يشرب الموسيقى بنهم

حين أقول زياد الرحباني، أتصور في مخيلتي طفلًا جميلًا، يضع فمه في صنبورٍ يُغذِّي عدة خراطيم تستقي حليبها من ضرع الموسيقى العربية والشعبية والشرقية والغربية الكلاسيكية والجاز والبلوز والفانك والروك والموسيقى اللاتينية والكنسية والتواشيح الإسلامية. والطفل يشرب بنهم حتى يمتلئ، فيصبح جسدًا ضخمًا بوجه طفل.

لم أندهش حين قال قبل سنوات من وفاته إنه تأثر بالشيخ إمام ورغب في أن يغني ألحانه لولا مدير أعماله التونسي الذي حال دون ذلك. وكانت معلومة قديمة بالنسبة لي حين قال إنه تأثر بشدة بأعمال والدي الشاعر أحمد فؤاد نجم، وإنه يحب كل أعماله، لأنني كنت أعلم برغبة الطرفين؛ زياد ونجم، في التعاون الفني. وقد خططا عدة مرات لمشاريع أبى القدر أن تتحقق، لحكمة لا يعلمها إلا الله.

على سبيل المثال، وافق زياد على تلحين أوبريت "لولي" الذي ألّفه والدي، وحددا موعدًا للقاء في بيروت. ثم تفجّرت الحرب التي طالت حتى حالت بينهما، فمضى العمل بألحان عمار الشريعي. في مرة أخرى، كان هناك مشروع للتعاون في ألبوم للفنانة لطيفة، لكن المشروع تأجل، وظل والدي في انتظار مكالمة زياد ليبدأ العمل حتى توفاه الله. 

في برنامج معكم، أوشك زياد أن يحكي عن مقابلاته مع أبي الشاعر أحمد فؤاد نجم، غير أن الأستاذة منى الشاذلي قاطعته قبل أن يُسهب في الحديث. قد يكون ذلك لأسباب أمنية، وربما لفكرة خطرت لها وارتأت أن تسأل فيها محولة دفة الحديث.

على أي حال، هذا قدر الله الذي وقف أمام رغبة الطرفين الملحة في التعاون، ربما لأن البشرية لا تتحمل كل هذا القدر من الصعلكة والصراحة في عمل واحد. 

في عام 1973، قدم لحنًا بسيطًا شرقيًا جميلًا، حمله لنا صوت فيروز ليقدم تحية لعاصي الرحباني في مرضه "سألوني الناس عنك يا حبيبي"، واضعًا كلماته عمه الفنان العظيم منصور الرحباني، الذي لم يكن على وفاق مع ابن أخيه، الذي بادر بالهجوم عليه متهمًا إياه بالدخول في عباءة السلطة.

https://youtu.be/iQG9HuLtzbI?si=lQWK3ZU9iZvOt7Bo

غير أن زيادَ قدم أعمالًا موسيقية في إطار الرحابنة، مراعيًا أسلوبهم المتبع، ومتماشيًا مع نهجهم الفني، دون الإخلال بإصراره على الاختلاف. فألفَّ مقدمة مسرحية ميس الريم، ولحَّن أغنيات مثل نطرونا، وحبّوا بعضن، وقديش كان فيه ناس، وغيرها من الأعمال التي لا تجرح السياق الجمالي الذي يحبذه الرحابنة في أعمالهم.

لكن بعد انفصال فيروز عن عاصي، وعن مشروع الرحابنة الفني عام 1979، اقتنص زياد صوت أمه ليُحمِّله ما لم يتوقعه أحد. فيروز التي مثلت للعالم العربي الصوت الملائكي، أو كما قال عنها عبد الوهاب إنها "صوت قادم من السماء"،  أخرجها زياد من فردوسها الأعلى ونزل بها إلى الساحات والمقاهي.

أطلق الطفل سراح أمه لتعبّر عن نفسها كامرأة في منتصف العمر، ضاعت زهرة شبابها في خدمة الأولاد والزوج ذي الشخصية القيادية، وهي الآن تبحث عن نفسها في مشاعر متضاربة ما بين الخجل والرغبة في تعويض ما فات، والحنين إلى الألم المعتاد في حياتها السابقة، وتبلور ذلك في ثاني ألبومات زياد لأمه: معرفتي فيك.

ضم الألبوم مجموعة أغنيات تشعر وأنت تسمعها بأن زياد يكتب أمه بكل ما استشعره من آلام عمرها. واستُقبل، كالعادة، برفض واسع. هدم زياد صنم فيروز المقدّسة، وقدمها في كلماته وكلمات جوزيف حرب، وفي ألحانه، كإنسانة مجروحة متشبثة بما تبقى لها من حياة. متألمة لوطنها الذي تدين له بالولاء بلا طوائف.

ورغم الهجوم الكاسح، كان النجاح كاسحًا، حيًا، متواصلًا: عودك رنان، ما قدرت نسيت، لبيروت، خليك بالبيت، رح نبقى سوا.

https://youtu.be/KU0_PZecMKo?si=L4sSMlr2sENk3kTx

أشواك السياسة

زياد الرحباني كان شيوعيًا واضحًا بلا مراء، منحازًا للفقراء بلا جدال، مناهضًا للاستعمار بلا مواءمات، محاربًا للطائفية بلا حسابات، كاشفًا مكنوناته بلا حياء، فاضحًا نوايا الجميع بلا توجس.

انضم للحزب الشيوعي في سن مبكرة. ولم يتوانَ عن الهجوم على آلياته وتأخره في تطوير خطابه ونسق عمله على الأرض. تحالف مع المقاومة في الجنوب ممثلةً في حزب الله. لكنه لم يتأخر عن الإشارة إلى الميول الطائفية لدى الحزب وتجاهله للإسهام اليساري في المقاومة الجنوبية. بل وسخر من الطرفين حين قال بأن الحلف بين الشيوعي والشيعي حب من طرف واحد.

فاجأ الناس برأيه في حركة المقاومة الإسلامية حماس، التي شكك في منبتها ونواياها رغم دعمه للمقاومة الفلسطينية. لم يفهم الكثيرون موقفه المركب من حماس التي يكرهها ويتشكك فيها، لكنه يدعم مقاومتها، ولا يسمح بالتقليل من حق المقاومة. تركيبة أفهمها شخصيًا، وربما يفهمها من يستطيعون تبنّي مواقف مُركّبة.

ثم عاد زياد ليصدم الناس ثانيةً حين أعلن في وقت مبكر رفضه للحراك السوري، ووصفه بـ"الطائفي" الذي سيؤدي إلى فوضى، متنبئًا بكل ما تلا الثورة ومستعرضًا مستقبل سوريا حتى وصل إلى ما آل إليه مؤخرًا، في دقة أذهلت الناس.

تعرض زياد لمغريات وتهديدات عدة، لم تفلح في إسكاته، أو في دفعه إلى حساب الحسابات قبل أن ينطق. لم يعبأ بغضب الجمهور حين يواجهه بما يكره من حقائق، لم يقلق من الفصل من الحزب الشيوعي لأنه ينتقده بشدة، لم يخشَ جمهور حزب الله حين وضعه أمام مرآة طائفيته. بل لم يكترث بصدمة جمهوره هو، الذي تربى على كلماته وألحانه واعتبره متحدثًا ثوريًا باسمه، حين ناهض زياد فعلًا رأوه ثوريًا، وانحاز لطرف قمعي؛ بشار الأسد.

تمامًا كما ضحك ملء قلبه حين عُرضت عليه مبالغ خيالية، لم تُعرض على سواه، للتحكيم في برامج المواهب في قنوات طالما هاجم مُلاكها ومن يقف خلفهم.

"ع صرمايته" رأي الجميع، وقوة الجميع، بل وحب الجميع.

ولهذا، نحن نحب زياد الرحباني.

نحن لا نحب زياد لأنه يتحدث "بناء على طلب الجماهير".

نحن لا نحب زياد لأنه "يُسلي الجماهير".

نحن لا نحب زياد لأنه "يسهر من أجل إسعاد الجماهير".

نحن نحب زياد لأنه لا يكترث بكل ذلك.

ولأنه لا يكترث بكل ذلك فقد مات دون موافقتنا، رافضًا التشبث بالحياة، لافظًا استقبال العلاج؛ هكذا بكل بساطة لملم مبعثراته وتركنا مصدومين كما اعتاد أن يصدمنا في كل مرة.

والله هذه أسخف أعمالك يا زياد.


(*)"المتشائل" في العنوان الفرعي هي دمجٌ لغوي بين المتضادين؛ "المتفائل" و"المتشائم"، أبدعه الأديب الفلسطيني إميل حبيبي في عنوان روايته الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل.